“كان طفلاً رائعاً يفوق الوصف والخيال. أطرح على نفسي يومياً أسئلة كثيرة: لماذا رحل أيزاك؟ لماذا هو؟ لماذا كان هو الضحية؟ لم يكن يستحق ذلك”… بهذه العبارات تستكر سارة كوبلاند، طفلها أيزاك – كان في عامه الثاني – الذي قضى مع أكثر من 200 شخص آخرين، بتفجير دمّر أحياء عديدة من العاصمة اللبنانية بيروت في 4 آب العام 2020.
- أيزاك طفل العامين كان يجلس على كرسيه بينما اخترق الزجاج صدره
- عام مر على تفجير مرفأ بيروت ولم يصدر أي قرار قضائي يحدد مَنْ المسؤول
- سارة كوبلاند تعمل لإنشاء لجنة تقصّي دولية في ظل اهتراء الجسم القضائي اللبناني
تقول سارة لـ”أخبار الآن” إنّ “أيزاك كان طفلاً إستثنائياً، مميزاً جدّاً، وصاحب ذكاء حادّ، حنوناً، وكان يحب أن يعانق الجميع ويتحدّث إليهم عندما كنا نتمشّى في أحياء بيروت… كان يحب الفراشات، فقد كان يلاحقها عندما كنّا نذهب إلى الحديقة، كما كان يحب الهررة الموجودة بكثرة في بيروت، وكان يمضي وقته في ملاحقتها. لقد كان صبياً مميزاً حقّاً، فعلاً كان النور الذي يضيء حياتنا”.
تستعيد سارة تلك اللحظات التي عاشتها في بيروت كشريط يمر أمامها، قائلةً: “كان ذلك اليوم عادياً بالنسبة إلينا، فقد كنت أعمل في المنزل بسبب جائحة كورونا، وأمضى أيزاك نهاره في روضة الأطفال التي كان يحبها. في المساء كان جالساً في كرسيه المرتفع يتناول العشاء كما كان يفعل دائماً، وكنت جالسة بالقرب منه، وكان والده في غرفة أخرى، ثمّ سمعت صوت انفجار قوي ولم أكن واثقة من طبيعته، فهرعت إلى النافذة لأنظر إلى الخارج لكنّني لم أتمكن من رؤية شيء حينها، لأن شقتنا كانت تقع في منطقة غير مطلّة على المرفأ، لذا لم أرَ الدخان المتصاعد من الحريق أو ما شابه”.
تتابع: “ذهبت كي أرى ما الذي يحصل لكنّني لم أستطع أن أرى شيئاً، فعدت إلى حيث أيزاك موجود وعندها حدث الإنفجار الكبير. كنت حاملاً في الشهر السابع تقريباً وقد سقطت أرضاً على الفور، بينما كان أيزاك جالساً في كرسيه العالي الذي قُذف إلى الجهة المقابلة من الغرفة، لكنّه بقي مستقيماً. لكننا اكتشفا أنّ أيزاك أصيب في صدره بقطعة زجاج”.
وتقول في حديثها لـ”أخبار الآن“: “في البداية لم نكن واثقين من طبيعة الإنفجار، ولم نكن نعرف ما إذا كانت المدينة تتعرض للقصف أم لهجوم إرهابي، فخفنا أن يكون هناك إنفجار آخر، ففكرنا أوّلاً باللجوء إلى الحمّام لأنّه قد يكون المكان الأكثر أماناً في حال حدوث انفجار ثانٍ، وهناك أدركنا مدى خطورة إصابة أيزاك، لم نرَ مدى إصابته قبل لجوئنا إلى الحمّام، وعندها عرفنا أنّه علينا أن نطلب له العناية الطبية، فهرعنا إلى الخارج وأخرجناه من الشقة. حاولنا أن نضغط على صدره، خرجنا مسرعين وعندما خرجنا إلى الشارع، رأينا حجم الدمار الكبير، فقد كان الشارع أشبه بساحة حرب، كان ذلك مروّعاً”.
سارة كوبلاند: كانت شوارع بيروت أشبه بساحة حرب، وكان المشهد مروّعاً
تضيف: “تمكّنا من إيقاف سيارة كان يستقلّها رجل بصحبة زوجته وإبنتيه الصغيرتين، فتوقّف وأقلّنا إلى المستشفى… إنّني أفكر دائماً بهذا الرجل كثيراً لأنّه لم يكن يتحدث الإنكليزية ونحن بالكاد نجيد اللغة العربية، لكنّه عرف أنّنا بحاجة للذهاب إلى مستشفى بأسرع وقت ممكن، فقام بكلّ ما بوسعه وقاد السيارة في الإتجاه المعاكس للسيارات ليتمكّن من الإسراع قدر المستطاع، لكن أيزاك كان فارق الحياة بعد بضع ساعات في المستشفى”.
