تمر الجزائر أسوة بدول شرق أوسطية عديدة بتغيّرات سياسية وتحدّيات إقتصادية كثيرة، وذلك توازياً مع ما تشهده المنطقة من مستجدات.
- المسؤولون في الجزائر لا ينوون إعادة التفكير بنموذجهم الإقتصادي
- معدّل البطالة لدى الشباب الجزائري مرتفع جدّاً ويمنع عليهم التظاهر
- البيروقراطية ساهمت بشكل كبير في تفشي الفساد
- النظام العسكري لا يتمنّى أن تصبح الجزائر أكثر إنفتاحاً على العالم
- الصين اليوم باتت تملك حصة في الإقتصاد الجزائري وكذلك شأن تركيا
- الصين لعبت على وتر الفساد لتعزز نفوذها الاقتصادي في الجزائر
في الجزائر هناك بعض الشؤون غير المشجّعة، وبعض الشؤون الأخرى التي تشبه أمور بلدان ثانية. فأوّلاً، نعلم أنّ الحراك المدني الذي نظّم تظاهرات في البلاد في العامين 2019 و2020، والذي نادى بالديمقراطية وحشد الملايين في شوارع العاصمة الجزائر في تظاهرات سلمية في العام 2019، قد سقط ضحية القمع الفعّال ووباء كورونا الذي اجتاح العالم. فهذا الفيروس أجبر البلاد، كما باقي دول العالم، على إقفال حدودها وأدّى إلى منع التظاهرات، فيما كان القمع قوياً جدّاً، فتمّ بالتالي تفادي سقوط ضحايا والمزيد من التعذيب، لكن ذلك لم يمنع الجيش والأجهزة الأمنية من مواصلة التنكيل.
في الوقت نفسه، بما أنّ المسؤولين الجزائريين لا ينوون إعادة التفكير بنموذجهم الإقتصادي، تبرز أسئلة كثيرة لأنّهم على هذا المنوال لن يتمكنوا من إعادة التفكير بنموذجهم الإقتصادي والإجتماعي، الذي يحتاج إلى صياغة جديدة علماً أنّ الجزائر ليست البلد الوحيد الذي يواجه مشاكل كبيرة، فالدولة مهيمنة على كلّ القطاعات، والبيروقراطية مسيطرة والفساد متفشٍّ.
أمّا الثالثة وهي الأهم، فإنّ الجزائر أكبر بلد أفريقي ولديها إلى جانب مصر أقوى جيش في القارة السمراء، كما تملك حدوداً تثير إشكالية ليست كبيرة مع المغرب بالرغم من بروز توتّر بين الحين والآخر، إلّا أنّ الحدود مع ليبيا ومالي وبلدان الساحل هي أكثر إشكالية، لأنّ ليبيا لم تنعم بالإستقرار بعد، وكما نعلم تنسحب القوات الفرنسية ببطء، وربّما ستنسحب بسرعة من مالي علماً أنّ الجزائر تملك حدوداً طويلة جدّاً مع مالي والنيجر في مناطق تصعُب مراقبتها، وبالتالي تشعر الجزائر بتهديد من الوجود الفرنسي ولا تصدّق أن فرنسا والغرب هم المقاتلون الأبرز للجهاديين، فالجزائريون يعتبرون كما بعض الخبراء في فرنسا، أنّ الوضع أكثر تعقيداً في الساحل.
لكن يمكن اعتبار أنّ تعيين رمطان لعمامرة وزيراً الخارجية، وهو حتى العام 2019 كان ألمع الديبلوماسيين الجزائريين، خبر سار بالنسبة للبلاد، فهو صاحب مهارات عالية ولديه خطوط تواصل مع الروس والأمريكيين والفرنسيين، وبالتالي قادر على إيجاد توازن بين المصالح المتنافسة بين الجانب الفرنسي والأميركي والروس وبعض دول الخليج في بلدان الساحل، أي النيجر ومالي وتشاد.
أمّا على صعيد النفط والغاز، فقد ارتفعت عائدات التصدير بنسبة 45 % في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، ما سمح للجزائر بالمضي قدماً في بعض المشاريع الأساسية، مثل تشييد مصنع لإنتاج البوليبروبولين ومشاريع مهمّة أخرى، لكن النقطة الأهم للمستقبل تتجلى في اكتشاف 18 حقلاً جديداً من النفط والغاز العام الماضي، ما يسمح للبلاد بتحديث حجم الموارد الهيدروكربونية الموجودة، فهي اليوم أكبر بضعفين ونصف ممّا كان معروفاً في العام 2019. وبالتالي يتعيّن على أيّ دولة منتجة للنفط والغاز أن تحدّث معلوماتها عن حجم الإحتياطي الموجود لديها.
