صراعات العرب والتركمان داخل داعش
في مارس/ آذار 2019، وبينما كان عناصر داعش المحاصرين داخل قرية الباغوز فوقاني السورية (محافظة دير الزور)، ينظرون إلى أسطورة خلافته المكانية، وهي تتبدد مع سقوط عشرات القتلى والجرحى من المقاتلين وأسرهم، وخسارة الجيب الأخير من معاقل التنظيم، كان مجموعة “القراديش” داخل قيادته العليا، يُخططون للسيطرة الكاملة على ما تبقى من “إرث داعش”، دون الالتفات للنهاية الوشيكة.
ووقتها، اكتنف الغموض مصير خلفية داعش (السابق) أبو بكر البغدادي، الذي اختفى بصورة لافتة، وترك قيادة التنظيم الفعلية في يد نائبه المعروف بـ”حجي عبد الله قرداش”، الذي تولى إمارة اللجنة المفوضة (أعلى هيئة قيادية تنفيذية)، وأدار الدواوين والولايات الأمنية (غير المكانية) للتنظيم، من مكان مجهول، قبل أن يصير الخليفة الرسمي له، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، بعد مقتل سلفه، في إغارة أمريكية على مقر إقامته بقرية باريشا (شمال غربي سوريا).
غير أن قيادة “قرداش”، عززت حالة التدافع بين تيارات داعش الداخلية، وفاقمت الشقاق الحاصل بين مكوناته، ليتخطى الأمر الصراع القديم بين الأعضاء المحليين (العراقيين والسوريين، ويُعرفون داخليًا بـ”الأنصار”)، والأجانب (المهاجرين)، ويبرز صراع آخر بين القراديش (التركمان)، ونظرائهم من العرب العراقيين، ويتحول التنظيم إلى مجموعات متناثرة في الصحاري والمدن، تحكم كل منها ولاءات إثنية وحركية مختلفة، لكن تحت مظلة تنظيمية واحدة تجمع شكليًا بين “الأخوة الأعداء”.
صراعات إثنية بهوية داعشية
شكل الصراع بين التركمان/ القراديش (قرداش كلمة تركمانية تعني الأخ)، والعرب داخل داعش، امتدادًا لصراع إثني قديم في العراق يعود لفترة حكم حزب البعث العراقي، والتي شهدت عمليات تعريب ممنهجة لمناطق الأكراد والتركمان في شمال العراق، وخصوصًا في مناطق الموصل وتلعفر (معقل التركمان الرئيس)، وكركوك وغيرهم.
بيد أن هذا التنافر الإثني، تجسد بصورة جديدة داخل داعش، كما يقول الأمني السابق به “أبو مسلم العراقي”، في شهادته على ما يسميه: “فتنة العرب والتركمان داخل التنظيم”، والتي عدّها أحد أهم أسباب انهيار الخلافة المكانية، لأنها عبارة عن “صراع بين قطبين متنافرين لا يجتمعان”، على حد قوله.
الشقاق بين العرب والتركمان عظيم وكبير، وكان من أهم أسباب انهيار “الدولة” إذ كان الصراع بين قطبين متنافرين لا يجتمعان، فيهما من الجاهلية ما الله به عليم
أبو مسلم العراقي
ورغم أهمية وتأثير هذه الصراعات الداخلية على التماسك التنظيمي لداعش، إلا أنها لم تخضع لدراسة حقيقية بسبب إطار السرية الذي اكتنفها، وحرص القيادة العليا للتنظيم على عدم التطرق إليها، خوفًا من حدوث انشقاقات هيكلية تُضعف “الخلافة الداعشية”.
ولعل جذور هذه الخلافات، ترجع إلى البدايات المبكرة للحركة الجهادية في العراق، والتي تبلورت عقب الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، ففي تلك الفترة، وقبلها بقليل، تشكلت داخل مناطق الشمال العراقي مجموعات قتالية إثنية تتبنى الأيديولوجيا الجهادية.
