يعيش الشعب التونسي مخاوف كثيرة لاعتباره أنّ السفينة تغرق فيما الحكومة كانت تقصّر في عملها، وحتماً الجمعية الوطنية لم تكن تقوم بواجبها كما ينبغي. فهنا ثمّة أزمة إقتصادية ومالية متنامية، وتعطيل مؤسساتي، في وقت تواصل الأحزاب السياسية المشاحنات والجدل حول كل القضايا، والفساد مستمر والأزمة الإقتصادية تزداد تدهوراً، وقد زاد فيروس كورونا الطين بلّة، إذ كان هناك سوء إدارة للأزمة الصحية الكبيرة من قبل الحكومة.
- لدى تونس ديون خارجية هائلة وعليه مدفوعات كبيرة
- أحد أسباب تأزم الوضع هو أنّه ليس هناك من محكمة دستورية تؤدّي عملها
- ثمّة دعم واضح من الجزائر التي تعدّ شريكاً مهمّاً جدّاً لتونس
- النهضة استبدلت في السنوات الماضية موظفين كبار بأشخاص غير كفوئين
- مرفأ تونس أشبه بدولة تسيطر عليها المافيا
- الأسوأ أنّ أجور الموظفين الحكوميين تفوق الإستثمار من حيث كلفتها على الحكومة
إنّ أزمة تونس ليست أزمة عادية، فهذا البلد لديه ديون خارجية هائلة، وعليه مدفوعات كبيرة وبالتالي يجب أن يعيد الدين لصندوق النقد الدولي، مع الإشارة إلى أنّه في السنوات الأخيرة لم يتم الوفاء بالوعود بإجراء إصلاحات إزاء صندوق النقد الدولي بأيّ طريقة، وكان الوضع يزداد صعوبةً. وإلى جانب كل ذلك، تعاني تونس من دستور أقرّ بناءً على التصويت الشعبي في العام 2014، لكنّه يكتنف تناقضات كبيرة ويُطبّق بشكل سيء.
ليس واضحاً إنْ كانت خطوات الرئيس التونسي قيس سعيّد قد تلقت دعماً مسبقاً من أي طرف خارجي، فثمّة من يقول إنّ الأمريكيين ثمّنوا ما فعله بينما ينفي ذلك البعض الآخر. كما أنّ الإتحاد الأوروبي قد تفاجأ كلّياً بالقرارات، وبما أنّ الرئيس ليس محاطاً بعدد كبير من المستشارين، يصعب أن نعرف مَن يقدّم النصح له ومَن يقف وراء ما حصل.
وثانياً بما أنّه لم يطوّر قط خطة إصلاحات إقتصادية، لقد تحدّث بشكل مبهم عن الديمقراطية المحلية، ما يراه البعض كتكرار لتطبيق الديمقراطية المحلية على طريقة الزعيم الليبي السابق معمّر القذّافي إلّا أنّ الرئيس لم يذكر اسم القذافي يوماً، لذلك أعتقد أنّه يريد صورة رومنسية لديمقراطية شعبية، لكن هذا النوع من الديمقراطية سيُعيد البلاد إلى الوراء، وذلك ليس جيّداً في القرن الحادي والعشرين، بالتالي لا نعرف ما هي الخطوة التالية التي سيتخذها. هو يريد أن يكون موقع الرئاسة أقوى، وأشك في أنّ معظم التونسيين سيفرحون بأن تكون الرئاسة أقوى، هذا إنْ تمكنت الأحزاب والحكومة والمحكمة الدستورية من خلق ثقل موازن له.
