غرام ثم انفصال.. كيف تعامل قادة طالبان عبر التاريخ مع تنظيم القاعدة
أثناء حفل إفطار أقيم بالقصر الجمهوري بالعاصمة الأفغانية كابل، عام 1996، توجه الملا إحسان الله إحسان (الرجل الثالث في حركة طالبان، ومحافظ البنك المركزي الأفغاني، آنذاك)، بالحديث لأسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة المؤسس، قائلًا: “إنك نصرت الأفغان وجاهدت معهم”، ثم أجهش بالبكاء للحظات، قبل أن يضيف: “يا ليتني كنت جذعًا/ شابًا، حين يخرجك قومك (يعني حركة طالبان)”، فرد “بن لادن”: (أو مخرجي هم؟!)، فأجاب الرجل الثالث في الحركة: نعم.
كان موقف “إحسان الله إحسان- والذي شغل أيضًا منصب مفتي وخطيب الحركة قبيل مقتله في معارك مزار شريف ضد قوات المارشال عبد الرشيد دوستم، ومقاتلي الهزارة الشيعة في مايو/ آيار 1997- بمثابة إشارة ضمنيةً لتباين آراء قيادات “حركة طالبان” بشأن الموقف من تنظيم القاعدة وإستراتيجيته الجهادية المعولمة، وتأكيدًا على فكرة التدافع الداخلي في الحركة الأفغانية، والذي ارتبط بجذور نشأتها كحركة “إثنية قومية دينية”، تضم في صفوفها خليطًا من: (المولوية، وطلبة العلوم الدينية، والكومندانات، والمقاتلين السابقين الذين قاتلوا القوات السوفيتية المحتلة خلال سنوات الحرب العشر 1979: 1989).
وتزامن اللقاء السابق، مع انشغال الجهاديين المقيمين في أفغانستان وخارجها بالموقف من حركة “طالبان”، في ظل رواج العديد من التساؤلات حول التحالف القتالي والإستراتيجي معها، كما يقول أبومصعب السوري، منظر القاعدة الشهير، في سلسلته الصوتية “أفغانستان والطالبان ومعركة الإسلام اليوم”، والتي صدرت، في عام 1998، ونشرت كذلك في بحث مكتوب بنفس العنوان عن “مركز الغرباء” للدراسات الذي أنشأه، أثناء إقامته في كنف الحركة، قبيل الغزو الأمريكي عام 2001.
حلف الضرورة: أعراف القبيلة ومعضلة التنظيم
ورغم أن “طالبان” و”القاعدة”، صورا في تلك الفترة كـ”حليفين قويين”، إلا أن التدقيق في تاريخ وسياق نشأة العلاقات بينهما، يكشف أن تعاطي الحركة الأفغانية مع الجهاديين العرب المنخرطين في تنظيم “بن لادن”، لم يسر على وتيرة واحدة، فبعض مكونات الحركة كان متماهيا مع التنظيم، والآخر اضطر للتعامل معها وتوفير الحماية له وفق ضرورة أملتها الأعراف القبلية المحلية على الحركة بعد سيطرتها على مناطق جنوب وشرق البلاد، منتصف تسعينيات القرن الماضي.
وخلال تلك الفترة، مكث أسامة بن لادن وأتباعه المعروفين بـ”الأفغان العرب”، في مدينة جلال آباد (عاصمة ولاية ننجرهار، شرق أفغانستان)، في حماية الملا محمد يونس خالص– أحد قادة الجهاد ضد السوفيت، والذي انشق عن الحزب الإسلامي الأفغاني وتفرغ لرعاية شؤون قبيلته، إبان الاحتراب الأهلي بين الفصائل الأفغانية، قبل أن تُسيطر طالبان على المدينة، دون قتال، بناءً على تفاهم معه.
وبموجب هذا التفاهم، ورثت الحركة حماية تنظيم القاعدة والأفغان العرب- الذين تمركز أغلبهم في مناطق “يونس خالص”- خاصةً أن الأعراف القبلية الأفغانية تحظر تسليم الضيوف، والمحتمين بأبناء القبائل إلى أعدائهم.