وتميز تكوين تلك المجموعات بأنه تم بصورة عفوية غير منسقة أو مخططة من قبل قيادة موحدة، فنشأت مجموعة “تلعفر السلفية” التركمانية على يد عبد الرحمن القادولي الشهير بـ”أبي علي الأنباري الهاشمي“، (1959- 2016)، والذي نجح في استقطاب وضم نخبة من الضباط العراقيين العاملين في الاستخبارات والحرس الجمهوري والحرس الخاص للرئيس (الأسبق) صدام حسين، إلى مجموعته، وكان من بينهم العقيد بالحرس الجمهوري فاضل أحمد عبد الله الحيالي، (1959- 2015)، الذي عمل مع المجموعة سرًا، وتولى مسؤولية الإشراف على التدريب العسكري لعناصرها، بحسب ما ذكرته أسبوعية النبأ الداعشية في عددها الحادي والأربعين.
وركزت المجموعة التركمانية وغيرها من المجموعات الجهادية على الإعداد لإسقاط نظام حزب البعث، لكن الغزو الأمريكي للعراق والإطاحة بـ”صدام حسين”، أعاد توجيه بوصلتها تجاه قتال القوات الغازية.
وساهمت السيولة التي عاشتها العراق، عقب سقوط نظام “صدام حسين”، في تشكل العديد من المجموعات جهادية فتحولت مجموعة “تلعفر السلفية” إلى العمل العسكري تحت اسم: “كتائب محمد رسول الله”، وتشكلت جماعة “أنصار السنة” من بقايا جماعة “أنصار الإسلام” الكردية، تحت قيادة “أبو عبد الله الشافعي“، كما أعلن أبومصعب الزرقاوي تشكيل جماعة “التوحيد والجهاد” التي ضمت مقاتلين أجانب (مهاجرين) وعراقيين.
ولاحقًا، انضمت المجموعة التركمانية بقيادة أبو علي الأنباري إلى “أنصار السنة الكردية”، وتولى “الأنباري، منصب الشرعي العام للجماعة الأخيرة، لكنه انشق عنها بعد لقاءٍ جمعه بأبي مصعب الزرقاوي، وبايع جماعة “التوحيد والجهاد”، وصار نائبًا لأميرها.
التركمان بين الزرقاوي والبغدادي
نجح “الزرقاوي” في استقطاب الجهاديين التركمان إلى جماعته، التي بايعت أسامة بن لادن عام 2004، وتحولت إلى العمل تحت اسم: “تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين”، وبمرور الوقت تزايدت أهمية العنصر التركماني في التنظيم الجديد، وجرى اختيار “أبو علي الأنباري” ليكون مبعوثًا خاصًا للتواصل مع تنظيم القاعدة المركزي في خراسان، كما تولى في عام 2006 إمارة الفصائل الجهادية التي انضوت تحت لواء “مجلس شورى المجاهدين” (بما فيها تنظيم الزرقاوي) تحت اسم حركي آخر هو “عبد الله بن رشيد البغدادي”، والذي انضم له بعد إعلانه فصيل “جيش أهل السنة والجماعة” بإمارة “أبو دعاء السامرائي” (اسم حركي سابق لأبي بكر البغدادي).
وبدا، في هذه الأثناء، أن العنصر التركماني في “قاعدة العراق” أصبح ذا حيثية هامة في التنظيم، غير أن سيطرته على المفاصل القيادية داخله، جرى تقويضها، مصادفةً، عبر القبض على مجموعة بارزة من القيادات في مقدمتهم “أبو علي الأنباري” من قبل قوات القوات الأمريكية، وذلك بالتزامن مع اعتقال “أبو بكر البغدادي”، خلال مداهمة في مدينة الفلوجة العراقية (شمال غرب العاصمة).
