أزمة ليتوانيا والصين مقدمة لشيء أكبر… من المعروف أنّ الصين تستخدم العلاقات الاقتصادية كنوعٍ من أساليب الضغط على دول أخرى، في ما يتعلق بالملفات التي تشكل حساسية لبكين، كما هو الحال في ملف تايوان، إذ رسمت الحكومة الصينية خطوطاً حمراء لكلِّ مَن لا يتوافق معها في سياستها تجاه ذلك البلد الآسيوي، ولو كان ذلك لبلد في الاتحاد الأوروبي.
- الصين تحاول ترهيب ليتوانيا لكنها لم تنجح بعد والأخيرة صامدة حتى الآن
- الصين لا تريد أن تسجل ليتوانيا سابقةً فتحذو حذوها دول أخرى
- الصين مستعدة لاستخدام كلّ السبل المتاحة كي تجعل الدول الأخرى تخدم أجندتها
- سيدعم الإتحاد الأوروبي كل ما تعتبره ليتوانيا حقاً شرعياً لها
- السياسة التي يعتمدها الإتحاد الأوروبي منذ العام 2019 ترتكز على 3 عناصر
المثال الأبرز على الضغوط الاقتصادية التي تمارسها الصين ضدّ الدول المخالفة لسياساتها، التوتّر الذي حصل مؤخراً بين ليتوانيا والصين، وتحديداً أواخر شهر أغسطس الماضي، عندما قرّرت فيلنيوس فتح مكاتب تبادل ديبلوماسي مع تايوان، الأمر الذي أثار حفيظة بكين، وترتّب عليه طرد الصين للسفير الليتواني من بكين واستدعاء سفيرها من ليتوانيا، وكذلك إيقاف بكين لتجارتها مع البلد الأوروبي عبر إيقاف الشحن بالسكك الحديدية إلى ليتوانيا، وإيقاف تصاريح التصدير لمنتجي البلاد، بما في ذلك من الزراعة وتربية الحيوانات وصناعات الأخشاب.
في ما يتعلق بسياسة ليتوانيا تجاه تايوان، تكمن المشكلة في أنّه بدلاً من تسمية البعثة الديبلوماسية التايوانية غير الرسمية في ليتوانيا “مكتب تايبيه التمثيلي”، وهو الإسم الذي يطلق على معظم المكاتب التمثيلية التابعة للمستعمرات، فضلت ليتوانيا تسميته بـ”مكتب تايوان التمثيلي” بفارق كلمة واحدة بين تايبيه وتايوان، وهذا الأمر مناط بحق ليتوانيا السيادي حول استعمال التسمية التي تريدها، للإشارة إلى هذا المكتب التمثيلي غير الرسمي، وهي لا تقيم علاقات ديبلوماسية رسمية مع تايوان ولا تعترف بتايوان كدولة مستقلة.
الصين لا تريد أن تسجل ليتوانيا سابقةً فتحذو حذوها دول أخرى، وتمكّن تايوان من أن تحصل بسرعة على اعتراف دولي
نموذج الضغوط الصينية على ليتوانيا لا يعتبر الأوّل من نوعه، فهذه ليست المرة الأولى التي نرى فيها بكين تمارس ضغوطا على مخالفيها، ولكي نفهم الصورة بشكل أفضل لابد أن نورد نبذة عن صلب المشكلة بين الصين وتايوان.
إنّ صلب المشكلة بين البلدين الآسيويين، هو أن تايوان لم تكن جزءاً من البر الصيني منذ العام 1894 وقبل ذلك كانت مستعمرة لامبراطورية “شين” وهي من امبراطوريات المانشو التي احتلت تايوان والبر الصيني على حد سواء. وبالتالي من وجهة النظر هذه هي ليست جزءاً تابعاً للصين، إلا أنه عام 1949 عندما خسر حينها زعيم الحكومة القومية الصينية “جانكاي شيك” الحرب الأهلية ضد الشيوعيين في الصين، انسحب إلى تايوان واحتلها وواصل الادعاء بأنها جزء من جمهورية الصين حتى وفاته في سبعينيات القرن العشرين. وبعد العام 1949 بقيت الصين تدّعي بأن تايوان منطقة مقدسة تابعة لها وتحاول أن تحكم قبضتها عليها.
