قُبيل نحو شهر من الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، أطلق مناصرو تنظيم القاعدة حملة ترويجية عبر مواقع التواصل الاجتماعي استعدادًا للاحتفال بالهجمات الأبرز في مسيرة التنظيم.
وفي بداية تلك الحملة، قالت قناة “وريث القسام”، المحسوبة على التنظيم والنشطة عبر تطبيق تليغرام للتواصل الاجتماعي، إن الاحتفال بـ”الذكرى العشرين” سيكون مميزًا، وإن التنظيم يُخطط لحدث كبير في تلك الفترة، لكي لا تكون تلك الذكرى كغيرها، وبينما انتظر جميع أعضاء وأنصار القاعدة ما سينشره التنظيم في 11 سبتمبر 2021، اكتفى الأخير بنشر كتابٍ عن “الفساد السياسي”، وفيديو قديم لأيمن الظواهري، مخيبًا بذلك الآمال التي عُقدت عليه من أتباعه، طوال الأيام السابقة.
إلى ذلك، لم يتضمن الفيديو الجديد لزعيم القاعدة، والذي جاء ضمن سلسلة دعائية تنشرها مؤسسة السحاب على فترات متفرقة بعنوان: “القدس لن تُهود”، أي إشارة من قريب أو بعيد لهجمات سبتمبر أو سيطرة حركة طالبان، حليف القاعدة التاريخي، على مقاليد الحكم في أفغانستان، بل اكتفى بالإشارة إلى أن دونالد ترامب- الرئيس الأمريكي السابق الذي يصفه بأنه رئيس حالي للولايات المتحدة- نزل على شروط حركة طالبان خلال مفاوضات السلام التي تمت في العاصمة القطرية الدوحة وانتهت بتوقيع اتفاقية الانسحاب الأمريكي في فبراير/ شباط عام 2020.
3 إصدارات مختلفة ونتيجة واحدة
ويكشف التدقيق في الإصدارات الدعائية الصادرة عن التنظيم، طوال العام الجاري (2021)، انفصال “القاعدة” وزعيمها أيمن الظواهري عن الواقع وغيابه عن الأحداث الجارية، ففي مارس/ آذار نشرت مؤسسة السحاب إصدارًا مرئيًا بعنوان: “الروهينغا جُرح الأمة كلها”، حول الاضطهاد الذي تعاني منه عرقية الروهينغا في إقليم أراكان الميانماري، وظهر، خلاله، زعيم القاعدة صوتيًا للمرة الأولى منذ تداول أنباء عن وفاته لأسباب طبيعية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.
بيد أن ظهور زعيم القاعدة، آنذاك، عزز الشكوك المثارة حول مصيره، إذ تضمن الإصدار التي تبلغ مدته قرابة 20 دقيقة، مشاركة مسجلة لأيمن الظواهري عن اضطهاد عرقية الروهينغا في إقليم أراكان الميانماري، واتهام حكومة رئيسة الوزراء السابقة “أونغ سان سوتشي” بالمشاركة في حملات التطهير العرقي ضد الروهينغا، دون الإشارة إلى إطاحة الجيش بحكومة “سوتشي” قبيل شهر من بث الإصدار، وهو ما يعني أن كلمة زعيم القاعدة سُجلت قبل الانقلاب، وأن التنظيم أعاد استخدامها للإيحاء بأنها متزامنة مع الحدث.
وعلى نفس المنوال، نشرت “السحاب”، في يوليو/ تموز الماضي، إصدارًا آخرًا بعنوان: (جريمة لا تغتفر)، اعتمد بشكل كامل، في دقائقه الـ41، على لقطات أرشيفية لأيمن الظواهري وعدد من قادة القاعدة، سُجلت أغلبها إبان أزمة الرسوم الكاريكاتورية الشهيرة التي أثارتها صحف دنماركية، في عام 2006، وبالتالي بقي مصير “زعيم القاعدة” محاطًا بهالة من الضبابية والغموض.