ولعبت عملية “القبض والقتل” على “قيادات القاعدة”، دورًا غير مباشر في صعود مجموعات قيادية جديدة في الهيكل التنظيمي للمجموعات الجهادية، كما ساهمت، بعد ذلك، في ازدياد نفوذ المجموعات التركمانية التي استغلت تواجدها في السجون (وعلى رأسها مجمع اعتقال بوكا الشهير) لتوثيق صلاتها بمجموعات قيادية في تنظيم القاعدة- على رأسهم “أبو بكر البغدادي، ومناف الراوي، وحذيفة البطاوي، مسؤولا عمليات التنظيم في بغداد”- ونسخته التالية “دولة العراق الإسلامية”، والتي بدأت مسيرتها بصبغة عربية مميزة، كما يشير أميرها الأول “أبو عمر البغدادي” في كلمته الصوتية المعنونة بـ” وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ”، (ديسمبر/ كانون الأول 2006)، والتي استهلها بالثناء على أفراد وشيوخ 28 عشيرة عربية كبرى، لدورهم في تأسيس وإعلان “الدولة”، على حد تعبيره.
وفي حين كان أبرز رموز الجهاديين التركمان (أبو علي الأنباري، وأبو مسلم التركماني، ورفيقه عبد الناصر قرداش وغيرهم) في السجون جنبًا إلى جنب مع أبو بكر البغدادي- أُطلق سراحه في ديسمبر 2004- وغيره من قادة داعش اللاحقين، كان المكون العربي: العراقي، والأجنبي (الذي لم يبق منهم في عام 2007 سوى 200 مقاتل بحسب كلمة صوتية لأبي عمر البغدادي) يشغل المناصب التنفيذية العليا في تنظيم “دولة العراق الإسلامية”، كإمارة التنظيم، ووزارة الحرب التي تولها المصري أبو حمزة المهاجر، وقيادة العمليات في شمال البلاد التي تولاها “أبو قسورة المغربي“، علاوة على عضوية مجلس شورى التنظيم والتي شغلها عدد من العراقيين العرب البارزين منهم نعمان منصور الزيدي (أبو سليمان الناصر الأنباري)، وأبو بكر العراقي الدليمي (حجي بكر) الذي عُدّ العقل المدبر وراء صعود “داعش” بنسخته الحالية.
وبحلول أبريل/ نيسان 2010، تمكنت القوات الأمريكية والعراقية من قتل “أبو عمر البغدادي”، ورفيقه “أبو حمزة المهاجر”، وعندها نجح “حجي بكر” في تصعيد “أبو بكر البغدادي”، الذي شغل منصب أمير الهيئات الشرعية في تنظيم دولة العراق الإسلامية، إلى إمارة التنظيم، ليبدأ الفصل الأهم في صراع العرب والتركمان داخل التنظيم.
إعادة هيكلة وصراع الغنائم
ارتبط صعود الجهاديين التركمان في الهرم التنظيمي لـ”داعش” بتولي “أبو بكر البغدادي” إمارة التنظيم في 2010، فالأمير الجديد اعتمد على تعيين القيادات المقربة منه (وفي مقدمتهم المجموعة التركمانية) في المناصب الحساسة، كما زكى الجهاديون التركمانيون رفاقهم لدى لديه، بغرض تعيينهم كقادة للتنظيم.
وعمل “البغدادي” على إعادة هيكلة التنظيم، مستعينًا بمجموعة من القيادات الذين رافقوه خلال فترة اعتقاله في “بوكا”، فجرى تولية أبو مسلم التركماني، منصب نائب أمير التنظيم، واختيار “أبو علي الأنباري”، الذي أفرج عنه بعد 6 سنوات من السجن منصب “المبعوث الخاص للأمير للتواصل مع تنظيم القاعدة المركزي، وجبهة النصرة (الفرع السوري لداعش قبل انشقاقها في 2013)، ثم مسؤول الهيئات الشرعية، كما عُين عبد الناصر قرداش التركماني في منصب أمير التصنيع العسكري والتطوير، وكذلك اختار “أبوعمر قرداش” الأمني، (قيادي آخر بخلاف حجي عبد الله قرداش المكنى بأبي عمر أيضًا)، ليكون مسؤولًا في المفارز الأمنية الهجومية للتنظيم، قبل انتقاله إلى سوريا لاحقًا.
