قبيل يوم واحد من الذكرى الأولى لهجمات الـ11 من سبتمبر/ أيلول 2001، أعلن تنظيم القاعدة للمرة الأولى، تبنيه رسميًا للهجمات الإرهابية التي استهدفت مقر برجي التجارة العالميين ومقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، وفي حين لم يكن الإعلان مفاجئًا للولايات المتحدة أو غيرها من الدول التي حملت التنظيم مسؤولية الهجوم منذ اللحظات الأولى له، احتفى أنصار التنظيم بمن وصفوهم بـ”النسور الانتحاريين” الذين ضربوا أكبر قوة عالمية في عقر دارها.
شكل تبني الهجوم، لحظة مفصلية في تاريخ الحركة الجهادية العالمية، إذ عُدّت بمثابة صرخة الميلاد الحقيقية لـ”تنظيم القاعدة”، والذي وُجد، رسميًا، قبل نحو 4 سنوات من هذا التاريخ، لكنها حملت في طياتها إعلانًا مغايرًا باندثار التنظيم واختفاءه لسنوات قادمة.
ومع أن هذا الإعلان، ألهم أنصار القاعدة ونشر علامته الجهادية حول العالم، إلا أنه لم يخفِ حقيقة أن التنظيم أو أي من المجموعات التابعة له، عجز عن القيام بهجمات شبيهة أو قريبة من 11 سبتمبر، على مدار نحو عقدين من الزمان.
وعلى مدار تلك الفترة، حاول تنظيم القاعدة تحريض أنصاره والمتعاطفين معه في كافة الدول، على شن هجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها بأي وسيلة ممكنة، حتى تنهزم أمريكا التي لطالما وصفها مؤسس القاعدة أسامة بن لادن بأنها “رأس الأفعى”.
دعوة المقاومة “العفوية”
ويكشف التدقيق في سيرة القاعدة ومسيرته، جانبًا من دوافع قادة التنظيم لشن الحرب ضد الولايات المتحدة، فالبنسبة لأسامة بن لادن وأتباعه، كان من بين الأهداف الرئيسية لتنفيذ هجمات الـ11 من سبتمبر إحداث نكاية في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى نفي تهمة العمالة للاستخبارات المركزية (سي. أي. إيه) عن نفسه، خاصةً وأن تلك التهمة لاحقت “الأفغان العرب”، لفترة طويلة، بسبب الدعم الذي تلقوه من الولايات المتحدة والدول المتعاونة معها، لمواجهة الاتحاد السوفيتي، أثناء غزوه لأفغانستان (1979: 1989).
ويوضح عبد المنعم منيب، الباحث السياسي والمتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، أن إستراتيجية القاعدة لم تبن على أسس منهجية مدروسة، وإنما جاءت بـ”صورة عفوية”، ففي ظل اتهام “الأفغان العرب” بالعمل لصالح الولايات المتحدة بدأ أبو مصعب السوري وغيره من منظري القاعدة الحديث عن خوض حرب ضدها، حتى يثبت التنظيم لأنصاره أنه غير تابع لأمريكا.
ويضيف “منيب” في لقاء مع “أخبار الآن”، أن زعيم تنظيم القاعدة المؤسس انخرط في العمل على استهداف المصالح الأمريكية منذ تسعينيات القرن الماضي فدعم حركة التمرد في الصومال (1993) لمواجهة القوات الأمريكية على الأرض، وخطط كذلك لاستهداف سفارات الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا (1998)، واستهداف أنصاره المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” في خليج عدن (2000)، ثم توجت تلك الهجمات بتفجيرات 11 سبتمبر (2001)، مشيرًا إلى أن أسامة بن لادن نفسه لم يكن لديه إدراك أو تصور كامل لعواقب المواجهة مع أمريكا وإنما قام بذلك من باب التجربة، كما قال خلال حديث سابق له، مع القيادي العسكري بالقاعدة “عبد العزيز الجمل”.
ومن جهته، يشير صبرة القاسمي، منسق الجبهة الوسطية والخبير في الشأن الجهادي، إلى أن هجمات 11 سبتمبر كانت تجسيدًا لتنظيرات أبو مصعب السوري والتي اقتنع بها أسامة بن لادن، واقتضت أن يُعلن التنظيم عن نفسه بهجوم كبير.