وفي حين عول “أنصار القاعدة” على ظهور استثنائي لـ”الظواهري”، في ذكرى هجمات سبتمبر العشرين، جاء ظهوره الأخير، ليثير حالة جديدة من الجدل بين خصومه ومناصريه، لاسيما وأنه تناول أحداث وقعت أغلبها خلال العام الماضي (2020)، وتطرق إلى هجوم وحيد نفذه فرع التنظيم في سوريا (حراس الدين)، ضد قاعدة عسكرية روسية ببلدة تل السمن (شمال الرقة)، في يناير/ كانون الثاني 2021.
كما فشلت جهود المنصات الدعائية التابعة للقاعدة لإبراز ظهور زعيم القاعدة الأخير باعتباره انتصارًا وتأييدًا لروايتها التي تُصر على أنه لا زال حيًا وفاعلًا في قيادة التنظيم، خاصةً وأن الإصدار الأخير لم يلتفت إلى التطورات الأخيرة على الساحة، كما يقول “مسلم الشامي”، أحد أنصار التنظيم، خلال مناقشة على إحدى المجموعات المؤيدة للقاعدة على “تليغرام”.
زعيم القاعدة “المتداعية”
وعلى نفس الجهة، يحمل حديث أيمن الظواهري، بين ثناياه تأكيدًا على معضلة القيادة والتنظيم التي يواجهها “القاعدة”، منذ فترة طويلة، ففي بداية حديثه رثى زعيم التنظيم عددًا من قادته الذين قُتلوا خلال العام الماضي في مختلف أنحاء العالم، وفي مقدمتهم: قاسم الريمي، أمير الفرع اليمني (قُتل في فبراير/ شباط 2020)، وضابط الصاعقة المصري المفصول وأمير تنظيم المرابطين (الفرع الليبي- المصري للقاعدة) هشام عشماوي (أُعدم في مصر، مارس/ آذار 2020)، ورفيقيه النقيب المفصول عماد عبد الحميد (قُتل في أكتوبر/ تشرين الأول 2017)، وعمر رفاعي سرور، القيادي الشرعي بمجلس شورى ثوار درنة الموالي للقاعدة (قُتل في يونيو/ حزيران 2018)، كما نعى عبد الملك درودكال “أبومصعب عبد الودود”، أمير فرع التنظيم في المغرب العربي، (قُتل في يونيو 2020)، وأبوالقسام الأردني ورفيقه بلال الصنعاني، القيادين بتنظيم حراس الدين/ الفرع السوري (قتلا في يونيو 2020)، وأبي محمد السوداني عضو مجلس شورى حراس الدين (قُتل في أكتوبر/ تشرين الأول 2020).
على أن مقتل “شيوخ الجهاد”- كما يسميهم الظواهري- كان سببًا في توجيه نقد إضافي لزعيم القاعدة، إذ انتقدت تدوينات نشرها نشطاء على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، اختفاءه الطويل وشبهته بأنه سلوك “الجرذان”.
وعلى ذات الصعيد، تجاهل “الظواهري”، بشكل لافت الإشارة إلى مقتل نائبه والقيادي البارز بالقاعدة أبو محمد المصري (قُتل داخل إيران، أغسطس/ آب 2020)، والمسؤول عن مؤسسة السحاب والجناح الدعائي للتنظيم أبو محسن المصري (قُتل بأفغانستان، أكتوبر/ تشرين الأول 2020).
ولعل سكوت زعيم التنظيم عن رحيل 2 من أبرز المسؤولين بـ”القاعدة في خراسان”، مرتبط بعدم رغبته في الإقرار بتداعي القيادة العامة/ المركزية للتنظيم، بعد تصفية أغلب أعضائها البارزين، فضلًا عن سعيه لنفي علاقته بإيران التي لا تزال ملاذًا آمنًا للعديد من عناصر القاعدة الفاعلين، وكذلك حرصه على عدم إثارة حفيظة حركة طالبان التي اشترطت على التنظيم ألا يُعلن عن أي وجود له داخل أفغانستان أو في المناطق الحدودية المتاخمة لها، مقابل السماح لعدد من أفراده بالتواجد هناك.