ويوضح أبو مصعب السوري أن وفود طالبانية قادها وزراء ومسؤولون بالحركة زارت أسامة بن لادن، عقب دخول قوات الحركة إلى جلال آباد، عام 1996، وأسمعوه كلامًا في الجوار والضيافة، وقال بعضهم للأفغان العرب: “أنتم المهاجرين ونحن الأنصار”، وأضاف الملا يونس خالص لزعيم القاعدة: “أنت في ضيافتنا ولن يصل إليك أحد، وإذا حصل من الطالبان شيء أخبرني، رغم أن إمكانياتي بعد وصولهم قليلة، ولكن سأبذل ما في وسعي”.
بيد أن حالة الترحيب باستضافة زعيم القاعدة لم تخفِ حقيقة وجود خلافات داخلية في طالبان حول الموقف من “الأفغان العرب، إذ انقسمت الحركة، بحلول أواخر عام 1996، إلى تيارين رئيسيين أولهما تيار الدعم المشروط لإيواء التنظيم وعلى رأسه الملا محمد عمر، الزعيم التاريخي لطالبان، والآخر تيار الرفض لوجود مقاتلين أجانب على أراضي البلاد وفي مقدمتهم مولوي هبة الله آخوند زاده الملا محمد حسن آخوند (رئيس الوزراء الحالي في أفغانستان)، ويميل إلى التخلص منهم مقابل حماية المصالح الذاتية للحركة، وفق تعبير مصطفى حامد أبو الوليد، مستشار بن لادن السابق، في كتابه صليب في سماء قندهار.
ويؤكد “أبو مصعب السوري”، في سلسلته الصوتية، أن التيار الأخير الذي يصفه بـ”الفاسد”، ارتبط بعلاقات ومصالح مع قوى إقليمية ودولية، ورفض مبدأ عولمة الصراع الذي تبناه تنظيم القاعدة، وأبدى استعداده للتخلص من الجهاديين العرب مقابل ضمان مصالح طالبان وعلاقاتها الخارجية.
طالبان وإعلان الجهاد العالمي
وبمرور الوقت، بدأت مشاعر الرفض تجاه “القاعدة” تتنامى، لا سيما أن اللقاءات والتصريحات الإعلامية التي أطلقها أسامة بن لادن، أدت لردود أفعال غاضبة من عدة دول في مقدمتها الولايات المتحدة، وباكستان والمملكة العربية السعودية، وحينئذ، قويت حجة التيار المعارض للتنظيم، وصّعد الملا محمد حسن آخوند نقده له، قائلًا إنه “خصم مذهبي” لطالبان”، كما دعم قيادته خصوم الحركة (عبد الرسول سياف، وبرهان الدين رباني)، إبان الغزو السوفيتي، وأن عليهم الخضوع لقوانين الإمارة وتعليق “إعلان الجهاد”- يقصد إعلان بن لادن وحلفائه “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبين“– لأنه تم قبل سيطرة الحركة على العاصمة كابل، وبالتالي لابد من إدخال تعديلات جوهرية عليه وأن يخضع لرؤية “أمير طالبان” وقدرته على التحمل.
ويلمح مصطفى حامد أبو الوليد إلى أن المقاتلين العرب أجمعوا، في تلك الفترة، على ضرورة أن ينتبهوا- وفي مقدمتهم بن لادن- أن أفغانستان هي الملاذ الآمن الأخير لهم، وبالتالي ترك تقدير أمور ومصالح الدولة للملا محمد عمر، وأبدى زعيم القاعدة المؤسس اقتناعه، ظاهريًا فقط بوجاهة هذا الرأي، لكنه لم يوقف تهديداته وتصريحاته النارية ضد الولايات المتحدة، معتبرًا أن الفشل الأكبر لزعيم طالبان التاريخي كان فشله في “إغلاق فم بن لادن”.