وشملت العملية السابقة، إعادة تقسيم ولايات وقواطع العمليات، فتم تقسيم “ولاية الشمال” إلى 3 ولايات منفصلة هي: نينوى، وكركوك، وصلاح الدين، وقسمت الأولى إلى 3 قواطع عملياتية هي: قاطع الموصل (المدينة)، وقاطع الجنوبية (جنوب الموصل)، وقاطع الجزيرة الذي ضم عرب البعاج، وتركمان تلعفر معًا، وتسبب في تصاعد الخلافات بينهما، وفق رواية الأمني السابق “أبو مسلم العراقي”.
وبحسب الأمني السابق بداعش، فإن الخلافات بدأت بين العرب والقراديش (التركمان) حول أموال الغنائم التي كانت المجموعات العربية تجمعها عن طريق الضرائب العالية المفروضة على أهالي وتجار مدينة الموصل وما حولها، إذ نُقلت تلك الأموال لمجموعات التركمان التلعفرية الذين حصروا الأموال والأسلحة والأعتدة بأيديهم وهمشوا مجموعات عرب البعاج، الذين اشتكوا بدورهم إلى اللجنة العامة المشرفة (النسخة السابقة للجنة المفوضة- أعلى هيئة قيادية)، فأمرت بالفصل المكاني بين الطرفين، وذلك بإنشاء “قاطع البعاج” للعراقيين العرب وتولية أمير منهم على القاطع، وكذلك إنشاء قاطع مستقل للتركمان وهو “قاطع الجزيرة”.
الخلافة المكانية.. ونفوذ القيادات التركمانية
وفي أواخر يونيو/ حزيران 2014، أعلن تنظيم داعش قيام الخلافة المكانية، على الأراضي التي سيطر عليها في العراق وسوريا، ومبايعة “أبو بكر البغدادي” خليفةً لها.
وحظي “تركمان داعش” بمكانة بارزة في داخل “الخلافة المكانية”، إذ تولى “أبو مسلم التركماني” منصب نائب الخليفة (البغدادي) ورئيس اللجنة المفوضة، خلفًا لأبي بكر العراقي الذي قُتل في سوريا مطلع 2014، وأصبح عبد الناصر قرداش نائبًا لأمير اللجنة المفوضة، كما تولى أبو علي الأنباري منصب أمير الهيئات الشرعية، وشغل عضوية اللجنة المفوضة، وكذلك مسؤولية “بيت المال” الذي يضم أموال التنظيم، إلى جانب عبد الله قرداش التركماني (أمير عبد المولى الصلبي) الذي شغل عضوية اللجنة المفوضة أيضًا.
على أن ازدياد نفوذ القيادات التركمانية داخل “داعش”، انعكس على منهجه الفكري، وممارساته الميدانية أيضًا، فعلى صعيد الجانب الأيديولوجي، أطّر أبو علي الأنباري المنهج الحركي لداعش في سلسلته الشهيرة “البراعة.. في تبيان شرك الطاعة” التي طبعتها مكتبة الهمة الداعشية ووزعتها على معاقل الخلافة المكانية، وعلى صعيد الممارسة الحركية، توسع التنظيم في عمليات القتل المتوحش لبث الرعب والفزع في صفوف معارضيه كما حدث في “مذبحة سبايكر” التي اتخذ أبو مسلم التركماني قرارًا بتنفيذها، إضافة لقرار سبي النساء الأيزيديات، بعد سيطرة التنظيم على مدينة سنجار في أغسطس/ آب 2014، رغم إعطاهم عهد أمان من قبل “حجي عبد الله قرادش” بألا يتم سبيهن إذا سلمن أنفسهن للتنظيم، كما يقول “أبو مسلم العراقي” في الجزء الأول من شهادته على تجربة الخلافة المكانية.
وبناء على أوامر أبو مسلم التركماني، وعبد الله قرداش غدر التنظيم بالضباط والجنود والموظفين العراقيين الذين استجابوا لدعوة “أبو بكر البغدادي”، ومتحدثه الرسمي “أبو محمد العدناني”، بإعلان التوبة مقابل العفو عنهم وعدم التعرض لهم، بحجة أنهم “مرتدون لا عهد لهم”، وجرى قتل أكثر من ألفين منهم (أغلبهم من العرب)، بحسب ما تكشفه رسالة داخلية وجهها الشرعي بداعش “أبو جندل الحائلي” لـ”البغدادي”.
