سقوط كابول للمرة الرابعة في التاريخ
سقطت كابول للمرة الرابعة في تاريخها المرير! أهل المدينة لم يستقبلوا “الفاتحين” بالورود، وإنما بكثير من الحذر والشك والخوف، وهو أمرٌ متوقع.
ذاكرة المدينة النابضة بالحياة لا تزال مزدحمة بصور الاقتتال بين “المجاهدين” وسقوطها في أيدي طالبان.
فيما ينتظر الأفغان ما سينتهي إليه هذا الفصل الجديد من حياتهم، رحّب الجهاديون، باستثناء داعش، بما وصفوه “بالفتح.”
القياديان في هيئة تحرير الشام، أبو مارية القحطاني ومظهر الويس، وغيرهما مثل عبدالله المحيسيني، القاضي الشرعي السابق في جبهة النصرة، رحبوا بما اعتبروه “نصراً” و”فرحة غامرة.”
أبو قتادة الفلسطيني، المُنظّر الجهادي المتعاطف مع القاعدة – وإن زعم أنه لا ينتمي إلى التنظيم – غرّد بفرح عارم منهياً أياماً من الصيام الإلكتروني بدأت في الخامس من أغسطس؛ فأطلق وابلاً من التغريدات تحتفي بهذا الحدث.
أعضاء قدامى في القاعدة مثل أبي حفص الموريتاني نظم الشعر في طالبان؛ وأبو وليد المصري، مصطفى حامد صهر سيف العدل، حرص على أن يقدم لمتابعيه آخر الأخبار. كل هذا والقاعدة المركزية لا تزال صامتة.
طالبان والقاعدة.. علاقة إشكالية
بالرغم من تقارير الأمم المتحدة التي تتحدث عن وجود الآلاف من مقاتلي القاعدة ضمن صفوف طالبان، إلا أن القاعدة “الرسمية” لم تصدر أي بيانات بخصوص سقوط كابول حتى بعد مرور ثمانية أيام على الحدث. البيان “الرسمي” الوحيد كان من جانب القاعدة في شبه جزيرة العرب بتاريخ ١٨ أغسطس. في البيان إبراء لكل ما فعلته القاعدة.
لا شك في أن طالبان حرصوا على أن يكونوا بعيدين عن نشاطات القاعدة في أيامها الأولى، إلا أن الغزو الأمريكي قرّب الطرفين. فاعتمدت طالبان على القاعدة في دفع قوات أحمد شاه مسعود الأمر الذي انتهى بأن نجح أسامة بن لادن في اغتياله. يضاف إلى ذلك أن طالبان تعلموا من القاعدة تكتيكات وتبنّوها. فتشكلت علاقات وثيقة بين المقاتلين من الطرفين ما جعلهم قوة ضاربة.
اليوم، يشكل بيان قاعدة اليمن حرجاً لطالبان الذين لم يألوا جهداً في نفي العلاقة مع القاعدة حتى يحصلوا على اعتراف دولي، وتكسب الدعم المالي وتستقطب الاستثمارات وما إلى ذلك.
في البيان تذكير بطبيعة القاعدة المارقة؛ فالقاعدة هي التي نفذت هجمات ١١ سبتمبر من وراء ظهر الملا عمر الأمر الذي أتى برد أمريكي عنيف تنفيذاً لوعيد أمريكي قبل ذلك التاريخ. أمريكا كانت أعلمت جلال الدين حقاني بأنها سترد بقسوة إن أتى أسامة بن لادن ما يضرّ مصالحها، وهكذا كان.
رفض طالبان تسليم المسؤولين عن جرم هجمات سبتمبر قاد إلى عواقب وخيمة. فرغم التحالف التكتيكي بين الطرفين، إلا أن هؤلاء الجهاديين العابرين سببوا مشاكل جمّة لطالبان، بحسب ما جاء في مقال للباحث برهان عثمان.
وهذا أمر آخر علينا أن نتنبه إليه؛ عثمان يقول إن طالبان مرهقون. وعليه، ليس مستغرباً لماذا قرروا أخيراً تصفية سجناء داعش في سجن بولي تشرخي.
لكن الزمان غير الزمان، في السابق كان طالبان معزولين ومنفصلين عن العالم كما يقول الباحث توماس روتيغ، حروب ١١ سبتمبر غيرتهم.
قتالهم ضد أمريكا عبر بهم العالم. ها هم اليوم يلتقون بالمسؤولين الصينيين. ومثل قادة دول أخرى، يبيضون صفحتهم من الإيغور ويركزون على العلاقات الطيبة مع الإمبراطورية الجارة مقابل “علاقات اقتصادية طيبة.” إنهم مستعدون للقاء المسؤولين الروس بالرغم من دور روسيا في قصف السوريين وردّهم إلى العصر الحجري.
أبناؤهم وبناتهم لهم حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي كما هم لهم حسابات. لم يعودوا يعيشون في شرنقة بعيداً عن العالم يجلسون أرضاً كما كان الملا عمر متربعاً ينقر أصابع رجليه وهو يجتمع بكبار القوم. ربما هزموا الأمريكيين من نواحٍ كثيرة، لكنهم لم ينجحوا في مقاومة أثر الحداثة. إعلان قاعدة اليمن والروابط التي استحضروها أعادتهم إلى زمن يحاولون أن ينسوه.
يضاف إلى ذلك أنه بعد مرور عشرين عاماً، شاهد طالبان نماذج بديلة للحكم؛ رأوا كيف انهارت “دولة” داعش عندما توسّع التنظيم بلا حسبان.