بن لادن V.S الملا عمر
ومن جانبه، حاول “الملا عمر” الوصول لتفاهم مع أسامة بن لادن، والتقى به عدة مرات- بحسب ما رواه مصطفى حامد أبو الوليد، وناصر الوحيشي (أبو بصير) حارس بن لادن ورفيقه، بشكل منفصل- وتحذيره من “غوغائية العمل الإسلامي”، طالبًا منه التوقف عن انتقاد الولايات المتحدة أو تهديدها حتى لا يمنحها ذريعة لغزو أفغانستان تحت دعوى مكافحة الإرهاب.
وأمر الملا عمر “بن لادن” بالالتزام بتوجيهات “الإمارة الإسلامية”/ طالبان، والتوقف عن التواصل مع الإعلام الدولي، قائلًا إن مقاتلي الحركة الأفغانية ليسوا أقل غيرة على الدين من نظرائهم في القاعدة، لكنهم ليسوا في معركة مع الولايات المتحدة أو غيرها، لأن أوضاعهم غير المستقرة لا تسمح بالانخراط في مواجهة أخرى.
ولفت أمير حركة طالبان إلى أن “إستراتيجية القاعدة غير مجدية”، لأنها تزعم مواجهة إسرائيل فيما تهاجم الولايات المتحدة، مؤكدًا على طلبه بوقف التحريض ضد الولايات المتحدة، بجانب عدم تسليم مقاتلي القاعدة لأي دولة أو جهة خارجية، مردفًا: “أنت على الرحب والسعة وهذه بلدك تفعل فيها ما تشاء”، على حد تعبير مصطفى حامد أبو الوليد.
ولاحقًا زادت الضغط الدولي على الحركة الأفغانية، وطالب الأمين العام للأمم المتحدة (الأسبق) كوفي عنان بتسليم زعيم القاعدة للولايات المتحدة للتحقيق معه في اتهامه بالوقوف وراء هجمات السفارات الأمريكية في نيروبي (كينيا)، ودار السلام (تنزانيا)، لكن الملا محمد حسن آخوند (وزير خارجية طالبان وقتها)، رفض تسليمه، متعللًا بأنه لا توجد اتفاقية لتسليم المجرمين بين أمريكا وحكومة طالبان، وأن التحقيق الذي أجرته الحركة خلص إلى عدم تورط زعيم القاعدة في الهجمات المذكورة، على حد تعبيره.
كما رفضت وزارة الخارجية الطالبانية تسليم “بن لادن” بناءً على رفض الملا عمر، وعرضت على واشنطن اقتراحين للتعامل مع زعيم القاعدة أولهما إبقائه داخل البلاد وتقييد حركته تمامًا بفرض رقابة عليه من قبل مراقبين أفغان ودوليين، والثاني مثوله أمام “محكمة شرعية” تتشكل من دول ثلاث هي: (أفغانستان، والسعودية ودولة أخرى لم يحددها)، وهو ما رفضته الولايات المتحدة.
على أن تصاعد الضغط الدولي على الحركة الأفغانية، لم يدفع زعيم القاعدة لوقف مخططاته لتنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة، فوجه مجموعة/ سرية خاصة من التنظيم لتنفيذ هجمات الـ11 من سبتمبر/ أيلول 2001، في قلب الولايات المتحدة، دون إبلاغ قيادات الحركة الأفغانية.
ما قبل “عاصفة سبتمبر”
ومع اكتمال وصول مجموعة تنفيذ هجمات 11 سبتمبر، حاول “بن لادن” جس نبض قيادات “طالبان”، من جديد، بشأن مهاجمة الولايات المتحدة، كما يقول ناصر الوحيشي (أمير القاعدة الأسبق في اليمن 1976: 2015)، في كلمة صوتية سابقة له نشرت مفرغةً في مقال عبر صحيفة “المسرى” التابعة للتنظيم، بعنوان “القصة غير المروية لأحداث 11 سبتمبر“.