ما بين عام 1949 و1950 واصل جانكي شيك الإدعاء من تايوان أنّ الحكومة الصينية التي كان يرأسها ما زالت قائمة وبقيت تشغل موقعها في الأمم المتحدة كممثل رسمي عن الصين إلى أن تغير الوضع عام 1972، حينها شعر الحزب الشيوعي الصيني أن شرعيته كحكومة تتعرض للخطر بسبب وجود ممثل لجمهورية الصين على أرض تايوان، وهو الأمر الذي أفرد لتايوان أهمية بالغة بالنسبة للحزب الشيوعي الصيني.
إضافة إلى ما سبق، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت الصين تطوّر في ساحلها الشرقي مدناً عصرية يكثر فيها النشاط الإقتصادي والصناعة وكانت تبني أيضاً سلاحاً بحرياً وكانت تجري تغييرات على موقفها الدفاعي السابق المعتمد في فترة حكم ماوي، والذي أصبح يهدف إلى منع الغزاة الأجانب من دخول الصين بحيث يقوم الجيش الصيني بتدمير الغزاة داخل الصين عبر إنشاء خط دفاع بحري متقدم؛ وهذا يعني تأمين سلامة الساحل الشرقي الصيني بأكمله من أي هجوم أو غزو، ولهذا السبب تحتاج الصين إلى وجود منطقة دفاعية محيطة يطلقون عليها إسم “السلسلة الجزرية الأولى” ويمتد هذا الخط من طرف اليابان الجنوبي مروراً بتايوان ووصولاً إلى بحر جنوب الصين وهكذا تقع تايوان في قلب خط “السلسلة الجزرية الأولى” البحري الدفاعي الصيني، لذلك أصبحت تايوان تكتسي اليوم أهمية حقيقية واستراتيجية بالنسبة إلى أمن الصين وهذه الإستراتيجية الصينية البحرية تمتلك خطاً دفاعياً آخر يذهب إلى ما بعد تايوان ويصل إلى المحيط الهادىء ويطلقون عليه إسم “السلسلة الجزرية الثانية” وبحسب هذا الخط يقسمون المحيط الهادىء إلى جانبين: جانب غربي صيني وجانب شرقي أمريكي.
ضغوط اقتصادية
إنّ الحكومة الصينية مستعدة لاستخدام كلّ السبل المتاحة لها لكي تجعل الدول الأخرى تخدم أجندتها؛ فالحكومة الصينية تنظر إلى تايوان كمنطقة نفوذ سياسي ولذلك تستخدم الضغط الإقتصادي وأي سبيل آخر متاح لها كي لا يصدر عن الحكومات الأخرى أي كلام أو تصرف بحيث يعتبر اعترافاً بوجودها المستقل. وتستخدم الحكومة الصينية ذلك أبعد من علاقاتها مع هذه الحكومات لتشمل شركات وطنية أو متعددة الجنسيات.
ولا يمكن أن نغفل أنّ بكين تعتبر ليتوانيا دولة صغيرة جداً وفكرة قيامها بتحدي الصين وعدم احترامها في ما يتعلق بتايوان التي تعتبرها الصين منطقة صينية مقدسة كانت فكرة غير مقبولة البتة. كما أنّ الصين لا تريد أن تسجل ليتوانيا سابقةً فتحذو حذوها دول أخرى وتمكن تايوان من أن تحصل بسرعة على اعتراف دولي، وذلك لأنه قبل نهاية زعامة شي جين بينغ للصين سيبذل قصارى جهده بما فيه استعمال القوة العسكرية للسيطرة على تايوان، وهكذا لا تريد الصين بكل بساطة أن تتعرقل سيطرتها على تايوان من خلال اعتراف الدول بها كأمة مستقلة ذات سيادة.
العلاقات ستواصل التردّي والتراجع من مستوى تمثيل كامل بالسفراء إلى تمثيل بمراكز أقل لبعض الوقت، إلّا إنْ خضعت ليتوانيا لضغوط الصين
السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه، هل الضغوط الصينية على ليتوانيا ستمتد للضغط على الإتحاد الأوروبي؟!