وفي غضون نفس الفترة تقريبًا، أطلقت القوات العراقية والكردية في سوريا معارك استرداد المناطق التي سقطت بقبضة داعش، وأوكل لأبي مسلم التركماني ومجموعة من القيادات القرداشية وضع وتنفيذ خطة الدفاع عن معاقل “الخلافة المكانية” في العراق، كما تولى “عبد الناصر قرداش” الإشراف على معركة كوباني التي مثلت نقطة تحول فارقة في الحملة المضادة لداعش.
لكن القيادة التركمانية للمعارك أدت لانتكاسات ميدانية وخسائر بشرية كبيرة في صفوف تنظيم داعش، ففي مدينتي ربيعة وسنجار رفض أبو داود قرداش (التركماني)، أمير لواء “ابن تيمية” في ما يُعرف بجيش الخلافة، تسليم القيادة العسكرية لأبي مثنى الشمري (العربي)، وامتنع المقاتلون التركمانيين عن إطاعة أوامر الأخير وتركوا جبهة المواجهة مع قوات البيشمركة الكردية دون تجهيزات كافية، ما أدى لمقتل المئات من مقاتلي التنظيم العرب والمهاجرين.
وعلى جبهة “كوباني” السورية، دفع “عبد الناصر قرداش” بالآلاف من مقاتلي التنظيم، في مواجهة القوات الكردية المدعومة بطائرات التحالف الدولي (عملية العزم الصلب)، ما أدى لمقتل نحو 4 آلاف منهم، واضطر داعش للانسحاب منها بعد خسائره الفادحة، في يناير/ كانون الثاني 2015.
على ثرى “ولاية الجزيرة”
وأمام الهزائم والانتكاسات العسكرية، قررت قيادة داعش العليا اتخاذ تدابير وقائية لمنع سقوط مناطق أخرى، من بينها تأسيس ولاية مكانية جديدة تحت اسم “ولاية الجزيرة” والتي شملت مناطق من العراق وسوريا، واختير “أبو حسام قرداش” كأول والي لها، وذلك لكونه شقيق أمير “فرقة عين جالوت” العسكرية في داعش “أبو مريم الجبوري العسكري” (التركماني) الذي اتخذ من الجبوري لقبًا له للتمويه فقط.
وأقدم “أبو حسام قرداش” على سحب السلاح الثقيل من جبهات قاطع البعاج (العربي)، وركزه في مناطق التركمان، ما أثار حفيظة القادة العرب في التنظيم الذين ضجوا بالشكوى والدعاء والسباب ضد القيادات التركمانية، وفق شهادة “أبو مسلم العراقي”.
بيد أن “القراديش” عمدوا لإبعاد كل المخالفين لهم من مناصبهم داخل القيادة، وتكليف القيادات التركمانية بتولي المناصب الهامة بدلًا للقيادات العربي في كامل “ولاية الجزيرة” ودوواينها، وجرى نقل الأخيرين (كأبي عائشة البدراني، وأبو فرحان الشرعي، وأبو أحمد الموسوي) إلى الولايات البعيدة والجبهات المشتعلة للتخلص منهم، وكُلف “الملا غريب التركماني” بإمارة قاطع البعاج العربي (حتى سقوطه في قبضة القوات العراقية منتصف 2017).
وأزكت تلك التغيرات نيران الخلافات بين قادة داعش العرب، ونظرائهم التركمان، وأدى عدم اهتمام الأخيريين بجبهات المواجهة مع القوات العراقية وقوات البيشمركة الكردية إلى مقتل العشرات من مقاتلي التنظيم، كما حدث في بلدة “القحطانية” التي قُتل فيها 30 داعشيًا أثناء توجههم لشن هجوم عام 2016، بسبب استهتار القيادة التركمانية بالعمليات العسكرية.