وفي ما يتعلق بالجزائر، يُعتبر هذا التحديث والإرتفاع الذي تلى اكتشاف الإحتياطي الجديد، والذي تضاعف بنسبة ضعفين ونصف في غضون سنتين، بالغ الأهمية لأنّه في عدة مناسبات صرّح مراقبون أنّ الإحتياطي الجزائري يتضاءل علماً أنّ شركة سوناطراك النفطية لم تكن تتمتع بإدارة جيدة في السنوات العشرين الماضية، وتثير أرباحها بلبلة كبيرة، لكن العام الماضي أصدرت الهيئة العامة للمجلس قانوناً يسمح بإقامة مشاريع مشتركة مع شركات أجنبية، وهذا مهم للغاية من أجل البحث عن حقول نفطية جديدة وتطويرها وجعل المشاريع المشتركة أسهل بكثير ممّا كانت عليه خلال السنوات الـ 15 الماضية. إذاً على مستوى النفط والغاز، الوضع أفضل ممّا كان بإمكاني توقعه وهذا مهم جدّاً.
الفساد متفشٍّ في الجزائر
إنّ الفساد متفشّ على مستويات عديدة في الجزائر، فقد سُجّل في صفقات شراء الأسلحة وأبرزها مع روسيا وبعضها مع ألمانيا، وفي عقود النفط والغاز، لكن هذا السؤال مهم للغاية لأنّه من الصعب أن نقيس إنْ كان الفساد في الجزائر أكثر تفشياً مما هو عليه في المغرب المجاور، فهو متفشّ كثيراً في مصر وبلدان شرق أوسطية أخرى أيضاً.
ففي بلد كالجزائر بالكاد هناك مساءلة، والأرقام الوطنية لا تُنشر بشكل دوري حتى أنّ الحكومة لم تنشر الأرقام الأساسية المتعلقة بالإقتصاد خلال الأشهر الستة الماضية.
كما أنّ أيّ تفصيل متعلّق بعقود كبيرة لا يُنشر على الملأ ولا يُرسل إلى مجلس النواب الذي يُعتبر “كدمية”، وبالتالي من المستحيل أن نعرف التفاصيل. وفي العامين 2019 و2020، فإنّ الكثير من الشخصيات الفاسدة خلال عهد الرئيس بوتفلية قد طُردت من عملها وخسرت شركاتها، وانتهى بها الأمر في السجن.
أمّا السؤال عمّا إذا كان الفساد قد تراجع، فيبقى من دون جواب لأنّنا لا نعلم بكلّ بساطة، لأنّ الأمر بدا حينها أنّه جزء من تسجيل أهداف سياسية من أجل سجن بعض الفاسدين، ولكن إنْ لم تتغير العملية الإدارية، وإنْ بقيت الصحافة غير حرّة كما يحصل اليوم في الجزائر، حيث تراجعت حرية الصحافة عمّا كانت عليه منذ 25 أو 30 عاماً، وإنْ لم تكن المحاكم موضع ثقة في مجال تحقيق العدالة، فإنّه من المستحيل أن يستقيم الوضع لأنّه على هذا المنوال، فمن المستحيل أن نعرف مدى تفشي الفساد.
ليس هناك من مسؤول واحد، فالمسؤولية تقع على النظام. فالضباط في الجيش مثلاً يتصرّفون غالباً من دون عقاب، شأنهم شأن كبار المسؤولين الأمنيين، ولكن الأمر يعود لعقود طوال منذ نيل الجزائر استقلالها في العام 1962، وخلال السنوات الـ 20 الماضية في عهد الرئيس بوتفليقة، حصل تطوّر تجلى ببروز طبقة جديدة من أصحاب المشاريع الفاحشي الثراء بين ليلة وضحاها، وبعض أصحاب المشاريع في الجزائر مثل مجموعة “كيرا” الصيدلانية، ومجموعة “ربراب” التي تعنى بكل أنواع السلع الإستهلاكية، وقد بنوا إمبراطوريات صناعية فعلية بفضل حسّهم القيادي وهم ينتجون سلعاً صيدلانية وأخرى متعلّقة بقطاع المأكولات مثل “ربراب”. إذاً يساهم هؤلاء كثيراً في الإقتصاد لدرجة أنّ مستوى الفساد ليس مزعجاً. وكان هناك آخرون مقرّبون جداً من شقيق الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة سعيد، الذي كان يؤمّن الغطاء لكل المخادعين.