للإجابة عن هذا التساؤل لا بد أن نفهم أن ما تقوم به الصين حالياً من خلال قطع العلاقات الإقتصادية مع ليتوانيا هو نوع من الضغط الإقتصادي، في المقابل سيدعم الإتحاد الأوروبي كل ما تعتبره ليتوانيا حقاً شرعياً لها، لذلك لن تقبل ليتوانيا والإتحاد الأوروبي أن تملي الصين على ليتوانيا ما تفعله، وبالتالي سيدعم الإتحاد الأوروبي ليتوانيا وهذا ما لا تتقبله الصين.
ولا بد من الإشارة إلى أنّ الأزمة بين ليتوانيا والصين، ستجعل العلاقة بين بكين والإتحاد الأوروبي أكثر تعقيداً، لأنّ الإتحاد الأوروبي يحاول جاهداً أن يجد توازناً في مقاربته مع الصين. فالسياسة التي يعتمدها منذ العام 2019 ترتكز على 3 عناصر: معاملة الصين كشريك تفاوضي، الاعتراف بأن الصين منافس إقتصادي والاعتراف بالصين كغريم منهجي.
إنّ الإتحاد الأوروبي عادة لا يضع الغريم المنهجي في مقدمة التنافس الاقتصادي أو الشراكة في تعاطيه مع التحديات والمسائل المشتركة. ولكن من وجهة نظر الإتحاد الأوروبي كلما ازداد الترهيب الصيني لدولة عضو في الإتحاد الأوروبي كلما تعقّد الموقف الأوروبي ككل، وتم اتخاذ موقف صارم من الصين وبكين تفهم جيداً أن نظام الإتحاد الأوروبي يدير كل الدول الأعضاء على نحو متساوى.
نقطة أخرى غاية في الأهمية لا بدّ أن نشير إليها، وهي أنّه في حال ليتوانيا فإن تجارتها مع الصين محدودة وليست على درجة عالية من الأهمية، وبالتالي لن يكون لها الوقع الذي تتوقعه الحكومة الصينية، والواقع أنه لو كان حجم التجارة مع الصين مهما للغاية كما هي الحال مع استراليا، لا يستطيع الضغط الإقتصادي الصيني أن يؤثر على الحكومة الاسترالية ويجعلها تنفذ اجندة الحكومة الصينية فضلاً عن أن النزاع بين الصين وأستراليا لا يتعلق بمسألة تايوان بل بمسألة أخرى.
الحكومة الصينية ترى أنه من الصعب أن تجعل الادارة الأميركية تذعن لإرادتها، لكنّها تعرف جيّداً أنّه لا يصعب جعل دول أخرى تذعن لها
من الملفات الشائكة الأخرى التي تحكم علاقة الاتحاد الأوروبي بالصين، الانتقادات التي يوجهها التكتل الأوروبي لبكين في المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان، وكما أسلفت سابقا، هناك عاملان أساسيان يحكمان هذه العلاقة: أولاً المقاربة العامة التي تعتمدها الحكومة الصينية والتي لا تقبل أن ترفض أي حكومة ادعاء الصين إلا اذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية، وثانياً أن ليتوانيا بلد صغير وهنا تنظر الصين إلى أن الدول الصغيرة يجب أن لا تتحدى بكين، وهذا ليس جديداً أبداً، فالحكومة الصينية قامت بذلك عام 2010 أو قبله بقليل، في اجتماع منتدى آسيان الإقليمي في هانوي عندما ذكرت وزيرة الخارجية الأمريكية حينها، هلاري كلينتون في كلامها شيئاً عن بحر الصين الجنوبي، وهو الأمر الذي لم يعجب الحكومة الصينية ونظر حينها وزير الخارجية الصيني في عيني وزير الخارجية السنغافوري قائلاً :” ثمة دول كبيرة وثمة دول صغيرة وهذا واقع”!.
وفي المحصلة فإنّ لدى الصين مشكلة في التعامل مع الدول الصغيرة، وهذا ما يفسر محاولة بكين ترهيب ليتوانيا، إلا أن المعطيات تشير إلى أن الصين لم تنجح بذلك بعد، فليتوانيا صامدة حتى الآن،
وإن كانت التوقعات تشير إلى أن العلاقات ماضية نحو الأسوأ بين البلدين.
كما ستواصل الحكومة الصينية تطبيق المقاربة نفسها مع دول العالم بأسره، إلا إذا قوبلت بجبهة قوية تتصدى لسياساتها. وكلنا يعرف أن الحكومة الصينية ترى أنه من الصعب أن تجعل الادارة الأمريكية تذعن لإرادتها.