ورأوا كيف تؤسس هيئة تحرير الشام “بلدية” في شمال سوريا وكيف أنهم يُحيّدون بعض الجهاديين المخضرمين الذين لم يشاركوا في الاقتتال الداخلي – مع حراس الدين – من أمثال أبي الوليد مسلم الشيشاني وهو الرجل الذي تكن له الفصائل السورية المعارضة احتراماً لسلوكه وتميّزه في القتال.
ومع هذا، وكما هما رونالدو وميسي، لا أحد أكبر من النادي؛ فكان لا بد من تركه يذهب، وهذا هو بيت القصيد – تتخلى الدول عن أبطالها الحالمين وتحتفي بهم عندما يموتون.
طالبان رأوا كذلك ما حصل مع حماس وحزب الله في الشرق الأوسط، وما أصبحت عليه تونس وسوريا بعد الربيع العربي.
هذه نماذج لم تتوفر لطالبان في الأيام الأولى، وعليه يبدو نموذج القاعدة ورؤيته اليوم غريباً غير متصل بالحاضر.
وكما يقول روتيغ، فإن دور طالبان مع القاعدة اقتصر على الجغرافيا المحلية ولم يتوسع إلى هجمات القاعدة الخارجية.
ماكينة طالبان الإعلامية
نرى هذا “النمو” لدى طالبان في الرسائل التي ترسلها إلى الداخل والخارج، لكن هذا لا يعني أنهم سيغيرون موقفهم من حقوق المرأة وغيرها من الحقوق والقضايا.
لن يصبحوا “ألطف” أو أكثر تقبلاً لعرائض المطالبين بالتغيير أو أصحاب النزعات الليبرالية في الغرب. لن يفعلوا أيّاً من ذلك، هم الآن منتشون بالنصر. هم أبناء المدرسة الديوبندية الذين لا يساومون؛ وأتباع المدرسة الحنفية الذين لهم رأي وفتوى في كل شيئ من الوشم إلى الموسيقى والأفلام والملاكمة والبيرة الحلال وغيرها. معظمهم يتسق مع التقاليد السائدة في حوض الهند-باكستان ومتصالح مع تقاليده الأفغانية. وهم يعوّلون على هذه القيم. يظهر هذا في المحاكم الشرعية التي عقدوها في أجزاء من مناطق أفغانستان الريفية. أمّا في المدن، فأهلها معنيون بمعرفة مقدار تشدد طالبان في فرض رؤيتهم ومقدار هامش الحرية الذي سيسمحون به. هل سيفرضون على الرجال حضور الصلوات جماعة؟ هل سيفرضون عليهم إطلاق اللحى؟ هل سيفرضون على النساء وضع البرقع كما فعلوا في ١٩٩٦؟ هذه هي الأسئلة التي سيطرحها سكان المدن ولا شك، فإن أبدت طالبان مرونة، فهل سيعزل هذا القاعدة؟
يبدو أن طالبان يفهمون اليوم الحاجة إلى السفارات في دول العالم، وإلى الروابط التجارية، وأهمية السيطرة على حركة المخدرات.
وهم معنيون بإرسال رسائل التطمين فيما يتعلق بتعليم المرأة وحرية الصحافة ومكافحة الإرهاب الدولي. فإذا عدنا إلى العام ٢٠١٩، نجد أن ماكينة طالبان الإعلامية كانت تقول إن المتسبب في هجمات سبتمبر فعلاً لم يكن بن لادن وإنما السياسة الأمريكية التي تتدخل في الدول والشعوب.
لكن اليوم، يبدو أن الرسالة التي يرسلونها هي رسالة انضباط، نجاحهم في هذه الرسالة يعني أن البلد لن يصبح “سبباً” كما قال هنري كيسنجر عن إيران، وإنما سيصبح لاعباً وفاعلاً محلياً.
لكن ماذا عن قوانين طالبان الدراكونية وسجل حقوق الإنسان؟ المجتمع الدولي لم يواجه مشكلة في التعامل مع دول لها سجل رهيب في حقوق الإنسان؛ لكن الفرق هو أن تلك دول كليبتوقراطية في أسوأ تقدير وليست حركات تُصدّر الإرهاب.
طالبان.. “دولة”؟!
حتى اللحظة، طالبان يراقبون عناصر القاعدة عن قرب، ولكن سيأتي وقت يتعين عليهم فيه أن يحسموا مسألة القاعدة. تنظيم القاعدة يشكل عائقاً أمام علاقات طيبة يقيمها طالبان مع العالم الخارجي. فإن أرادوا أن يكونوا دولة، يتعين عليهم أن يدركوا أن من شروط الدولة أن تكون هي الوحيدة القادرة على إحداث فعل عنيف. ولهذا فإن وجود تنظيم مسلح يعمل خارج سلطة الدولة يُعتبر كارثة، يؤدي إلى هجمات مثل ١١ سبتمبر أو إلى حالة تشبه ما يحدث في لبنان. لا يمكن معالجة الأمر إلا بطرد العناصر المارقة أو التخلص منهم كما تفعل دول مع عناصر داعش؛ أو بمنح هؤلاء العناصر صفة المواطنة والاستفادة من خبرتهم كقوة ضاغطة كما حصل مع أسامة بن لادن نفسه؛ أو بغض الطرف عن اعتقالهم وسجنهم سراً كما فعلت الدولة البوسنية. هذا الخيار الأخير لا يبدو مطروحاً بالنظر إلى أن كثيراً من عناصر طالبان أمضوا فعلاً وقتاً في غوانتانامو. وقد يجد طالبان أنهم غير قادرين على أن ينسلّوا من القاعدة لاعتبارات أخلاقية وعاطفية. لكن أي خيار يختارونه لن يكون مريحاً ولهذا فإن احتفالات القاعدة بطالبان لا تزال مبكرة.