أحد أسباب تأزّم الوضع في تونس عرقلة عمل المحكمة الدستورية من قبل حزب النهضة
ولكن أحد أسباب تأزم الوضع هو أنّه ليس هناك من محكمة دستورية تؤدّي عملها، لأنّه على مرّ السنوات الثلاثة أو الأربعة الماضية، كان حزب “النهضة” الذي يملك أكبر كتلة أصوات في البرلمان يعطّل عمل المحكمة الدستورية التي لو وجدت لكان الرئيس قد قدّم لها قراراته في مهلة 30 يوماً، ولكن بما أنّ المحكمة الدستورية غير موجودة تمكّن من التحرّك بحرية أكثر.
إذاً لا نعلم إلى أين سنصل من الناحية القانونية، لكننا نعلم أن الرئيس الفرنسي والأمريكيين دعموا قرارات الرئيس، وقد أوضح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، أنّ الأمريكيين يدعمون الرئيس سعيد في سعيه لتحديث المؤسسات وجعل الإقتصاد مستقراً.
لذلك حالياً هناك دعم أكبر من القوى الغربية لما يحصل في تونس، كما كان هناك دعم واضح من الجزائر التي تعدّ شريكاً مهمّاً جدّاً لتونس، وذلك لسببين:
- أولاً، لأنّه خلال السنوات الـ10 الماضية لعبت القوى الأمنية الجزائرية دوراً محورياً في تونس بموافقة كاملة من الجيش التونسي والقوى الأمنية، للقضاء على جيوب الإرهاب الموجودة في البلاد، حتى لو لم تكن كبيرة.
- وثانياً، لقد أودع المصرف المركزي الجزائري مليار دولار في المصرف المركزي التونسي منذ 10 أيّام، وهذا خبرٌ لم يتم الإفصاح عنه علناً .
الفساد هو أحد أهم المشاكل لكن المشكلة الأكبر هي السيطرة على الدولة، فالشركات الحكومية والدولة وقعت ضحية المصالح الخاصة، وهذه المصالح تأخذ أشكالاً مختلفة:
هناك بالطبع حزب النهضة، الحزب الإسلامي الموجود في السلطة منذ العام 2012، صحيح أنّه لم يكن يترأس الحكومة، لكنّه كان صاحب تأثير كبير فيها من خلال وزرائه خلال السنوات الـ9 الماضية، وقد طردوا موظفين حكوميين كبار واستبدلوهم بأشخاص غير كفوئين، وهذا ما يحصل منذ سنوات. كما أنّ أحزاباً أخرى لعبت هذا الدور أيضاً.
إن حزب “قلب تونس” هو ثاني أكبر حزب في البرلمان ويرأسه رجل الأعمال نبيل القروي، والذي كان دخل السجن مراراً بتهم تبييض أموال وفساد.
ثمّ هناك المافيات التي برزت في تونس لأنّ الاقتصاد كان ينمو، فإنّ نظرنا إلى مرفأ تونس نراه أشبه بدولة تسيطر عليها المافيا. إذاً المشكلة الكبرى هي أنّ عدة مؤسسات حكومية تسيطر عليها مصالح خاصة من أنواع مختلفة ما يزيد الوضع تعقيداً. ولهذا السبب أيضاً أيّد 87% من الشعب التونسي قرار الرئيس ونزل كلّ الشعب التونسي إلى الشارع مهلّلاً وفرحاً.
السؤال الذي يُطرح هو: ما هي الخطوات التالية؟
هذا هو الأمر المهم الذي ننتظره، وما سيحصل عاجلاً أم آجلاً وهو تعيين حكومة جديدة ورئيس حكومة جديد. وإنْ عرفنا هوية رئيس الحكومة الجديدة الذي لا نعرفه بالرغم من الشائعات، يمكننا أن نحصل على إشارة على مدى جدّية الرئيس ونواياه لأنّه ليس هناك من نقص في تونس بالرغم من كل مشاكل السنوات الماضية بما فيها الفساد. ليس هناك نقص في الموظفين الحكوميين الكبار ورجال أعمال نزيهين وأذكياء ومنفتحين.