وهؤلاء كانوا قد سرقوا أموالاً طائلة بين العامين 2000 و 2019 فيما كان سعر برميل النفط مرتفعاً. فسرقوا عشرات مليارات الدولارات التي لم تخضع للمساءلة حتى الآن، لأنّه لو حصلت محاكمة جدّية لهؤلاء في البلاد، وهذا لم يحصل حتى لو أنهم أُدينوا، لكان قد تمّ استدعاء كل أنواع الشهود علماً أنّ الرئيس الحالي كان والياً لمناطق عديدة وكان رئيس وزراء، وبالتالي لربّما كان قد استُدعي هو أيضاً، ومن هنا نفهم أنّه من المستبعد أن تحصل تحقيقات قضائية مجدية، وهنا أريد أن أذكّر بأنّ الجزائر ليست فريدة من نوعها في المنطقة من ناحية الظلام والضبابية المطبقة على سير كلّ الأمور.
معدّل البطالة لدى الشباب الجزائري مرتفع جدّاً ويمنع عليهم التظاهر
أظن أنّ الكثير من الشبان الجزائريين عاطلون عن العمل، فمعدّل البطالة مرتفع جداً، ولكن من جهة أخرى تخضع السلع الأساسية والمحروقات وما شابه للدعم لأنّ الدولة ما زالت تملك المقدّرات التي تسمح لها بذلك، ما يشكل رادعاً للإستياء الشعبي علماً أنّه يُمنع على الشباب التظاهر.
والجدير ذكره أنّ التظاهرات في العام 2019 استمرّت لأسابيع طويلة، لا بل لأشهر، وبالرغم من أنّ المشاركين كانوا مواطنين من كافة الأعمار، فكانت هناك عائلات بكاملها، كباراً وصغاراً، وكان عدد الشباب ملحوظاً جدّاً، وكانت الشعارات المرفوعة ذكية جدّاً، كذلك كانت الشعارات المناهضة لبو تفليقة ذكية كما كانت في تظاهرات مايو/ أيار 1968 في باريس، والتي أثارت حياء الكثير من المتظاهرين في أوروبا، وبالتالي نحن نعلم أنّ هناك شباباً مثقفين وميسورين وعلى تواصل مع العالم عبر الإنترنت، وهم من الحالمين ببلد ليس ديمقراطياً أكثر فحسب، بل أكثر انفتاحاً على العالم ممّا هي عليه اليوم، إلّا أنّ النظام العسكري لا يتمنّى أن تصبح الجزائر أكثر إنفتاحاً على العالم، أو أن تتواصل معه لذلك هناك توتّر.
هناك نقطة أخرى تتعلق بالشباب الجزائري، وهي أنّه خلال العام الذي شهد التظاهرات في البلاد، لم يستجيبوا لأيّ استفزاز من الإستفزازات التي كانت تحصل أسبوعياً من قبل أمنيين والجيش، فقد تمكّنوا من عدم الإنجرار خلفها ورفضوا العنف، وهذا أمر ملحوظ جدّاً ليس فقط في العالم العربي، بل في الجزائر حيث لطالما نُظر إلى الشعب على أنّه عنيف بطريقة متأصلة، ففي التاريخ الحديث لا سيّما في ظلّ الإستعمار الفرنسي لجأ الجزائريون إلى العنف، ولكن الشباب الجزائري أعرب عن نضج كبير منذ سنتين.
فكم يستمر السلام النسبي هذا، ومتى تحصل موجة جديدة التظاهرات؟ من وحده التاريخ كفيل بالإجابة ولكن ما لا شك فيه هو أنّ الشباب الجزائري يتمنى أن يخاطب العالم بأسره ويتواصل معه. صحيح أنّهم وطنيون وفخورون بكونهم جزائريين، لكنهم لا يغالون في وطنيتهم وليسوا محدودي الأفق كما يفعل عدد كبير من قادتهم.
خلال السنوات الـ20 الماضية كانت الصين تحقّق نمواً إقتصادياً في المنطقة، كما يمكن أن نلاحظ في مصر وتونس والجزائر، حيث لعبت على وتر الفساد لتعزز نفوذها الإقتصادي. فالصين اليوم تملك حصة في الإقتصاد الجزائري، شأنها شأن تركيا، وهذا ما لم تكن تملكه لا الصين ولا تركيا منذ 20 عاماً، وهذا التنويع في الشركاء الإقتصاديين يجب أن يثير قلق الأوروبيين الذين كانوا يشكلون القوّة التقليدية المسيطرة في شمال أفريقيا.
الجزائر بلد قُطعت فيه وعود لإجراء إصلاحات إقتصادية – أشك في تنفيذها شخصياً – وربّما الجزائر هي بلد ينعم بمستوى معيّن من الأمن والثبات في الوقت الراهن، لكن الشأن الأهم اليوم بالنسبة إلى الجزائر أبعد من الإستياء الإجتماعي والآمال المقموعة بالمزيد من الديمقراطية وقمع الصحافة القوي، هو أنّ الجزائر تستعيد دورها بعض الشيء في السياسة الإقليمية، فيما يعاني الداخل في جملة من المشاكل الكبيرة التي قد تنفجر بين حين وآخر.