عام مر لكن لا شيء تغيّر
عام مرّ على تفجير مرفأ بيروت الذي بدّل معالم المدينة، وهو قد صنّف كأحد أكبر الإنفجارات غير النووية في العالم. نجم ذلك التفجير عن 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم كانت مخزنة في العنبر رقم 12 في المرفأ، وقد وصلت أصداؤه إلى الدول المجاروة، فيما ألحق دماراً ضخماً في المرفأ ومعظم أحياء مدينة بيروت.
وفي إحصاء نهائي، فقد أسفر التفجير الذي أطلق عليه أيضاً مصطلح “بيروتشيما”، عن مقتل 213 شخصاً، وجرح أكثر من 6500 آخرين، فيما تصرر نحو 67 ألف وحدة سكنية، وبات نحو 300 ألف شخص بلا مأوى. وقدّرت الخسائر المادية بما بين 10 إلى 15 مليار دولار أمريكي.
“لا ثقة القضاء اللبناني”، على اعتبار أن السياسة تنخر جسمه بقوّة، وبالتالي فثمّة تشكيك في إمكانية التوصّل إلى حقيقة ما حصل أو حتى محاسبة أي مسؤول سياسي أو أمني بارز. ومن هنا فقد انتقدت جهات دولية عديدة التأخّر في صدور نتائج التحقيق، الذي وعد الرئيس اللبناني ميشال عون عقب الإنفجار بإجرائه خلال 5 أيّام، لكن المهلة أرجأت مرّات ومرات حتى أتت الذكرى السنوية الأولى للتفجير. وقد وُجهت دعوات للأمم المتحدة من أجل إنشاء بعثة تحقيق دولية في التفجير، لكنّ السلطات اللبنانية كانت دائماً ما ترفض إجراء تحقيق دولي.
سارة كوبلاند: التحقيق اللبناني لا يمكن أن يتوصل إلى العدالة بسبب النظام السائد
سارة كوبلان وهي أسترالية الجنسية، ليس والدة أيزاك فقط، فهي تعمل حالياً مع مجموعة تسمّى “ليغل أكشن وورلدوايد”، والتي تعمل بالشراكة مع منظمة هيومن رايتس ووتش، وتوضح: “نحن ندعو مجلس حقوق الإنسان إلى إصدار قرار للدعوة للجنة تقصّي حقائق مستقلّة في التفجير. إنّنا نعتقد بشدّة أنّ التحقيق اللبناني لا يمكن أن يتوصل إلى العدالة بسبب النظام السائد، فحتى لو كان هناك قرار ليس هناك من مجال للتمييز”.
وتتابع: “إذاً الحق بالتقدم بطلب التمييز لدى المحكمة ليس موجوداً، وهذا انتهاك لكلّ المعايير الدولية. كما أنّ كلّ النواب السابقين والحاليين يتمتعون بحصانة وهذا أمر غير مقبول. هذا يعني أنّه ستتمّ محاكمة الموظّفين الصغار فقط، وذلك أيضاً غير مقبول. لذلك نعتقد أنّ التحقيق اللبناني لن يحقق العدالة التي يستحقها أيزاك وكل الضحايا الآخرين بسبب الإهمال، الذي سمح بتخزين نيترات الأمونيوم في المرفأ لسنوات طويلة، وفي ظروف سيئة جدّاً وسط منطقة سكنية، وبالتالي فنحن ندعو مجلس حقوق الإنسان إلى أن يصدر قراراً بإنشاء لجنة تقصّي حقائق مستقلة، لأنّه قبل أن نتحدث عن العدالة علينا أن نعرف ما حصل فعلاً، وحتى اليوم نحن نجهل ذلك”.
أيزاك الذي ولد في نيويورك – أسترالي الأصل – كان من المتوقع أن يعود وعائلته إلى أستراليا بعد الإنفجار بثلاثة أسابيع، لكن حياته انتهت في يوم الرابع من أغسطس، ورحل كما الكثيرين، تاركاً خلفه مجموعة صور وذكريات.
شاهدوا أيضاً: قمر تبصر النور يوم تفجير مرفأ بيروت والمكيف ينقذها
https://www.youtube.com/watch?v=NShCqFF1o-E