وربّما أحد الأسماء التي طرحت لرئاسة الوزراء، والذي لا أملك أدنى فكرة إنْ كان سيقع عليه الإختيار، هو حاكم المصرف المركزي منذ 3 سنوات أي مروان العباسي، وهو صاحب مناقبية عالية، وقد عمل مع البنك الدولي قبل توليه منصبه ويعرف البلاد جيداً، كما أنّه يلقى احتراماً كبيراً.
ما مدى تجذّر الفساد في تونس؟
بعد مرور 10 سنوات على ما اعتُبر كثورة لكنه لم يكن كذلك لأنّه كان تمرّداً نجح في قطع رأس النظام ولم يكن ثورة، إنّ المواطن التونسي العادي فقير، والتفاوت المناطقي قد ازداد، كما ازداد الفقر وارتفعت معدلات البطالة، وازداد الياس في أوساط الشباب عمّا كان عليه منذ 10 سنوات.
إذاً هذه السنوات الـ10 الماضية من “ديزني لاند”، لأنّني لا أسميها ديمقراطية إطلاقاً، وبالطبع سيتحرك كثيرون في الغرب قائلين إنّه تمّت مصادرة الديمقراطية، لكن ما هو شكل الديمقراطية في تونس؟ إنه أشبه بعرض لمسرح الدمى وبمباراة ملاكمة ولا علاقة له بالديمقراطية.
فطريقة تصرّف النواب حوّلت البرلمان إلى غرفة لتمرير الصفقات بما فيها المالية. كما أنّ راشد الغنوشي نصّب نفسه رئيس دولة بديل، فكان يستقبل السفراء الأجانب من روسيا إلى تركيا وقطر… وفي مجلس النواب كانت هناك “مصارعة” بين نواب حزب النهضة ونواب حزب الكرامة، وهو حزب إسلامي صغير، وقد سُجل اعتداءات عديدة على نائبات ومنهن رئيسة الحزب الدستوري الحر، وهو حزب الرئيس بورقيبة الراحل، النائبة عبير موسي.
إنّ اقتصاد تونس معطّل تماماً، ونتيجة لذلك استسلم الشعب ولحسن الحظ لم تسفك الدماء، لكن الشعب قد سئم وتعب. من المثير للإهتمام أنّ 87 % من الشعب أيّد خطوات الرئيس بصرف النظر عمّا سيفعله الآن، وبالنسبة إلى المواطن التونسي العادي، فمن المؤكّد أنّ مساحة الحرية في التعبير باتت أكبر، وربّما أفضل من أي بلد عربي آخر. تقريباً ليس هناك أعمال تعذيب لكن بالطبع ارتكبت الشرطة بعض الأفعال البشعة، لكن حتماً هي أقل ممّا يحدث في بلدان مجاورة أخرى.
إذاً لقد نعمت تونس بأمور حرية التعبير واحترام سلامة الشعب الجسدية، وذلك بالغ الأهمية، إلّا أنّ ذلك لا ينسحب على الديمقراطية لأنّها تستلزم وجود سلطة قضائية فاعلة.
منذ عام 2011 تمّ استحداث أكثر من 150 ألف وظيفة في قطاع الموظفين الحكوميين وكثر لا يحضرون إلى العمل
منذ عام 2011 تمّ استحداث أكثر من 150 ألف وظيفة في قطاع الموظفين الحكوميين، ما يجعل تونس ربّما أفضل بلد في العالم من حيث نسبة الموظفين الحكوميين بالمقارنة مع عدد السكان، لكن ذلك يدمّر البلاد ويجعل حياة رجال الأعمال الشباب جحيماً، فيما أيضاً الموظفون الحكوميون غير الكفوئين يقبضون أجورهم. فمثلاً في شركة الخطوط الجوية التونسية، ارتفع عدد الموظفين بالآلاف، والكثير منهم يقبض أجره من دون الحضور إلى العمل.