الظواهري.. بعد أن يُغادره التاريخ
وبخلاف تداعي وتآكل “القاعدة”، تؤكد كلمة أيمن الظواهري الأخيرة على انفصال التنظيم الكامل عن الواقع، ودخوله في فجوة زمنية مرتبطة بأحداث ووقائع انقضت منذ فترة طويلة، مع بلوغه لحظة شيخوخة حركية تقربه من أجله المحتوم، رغم محاولاته المستميتة للبقاء في واجهة الأحداث، وإبراز نفسه كمنظمة صامدة وفاعلة.
ويبدو زعيم القاعدة عالقًا في حقبة زمنية ماضوية، وسط إصراره على مناقشة الصراع العربي- الإسرائيلي، من منظوره الخاص، محاولًا تطويع الأحداث التاريخية لإثارة حماس الشباب وتوظيفهم لخدمة أغراض القاعدة عبر اللعب على الرمزية التي تُشكلها القضية الفلسطينية، التي يستدعيها “الظواهري” وغيره من قادة التنظيمات الجهادية، في خضم الأزمات التي تعصف بهم لكسب الزخم والاستمرار في التواجد على الساحة.
كما واصل “الظواهري” انتقاد القيادة الحالية لجماعة الإخوان، كما فعل من قبل في كتابه (الحصاد المر للإخوان في ستين عامًا)، معتبرًا أنها تخلت عن نهج زعيمها المؤسس حسن البنا، الذي جهز التنظيم الخاص (الجناح المسلح للإخوان)، ليشارك في معارك 1948 بفلسطين، أملًا أن يساهم هذا النقد في استقطاب كوادر جديدة لتنظيمه الذي تعرض لخلخلة غير مسبوقة، على مدار السنوات الماضية.
ويعترف “الظواهري”، ضمنيًا، بسقوط مجموعة القيادات المصرية التاريخية في القاعدة، وحدوث فجوة جيلية بين المجموعة التنظيمية القديمة والمجموعات الشبابية الأحداث، وذلك من خلال حديثه عن مجموعة (هشام عشماوي، وعماد عبد الحميد، وعمر رفاعي سرور) باعتبارها تبعث الأمل بأن مصر ما زالت تُنجب كوادرًا جهادية يحملون “راية القاعدة” من جيل إلى جيل، مع أن تحليل السياق الذي نشطت فيه هذه المجموعة يكشف بعدها النسبي عن الإطار الحركي التقليدي للقاعدة.
وتُشير نصوص التحقيقات التي أجرتها نيابة أمن الدولة المصرية العليا في القضية 975 لسنة 2017 (معروفة إعلاميًا بقضية خلية الواحات)، أن عماد عبد الحميد، وعمر رفاعي سرور أصرا على ألا يتم ربط نشاطهما المسلح بـ”راية القاعدة”، وطلب الأخير من أحد عناصر الخلية الإرهابية بقطع صلته مع أحد القيادات الإرهابية لأنه ادعى أن العمل يتم باسم “القاعدة”.
الإقرار بفشل الجهاد المعولم
ومن الواضح أن سعي المجموعات الجهادية المحلية للنأي عن تنظيم القاعدة وعلامته القتالية “المشوهة”، مرتبط، بشكل وثيق، بفشل مشروع الجهاد المعولم/ العابر للحدود الوطنية، الذي قاده التنظيم لفترة طويلة، وهو الأمر الذي يُقر به أيمن الظواهري، من خلال التذكير بأن نشأة هذا المشروع ارتبطت بوحدة الهدف القتالي النهائي للمجموعات الجهادية، رغم تعدد الجبهات المفتوحة عليها.
وفي هذا الإطار، يدعو زعيم التنظيم للعودة إلى مرحلة “الجهاد التضامني”/ جهاد الدفع، الذي يُمثل خطوة سابقة لتجسد الحركة الجهادية المعولمة في صورة “القاعدة”، لاسيما وأن مرحلة الجهاد التضامني لم تكن مرتبطةً بمشروعٍ إستراتيجي أو تنظيم محدد، وإنما اعتمدت على تنقل المقاتلين بين الجبهات المفتوحة للمشاركة في الحروب الدائرة تحت راية عامة، ذات صلة- في الغالب- بمشاريع التحرر الوطني كما حصل في حالتي أفغانستان إبان الغزو السوفيتي (1979: 1989)، وحرب البوسنة والهرسك (1992: 1995).