وبحسب “الوحيشي” فإن وفدًا من طالبان ضم الملا محمد حسن آخوند، والملا معتصم آغاخان، رئيس الهيئة السياسية ووزير مالية الحركة (سابقًا)، سيد محمد طيب آغا، مؤسس المكتب السياسي للحركة، وعبد الحليم آغا، القيادي الطالباني البارز، اجتمع بوفد من القاعدة ضم أسامة بن لادن، وأبو حفص المصري، نائب زعيم التنظيم (سابقًا)، وأيمن الظواهري، ومصطفى أبو اليزيد، رئيس اللجنة المالية للتنظيم، وناقشوا مسألة الهجمات ضد الولايات المتحدة.
وخلال الاجتماع، قال أسامة بن لادن لقيادات الحركة الأفغانية: “سيكتب لكم التاريخ أيها الطالبان شيئين: أنكم حفظتم العرب من الأمريكان وهذه لكم، وأنكم حفظتم الأمريكان من العرب وهذه عليكم”، فرد الملا محمد حسن: “لا، هذا غير صحيح”.
وبدوره، طلب زعيم القاعدة من الملا محمد حسن آخوند أن ينقل ملف صورٍ للاشتباكات الإسرائيلية- الفلسطينية، إلى الملا عمر، ليبرر به توجه القاعدة القتالي وإستراتيجيتها العدائية تجاه الولايات المتحدة والدول الغربية، غير أن الأخير اعترض على ذلك، لأن أمير طالبان لا ينظر إلى الصور (انطلاقًا من اختيار فقهي لفقهاء الحركة يحرم التصوير الفوتوغرافي)، قبل أن يقبل في نهاية المطاف أمام إلحاح الأول.
ويردف ناصر الوحيشي أن الملا عمر أصر على رفض تنفيذ الهجمات ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وقبل تنفيذ هجمات ضد “اليهود”- على حد وصفه-، لكن “بن لادن” اعتبر أن “الأمريكان” هم الوجه الآخر لليهود، وقرر المضي قدمًا في استهدافهم، مخالفًا توجيهات أمير طالبان.
وقبيل فترة وجيزة من سبتمبر/ أيلول 2001، اجتمع أسامة بن لادن بعناصر وقيادات القاعدة، في أحد مساجد قندهار وأخبرهم أن التنظيم سيضرب الولايات المتحدة “ضربة قوية وموجعة”، دون أن يخبرهم بالتفاصيل، فاعترض مصطفى أبواليزيد وأكد أن هذه المسألة ستكون عواقبها وخيمة على الأفغان، ولابد من استشارة الملا عمر فيها، لكن زعيم القاعدة رفض الالتفات إلى رأيه، وفقًا لما ذكره “ناصر الوحيشي”.
الترويع والصدمة: نشأة طالبان الجديدة
وبحلول مساء الحادي عشر من سبتمبر 2001، نقلت الإذاعات الدولية الهجوم على برجي التجارة العالميين، ومقر وزارة الدفاع الأمريكية، وقررت إدارة الرئيس جورج بوش (الابن)، شن حملة عسكرية لإسقاط نظام طالبان والقضاء على تنظيم القاعدة، وبالفعل بدأت الحملة في الـ7 من أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام.
ومع توالي هزائم طالبان، قرر الملا محمد عمر إخراج جميع الأفغان العرب من البلاد، بحجة أن الحركة أصبحت عاجزةً عن حمايتهم، كما سلم العاصمة الفعلية لطالبان “قندهار” إلى قوات تحالف الشمال، بناءً على مفاوضات بين الطرفين، مقرًا بانتهاء مرحلة في تاريخ الحركة وبدء أخرى، وفقًا لـ”مصطفى حامد أبوالوليد”.