ويبين “القاسمي” أن الحركة الجهادية المعولمة قامت على ركائز أيديولوجية حركية أبرزها “دعوة المقاومة العالمية” لأبي مصعب السوري، و “إدارة التوحش” لأبي بكر ناجي.
هجمات مثيرة للجدل
إلى ذلك، لم تحظ هجمات 11 سبتمبر بتوافق داخل تنظيم القاعدة، إذ اعترض تيار قوي داخله على الانخراط في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لأن تلك المواجهة ستفتح على التنظيم وأتباعه أبواب جهنم، على حد وصف أبو مصعب السوري نفسه، الذي رأى أن التسرع والاندفاع في تنفيذ تلك الهجمات ألقى بالقاعدة في “أخدود نار”.
ويقول عبد المنعم منيب أن الجماعات المسلحة تضع سيناريوهات متعددة المراحل لعملها لكن لا تضع في اعتبارها إجراءات المواجهة التي سيتخذها خصومها، وبالتالي تنهار بمرور الوقت، لافتًا إلى أن تنظيم القاعدة وضع خطة لضرب نحو 120 هدفًا أمريكية حول العالم منها قواعد عسكرية ومراكز استخباراتية، لكن جميع تلك الخطط أُجهضت عندما تم القبض على القيادي أحمد سلامة مبروك في إحدى الدول الأوروبية عام 1998، إذ ضُبطت كل تلك الخطط على حاسوبه الشخصي، وجرى اكتشاف المؤامرات الإرهابية التي كان يُفترض أن يتم تنفيذها عقب هجمات سفارتي كينيا وتنزانيا.
تنظيم القاعدة وضع خطة لضرب نحو 120 هدفًا حول العالم، لكن جميع تلك الخطط أُجهضت عندما تم القبض على القيادي أحمد سلامة مبروك
عبد المنعم منيب
إلى ذلك، يذكر صبرة القاسمي أن زعيم تنظيم القاعدة المؤسس أصر على تنفيذ هجمات 11 سبتمبر، وجرى تجنيد “خلية تنفيذ” أولى مرتبطة به بشكل مباشر، غير أن التنظيم اكتشف أن الاستخبارات الألمانية رصدت تلك الخلية من خلال اتصالاتها مع قيادات القاعدة، لذا قام بتفكيكها وتهريب أعضائها، وعند تلك المرحلة قرر “بن لادن” تكليف “خلية هامبورج” بقيادة المهندس المصري محمد عطا بتنفيذ هجمات 11 سبتمبر، كما قرر أن تعمل الخلية الأخيرة بنمط لا مركزي وأن لا يكون هناك اتصالات مباشرة بينه وبينها حتى لا تنكشف هي الأخرى، موضحًا أن زعيم التنظيم أخفى خطة الهجوم عن قياداته، حتى لا يكون هناك معارضة لها، ولم يعلم بها سوى 3 أشخاص هم: (بن لادن، وسيف العدل المسؤول الأمني للقاعدة، وأبو مصعب الزرقاوي الذي كان يؤسس حينها ما يُسمى بالدولة الأولى في هيرات الأفغانية).
وتتفق المعلومات التي يوردها “منيب” و”القاسمي” مع الشهادات التي نُشرت، لاحقًا، لقيادات بارزة في تنظيم القاعدة حول 11 سبتمبر، فعلى سبيل المثال يورد أبو الوليد المصري “مصطفى حامد”، أحد مستشاري أسامة بن لادن السابقين، في كتابه صليب في سماء قندهار أن الملا محمد عمر، زعيم حركة طالبان المؤسس، وعدد من قادة القاعدة، طلبوا، كلًا على حدة، من “بن لادن” أن يتوقف عن تنفيذ هجمات ضد المصالح الأمريكية، لكن الأخير رفض الاستجابة لتلك الطلبات وقرر تنفيذ الهجمات دون النظر في عواقبها المدمرة.