لذلك لا يمكن المضي قدماً على هذا المنوال وسط تجاهل الدولة بالكامل وغياب المحاسبة وسرقة الدولة، والأسوأ هو أنّ أجور الموظفين الحكوميين أصبحت تفوق الإستثمار من حيث كلفتها على الحكومة، فقد توقفت الدولة عن الإستثمار في البنى التحتية والمستشفيات والمدارس، وذلك لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. لقد اتّضح منذ بضعة أشهر أنّ شيئاً ما سيحدث، لكننا لم نكن نعرف كيف ومَن سيبدأ هذا التحرّك. الآن نعرف أنه حدث وبطريقة ما نحن ننتظر الفصل المقبل.
كان يؤمل أن تقوم تونس بعملية قمع شاملة لحركة الإخوان المسلمين، وذلك غير محتمل برأيي لأنّه مغاير لطبيعة رئيس جمهورية بلغ 63 عاماً من العمر، وهو رجل متشدّد وخلوق وأستاذ مادة القانون، كما أن تونسيين كثراً ممن لا يحبّذون حزب النهضة، لا يتمنون إطلاقاً أن يتم سجن هؤلاء بل يودّون أن تُقص أجنحتهم، ويتمنون أن يخرج راشد الغنوشي من المعترك السياسي، لكنّهم لا يريدون قط أن يُلقى عشرات الآلاف في السجن ناهيك عن تعذيبهم.
إنّ الجيش التونسي مختلف كلّياً عن أيّ جيش عربي، وربّما هو فريد من نوعه، لذلك هناك مزيج من تكريس للمساواة في حقوق المرأة في القانون مثل عدد قليل جدّاً من دول المنطقة، ومن جيش مختلف كلّياً للدفاع عن سلامة الدولة وقد أيّد الرئيس، إلّا أنّه لن يطبّق أي برنامج إقتصادي من أيّ نوع كان، لكن الجيش نزولاً عند طلب الرئيس ولمصلحة الجميع، يساعد في فتح مراكز تلقيح في كافة أنحاء البلاد، ويتعاون مع الأطباء الذين ليس فقط لم يسجّلوا أيّ اعتراض، بل هم سعداء في العمل مع أشخاص منظّمين بدلاً من حكومة غير نافعة بالكامل.
أعتقد أنّه من الأفضل أن نذكر نقتطين تتعلقان بتونس:
- أولاً، التونسيون هم بطبيعتهم معتدلون ومنفتحون كثيراً ليس فقط على الغرب بل على الشرق أيضاً، وكانوا يتاجرون من خلال المرافىء التونسية الكبيرة المنتشرة على طول الشاطىء، ما يشكل قوةً وثروة كبيرة لها. إذاً التونسيون معتدلو الرأي ومتمردون وهذا صحيح لكنهم أكثر اعتدالاً في آرائهم من جيرانهم في الشرق أو الجنوب والدول الشرق الأوسطية الكثيرة الأخرى.
- ثانياً، يريد التونسيون دولة القانون التي شُلّت خلال السنوات الـ10 الماضية، ومَن عانى من اضمحلال دولة القانون هو الشعب المتواضع، ومنهم رجال الأعمال الشباب الذين يعيشون جحيماً. لقد أسّسوا مشاريع ويحاولون الصمود لكن الدولة لا تساعدهم ولا تسمع لهم ولا تأبه لهم.
جلّ ما يريدونه هو أن يكون هناك دولة قانون وأن يتمكنوا من العمل والعودة إلى الحياة الطبيعية، وإنْ تمّ إرساء سلطة الدولة من جديد، فالفساد سيتراجع، لكن إنْ لم يكن هناك من دولة قانون وسلطة للدولة، وإنْ استمرت الحكومة والأحزاب الكبرى في عقد صفقات وسخة، فالفساد سيزداد بالطبع.
شاهدوا أيضاً: شباب تونس.. بين فساد الداخل وأنياب الصين