وبدلًا من التركيز على إستراتيجية قتال العدو البعيد/ الولايات المتحدة التي تبناها تنظيم القاعدة منذ بداياته المبكرة، أعلن زعيمه التحول إلى إستراتيجية غير واضحة الملامح تنغمس في الصراعات المحلية، أو بتعبيره- في كلمته الأخيرة-: (نخوض معركةً واحدةً على جبهاتٍ متعددةٍ، متحدين فأفغانستان هي فلسطين، وفلسطين هي كشمير- الإقليم المتنازع عليه بين الهند وباكستان-، وكشمير هي جروزني- عاصمة الشيشان التي شهدت تمردًا للانفصال عن الاتحاد الروسي في وقت سابق-، وجروزني هي إدلب- معقل الجهاديين في شمال سوريا-، وإدلب هي كاشغر- عاصمة الإيغور/ تركستان الشرقية التي ضمتها الصين لها-، وكاشغر هي وزيرستان- على الحدود الأفغانية الباكستانية-).
وتبين تلك الإستراتيجية غير المحددة، عودة التنظيم إلى المربع صفر الذي يُمثل مرحلة “ما قبل القاعدة”، والتي انغمست فيه المجموعات المحلية في القتال لأغراض ذاتية غير مرتبطة بفكرة الجهاد العابر للحدود الوطنية، التي تبناها أيمن الظواهري ورفيقه الراحل أسامة بن لادن، منذ عقود.
كما تلفت الإستراتيجية التي يتبناها “الظواهري”، إلى حالة التماهي الحاصلة بين تنظيمه وبين غريمه التقليدي (تنظيم داعش) على مستوى الإستراتيجيات والتكتيكات، إذ يدعو زعيم القاعدة- في كلمته الأخيرة- لإنهاك العدو في كل مكان واستنزافه بأفكار مبتكرة ووسائل بسيطة في معركة ميدانها كل الدنيا حتى يئن من نزيفه الاقتصادي والعسكري، وهي نفس الإستراتيجية التي أعلنها أبوبكر البغدادي، الزعيم السابق لداعش، عقب هزيمته وطرده من آخر معاقله في قرية الباغوز فوقاني السورية (مارس/ آذار 2019).
وبنظرة تحليلية لمجمل كلمة أيمن الظواهري، في الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر، يتضح أن زعيم القاعدة يواصل الركض في مكانه الذي مكث فيه، منذ توليه إمارة التنظيم، في يونيو/ حزيران 2011، خاصةً وأنه بقي طوال تلك السنوات يدعو لتشكيل “تحالف قتالي” بين تنظيمه والمجموعات المقربة منه، إضافةً لمحاولة طرح القاعدة في صورة أقل تشددًا باعتباره تنظيمًا دعويًا قتاليًا، لا قتاليا فقط، وهو ما أكده، مؤخرًا، بقوله: (أهنئ إخواني في شرق وغرب إفريقيا على انتصارين أحسبهما من أعظم ما من اللهُ به عليهم من انتصاراتٍ، ألا وهو الانتصارُ في ميدان الدعوة إلى الإسلام، فإن مقصدَ المجاهدين هداية الخلق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور).
وفيما تُسلط الآلة الدعائية للقاعدة الضوء على محاولات أيمن الظواهري، لإصلاح علامة القاعدة الجهادية المشوهة، يبقى زعيمه، مختفيًا عن الأضواء ومحاطًا بهالة من الغموض المريب، بينما تحل الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر لتُثبت أن إنجاز التنظيم الأهم لا يُساوي قطرة من الدماء التي سالت بسببه، كما يقول روح الله عمر الأفغاني، المحلل المقرب من حركة طالبان حليف القاعدة التاريخي.