وفي يونيو/حزيران 2003، أعاد الملا عمر هيكلة الحركة، وتشكيل مجلسها القيادي/ مجلس الشورى القيادي (يتكون من عدد غير معروف من الأعضاء، وتشير تقارير إلى أن عدد أعضائه حوالي 18 عضوًا)، كما اختار نوابًا له (النواب هم أعلى سلطة تنفيذية بعده)، أبرزهم الملا أختر منصور، أحد مؤسسي الحركة ورئيس مكتبها السياسي، ونائب الملا عبد الغني برادار (صهر الملا عمر) سابقًا، ومولوي هبة الله آخوند زاده، الذي كان يحظى بنفوذ قوي ومكانة مميزة داخل الحركة الأفغانية.
غير أن تصعيد الملا أختر منصور، حمل دلالة على التحول الحركي والقيادي داخل طالبان، خصوصًا وأنه قريب من المجموعة المعروفة بـ”مجلس شورى كويته“، المعروفة بنهجها البراجماتي الذي يركز على المصالح الذاتية لطالبان ويرفض الاتجاه الجهادي العابر للحدود الوطنية.
ومن الواضح أن قيادة القاعدة أدركت، حينها، أن “تحالفها الهش” مع طالبان قد تضعضع، فسعت لتوثيق علاقاتها بالمجموعة الأكثر تشددًا داخل الحركة الأفغانية، والتي مثلها الملا داد الله الشهير بـ”ذباح/ زرقاوي أفغانستان”، بالإضافة لشبكة حقاني الطالبانية.
وتكشف رسالة وجهها أسامة بن لادن لنائبه أيمن الظواهري، عام 2008، تخوف زعيم القاعدة من قيام التيار الرافض له داخل الحركة الأفغانية بتصفية كوادر التنظيم بدعوى مصلحة الإمارة الأفغانية، وذلك عقب مقتل الملا داد الله في مايو/ آيار 2007.
وأوصى “بن لادن”، نائبه المصري بالعمل على تقوية المجموعات/ التيار الداعم للقاعدة داخل طالبان وعلى رأسه الملا منصور داد الله (شقيق الملا داد الله)، ومدافعة التيار ـ”المهادن”/ الرافض للتنظيم داخل الحركة، الذي يصفه بمندوب الاستخبارات العسكرية الباكستانية ISI، معتبرًا أن الهدف النهائي له هو تحجيم القاعدة وإقصائها.
غير أن رياح الحركة أتت بما لا تشتهي سفن التنظيم، فسيطر الملا أختر منصور ومجموعة مجلس شورى كويته على مقاليد الأمور داخل الحركة الأفغانية، لسنوات طويلة، وأخفوا نبأ وفاة الملا عمر (أبريل/ نيسان 2014)، وظل نائبه يصدر البيانات باسمه، ممتدحًا نهج الحركة الجديد السعي لإنهاء الحرب الأفغانية عن طريق التفاوض مع الولايات المتحدة.
كما تلقى الجناح الدعم للقاعدة ضربة قوية بتولية أختر منصور أميرًا لطالبان في يوليو/ تموز 2015– والذي اختار مولوي/ عالم (أعلى من الملا التي تعني طالب العلوم الشرعية) هبة الله آخوند زاده (الأمير الحالي لطالبان) نائبًا له- وهو ما رفضته مجموعة الملا منصور داد الله، الشهيرة بـ”فدائي محاذ” أو “الجبهة الاستشهادية/الفدائية”، التي رفضت النهج الجديد للحركة، وخاضت قتالًا ضد التيار الآخر في طالبان، أسفر عن زعيم الجبهة في نهاية المطاف.
“براجماتيو طالبان” والسيطرة على الحركة
ونجحت القيادة الجديدة لحركة طالبان في احتواء التصدعات الحاصلة في بنيتها التنظيمية، واستعادة السيطرة على الحركة باتباع مقاربة متعددة المحاور شملت استقطاب واسترضاء مجموعة من القيادات البارزة، على رأسهم الملا محمد يعقوب (نجل الملا عمر)، والملا عبد المنان (شقيق مؤسس طالبان)، فضلًا عن استئصال المجموعات التي أصرت على الانشقاق، وشن حملة دعائية ضد خصوم أختر منصور وهبة الله آخوند زاده.