تصفية القاعدة
غير أن التسرع والاندفاع الذي سيطر على قيادة تنظيم القاعدة، كما يقول سليمان أبو غيث، المتحدث باسم التنظيم وصهر أسامة بن لادن، أدى إلى إعلان حملة “الحرب على الإرهاب”، والتي استهلتها الولايات المتحدة بقصف معاقل القاعدة في أفغانستان، وضرب مقرات الجماعات المؤيدة لها خارج أفغانستان كما حدث مع جماعة “جند الإسلام” الكردية التي استهدفتها الولايات المتحدة، أوائل عام 2003.
ويعتبر عبد المنعم منيب، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، أن هجمات 11 سبتمبر أدت لـ”تشريد القاعدة” وتشتيت أفرادها حول العالم، بحيث لم يبق منها إلا مجموعات ضعيفة ومستنزفة، وذلك نتيجة الحرب المفتوحة التي خاضها ضد أمريكا، بجانب غياب إستراتيجية واضحة للتنظيم، وهو ما أفقده مصداقيته وتأثيره، خصوصًا مع نجاح الفصائل ذات الطابع المحلي كحركة طالبان مثلًا، في تحقيق أهدافها من التمرد المسلح، والسيطرة على المناطق التي تنشط فيها وهو ما يخصم من رصيد القاعدة الذي فشل في تحقيق إنجاز يُذكر.
وبدوره، يرى صبرة القاسمي، الخبير في الشأن الجهادي أن الأوضاع الأخيرة في أفغانستان، خلقت نوع من الإزدواج لدى تنظيم القاعدة، إذ صار التنظيم عبارة عن مجموعتين جغرافيتين إحداهما القاعدة داخل أفغانستان والتي ستأتمر وتنتهي بأوامر حركة طالبان، أما المجموعة الأخرى خارج أفغانستان فستعمل بشكل لامركزي ولن تلتزم بمقتضيات اتفاق السلام بين الولايات المتحدة والحركة الأفغانية، بل ستسعى لتنفيذ هجمات على غرار 11 سبتمبر لتثبت للعالم أنها لازالت موجودة ولم تنتهِ.
هجمات 11 سبتمبر أدت لـ”تشريد القاعدة” وتشتيت أفرادها حول العالم، بحيث لم يبق منها إلا مجموعات ضعيفة ومستنزفة
عبد المنعم منيب
قيادة معزولة.. ومصير مجهول
وبينما احتفت المجموعات غير المركزية/ الأفرع الخارجية للقاعدة بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ظلت قيادة التنظيم المركزية وعلى رأسها أيمن الظواهري معزولة وغائبة عن اللحاق بركب الأحداث، وهو ما أصاب أنصار التنظيم بخيبة أمل جديدة وعزز من الشكوك حول مصير زعيم التنظيم المختفي منذ ما يزيد عن عام.
ويلمح صبرة القاسمي، وعبد المنعم منيب إلى أن قادة التنظيمات الإرهابية يتخفون، غالبًا، للهرب من حملة الملاحقة والاستهداف الأمني، معتبرين أن شخصية القائد ليست هي العامل الأهم في وجود تنظيم مثل القاعدة، لأنه قام على فكرة أيدولوجية/ عقدية.
ويرجح الخبيران في شؤون الحركات الإسلامية أن يكون أيمن الظواهري قد توفي بالفعل، مضيفين أن التنظيم سُيخفي نبأ الوفاة لفترة، كما فعل عقب موت مؤسس حركة طالبان “الملا محمد عمر” الذي ظل التنظيم يدعو لبيعته والالتفاف حوله حتى بعد 3 سنوات من وفاته التي أُعلنت/ لاحقًا، بعد خلاف داخلي في حركة طالبان.
ويشير “القاسمي” إلى أن اختيار القائد/ الزعيم الجديد للقاعدة سيكون من داخل دائرة “المجموعة المصرية” في التنظيم الإرهابي، قائلًا إن هناك أسماء عديدة مطروحة في هذا الصدد منها أبو الخير المصري (نائب أيمن الظواهري وصهر أسامة بن لادن الذي أعلن مقتله في وقت سابق)، الذي ربما يكون التنظيم زيف نبأ اغتياله في 2017، حتى يبقى مضطلعًا بدور حيوي في قيادة القاعدة المأزومة.