وركزت القيادة الجديدة لحركة طالبان على توثيق علاقتها بالقوى الإقليمية والدولية، واستكمال مسار مفاوضات السلام مع الولايات المتحدة، كما فرضت على قيادة تنظيم القاعدة وأنصاره عدم إعلان وجودهم في البلاد أو نشر أي بيانات أو إصدارات إعلامية من داخل أفغانستان، كما يقول أبو محمود الفلسطيني، الجهادي الشهير المحسوب على هيئة تحرير الشام.
ويبدو أن القيادة الحالية لحركة طالبان – وعلى رأسها هبة الله آخوند زاده، تركز على مصالحها الذاتية، وتحرص على أن لا يتسبب تنظيم القاعدة في الإضرار بها، كما فعل سابقًا، إبان حقبة الملا عمر والتي شهدت الإطاحة بحكم الحركة نتيجة إيوائها مقاتلي القاعدة الأجانب.
ومن اللافت للنظر أن قيادة القاعدة المركزية تجنبت، بشكل واضح، الحديث عن تواجدها داخل أفغانستان أو في منطقة الحدود الباكستانية المحاذية لها (وزير ستان)، رغم وجود تأكيد فريق الدعم التحليلي التابع لمجلس الأمن الدولي، في تقرير سابق له، وجود ما بين 400: 600 مقاتل تابع للتنظيم في البلاد، وإجراء أيمن الظواهري وقيادات القاعدة البارزين اجتماعات متتالية مع قيادات شبكة حقاني (إحدى مكونات طالبان).
كما تجنبت قيادة تنظيم القاعدة رثاء عناصرها أو قادتها البارزين الذين قتلوا داخل أفغانستان، كما حصل مع أبو محسن المصري، المسؤول عن الجناح الدعائي له، الذي قتل في عملية لقوات الأمن الأفغانية في مدينة غزنة (جنوب غربي العاصمة كابل).
وعلى نفس المنوال، حرصت القيادة المركزية للقاعدة على عدم ذكر أي روابط بينها وبين الحركة الأفغانية، في بيان التهنئة الذي أصدرته بمناسبة سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان، في أغسطس/ آب الماضي.
حائرًا وسط الأحداث
وفي حين، التزمت القيادة المركزية للقاعدة، بالتوجيهات الواردة إليها من قيادة حركة طالبان الأفغانية، حاولت أفرع التنظيم الخارجية مغازلة طالبان، وتذكيرها بتحالفها القديم معه.
ففي بيان تهنئة صادر عن كتائب الكردستان في العراق وإيران، خلال أغسطس/ آب الماضي، قالت الكتائب إن نحو 100 فرد من مقاتليها (المبايعين للقاعدة)، قاتلوا إلى جوار حركة طالبان، للتصدي للغزو الأمريكي.
“لقد خاض غمار مقاتلة الأعداء مع الإمارة أكثر من ١٠٠ فرد من الأكراد ضد الغزو الصليبي على ثرى الأفغان”
بيان كتائب الكردستان القاعدية
كما ذكر كتاب جديد صادر عن “القاعدة في اليمن” (تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب: التعريف – الأهداف- المشروع- المبادئ- السياسة)، أن تنظيم القاعدة العالمي مبايع لـ”طالبان”، ويدين لها بـ”حق السمع والطاعة”، بجانب حق النصرة والولاء والدعم المالي والعسكري والبشري.
وأشاد إبراهيم القوصي/ خبيب السوداني، رفيق بن لادن (سابقًا) ومساعد أمير القاعدة في اليمن حاليا، في إصدار مرئي نشرته مؤسسة الملاحم، في الـ7 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بعنوان: “رسالة إلى الشعب الأمريكي.. لم تفهموا الدرس بعد”، بزعيم حركة طالبان الحالي هبة الله آخوند زاده، ووصفه بـ”أمير المؤمنين”، وذلك بعد تجاهل التنظيم لهذه التسمية في بعض المواد الدعائية الصادرة عنه.
غير أن تلك المغازلات المستمرة،، حظيت بتجاهل واضح من قبل قيادة حركة طالبان، لعدة أسباب منها انتهاج أمير حركة طالبان الحالي لنهج مغاير لسلفه الملا محمد عمر، في ما يتعلق بالقاعدة، وهو ما ظهر جليا في تجاهل الأول لبيعة تنظيم القاعدة، ورفضه الإجابة على رسالة أيمن الظواهري العلانية بالولاء له.
وعلى هذا الصعيد، أكد عدد من قياداتها البارزين عدم وجود علاقة/ تواصل مع التنظيم، وأن التنظيم ليس له مكان آمن في البلاد على حد قول المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد في مقابلة سابقة مع أخبار الآن.
ومن جهته، أوضح مولوي عبد الغفار محمدي “كوماندر” طالبان بقندهار الأفغانية أن الحركة ستلتزم بنص اتفاقية السلام المبرمة مع الولايات المتحدة، ولن تسمح لتنظيم القاعدة أو غيره بالتواجد على أراضي البلاد أو استخدامها في تنفيذ هجمات إرهابية، واصفًا العلاقات مع التنظيم بأنها “جزء من الماضي”.
وبالرغم من تشديد قيادات طالبان على تغيير موقفها من تنظيم القاعدة العالمي، لازال التنظيم حائرًا في التعاطي مع الموقف الجديد داخل أفغانستان، بينما يحاول خصمه التقليدي “تنظيم داعش” توظيف كلمات قادة القاعدة، وخاصة أبو مصعب السوري، عن انقلاب “كومندانات طالبان” عليه لسحب البساط من تحت أقدامه، وإثبات تحولات الحركة الأفغانية من نهج احتواء القاعدة والحركة الجهادية المعولمة إلى العداء معها، كما ورد في إصدار سابق لولاية خراسان، “فرع داعش الأفغاني”.
الخلاصة:
- كان لحركة طالبان الأفغانية رؤية مزدوجة في التعامل مع تنظيم القاعدة عند سيطرتها على أفغانستان للمرة الأولى، ففي حين كان بعض قادة طالبان متحمسين للقاعدة، رفض آخرون الانخراط في علاقات قوية معه، معتبرين أن ذلك يتعارض مع مصالح أفغانستان.
- قيادات طالبان البارزين وعلى رأسهم الملا إحسان الله إحسان أكدوا، سابقًا، لـ”بن لادن” أن الخلاف معه وإخراجه من أفغانستان “مسألة وقت”.
- الملا عمر حاول احتواء أسامة بن لادن وثنيه عن الصدام مع الولايات المتحدة، وعندما نفذ التنظيم هجمات 11 سبتمبر، أصدر أمرًا بإخراج المقاتلين العرب من أفغانستان.
- زعيم القاعدة المؤسس حذر أيمن الظواهري من أن التيار المسيطر على طالبان حاليا سيسعى لاستئصال “القاعدة” ولن يتورع في دماء مقاتليه.
- مولوي هبة الله آخوند زاده والقيادة الحالية لحركة طالبان الأفغانية تتبع نهجًا براجماتيا يركز على مصالحها الذاتية وترفض أن يورطها القاعدة في صراعه المعولم.
- أمير حركة طالبان الملا هبة الله آخوند زاده يتجاهل رسائل ومغازلة تنظيم القاعدة العلانية، ويرفض قبول بيعتها أو الإشارة إليها.
- نهج “آخوند زاده” في التعامل مع تنظيم القاعدة يختلف عن نهج سلفه الملا محمد عمر الذي فشل في تحجيم نشاط أسامة بن لادن، وهو ما أدى إلى غزو أفغانستان في عام 2001.
- تصر حركة طالبان على أن العلاقة مع تنظيم القاعدة أصبحت “جزءًا من الماضي”، مؤكدةً على أنها تتبع سياسة جديدة بتوجيه من قيادتها الحالية.