واستغلت “مجموعة القراديش” موارد المناطق العربية الزراعية والاقتصادية الأخرى، لصالحها، فجمعوا آلاف الأطنان من المواد الغذائية، والنفطية، وكذلك الأسلحة والعتاد العسكري، ونقلوها لمناطق التركمان دون إرسالها إلى بيت المال الداعشي، أو لقاطع البعاج العربي، وذلك بالمخالفة لتعليمات القيادة العليا للتنظيم.
ورغم أن القادة العرب في داعش، توجهوا بالشكوى إلى “اللجنة المفوضة” بسبب ممارسات القيادات التركمانية، إلا أنها آثرت غض الطرف عن تلك الممارسات خوفًا من انشقاق “القراديش” عن التنظيم.
ومن جهتهم، لجأ “القراديش” إلى الاستعانة بمجموعات الجهاديين الأعاجم (الأتراك والآذريين) للتخلص من المكون العربي، بصورة شبه نهائية، فجرى تصعيد القيادات الأعجمية لرتب تنظيمية تفوق نظرائهم العرب في “ولاية الجزيرة الداعشية”، وذلك لأن القيادات التركمانية لم ترد أن تغادر مكاتبها المكيفة- بتعبير أبو مسلم العراقي- لتنشغل بالتواجد والمرابطة على جبهات المواجهة.
وتسلط الجهاديون الأعاجم على نظرائهم العراقيين من أبناء المنطقة، مستعينين بصلاتهم مع القراديش، كما رفضوا تحصين المناطق العربية عسكريًا ما أدى في نهاية المطاف إلى انهزام التنظيم داخلها واستعادتها من قبل القوات العراقية والكردية.
ويصف عروة المهاجر، عضو داعش السابق، في مقال نشره بعد انشقاقه عن التنظيم بعنوان: “حفظ الكوادر بدعة الحجاج”، سلوك تلك المجموعة القيادية في التنظيم تلك الفترة بأنه مخالف للنهج الجهادي الأصيل الذي كان القادة فيه يتقدمون المعارك أمام جنودهم ولا يجلسون في مكاتبهم أو مخابئهم بدعوى “حفظ الكوادر”، كما فعلت “القيادات القرداشية”.
نحو مزيد من الانقسام
وفي غضون أغسطس/ آب 2015، تمكنت طائرات التحالف الدولي من استهداف وقتل “أبو مسلم التركماني”، ليخلفه “أبو محمد العدناني” (العربي- السوري) في إمارة اللجنة المفوضة، ومنصب نائب الخليفة.
وحظي “العدناني” بزخم كبير داخل التنظيم، بالنظر إلى سيرته وتجربته الجهادية التي تعود إلى فترة الغزو الأمريكي للعراق، فضلًا عن إشرافه على العمليات والهجمات الخارجية التي نفذها التنظيم في باريس (2015)، وبروكسل (2016)، بيد أنه لم يستمر لوقت طويل في منصبه إذ قُتل في غارة أمريكية أثناء تفقده خطوط المواجهة العسكرية في حلب، ومن ثم خلفه أبومحمد الفرقان “وائل حسين الفياض الطائي العراقي”، أحد أبرز قادة التنظيم والمسؤول عن جناحه الدعائي، والذي أشرف على تنفيذ الهجمات التي نفذتها مفارز التنظيم داخل تركيا، قبل أن يقتل هو الآخر بصورة مفاجئة، بعد أقل من شهرين من مقتل سلفه “العدناني”، كما كشفت أسبوعية النبأ، مؤخرًا.
وراجت بعد مقتل “العدناني” و”الفرقان”، شائعات في صفوف مقاتلي داعش أن اغتيال القياديين البارزين، تم بوشاية من داخل التنظيم، بيد أن أحدًا لم يكشف عن “الوشاة” الذين تسببوا في مقتل اثنين من أبرز قادة داعش على الإطلاق.
وصب مقتل القياديين البارزين في داعش، في مصلحة القيادات التركمانية التي عادت لُتمسك بتلابيب الأمور داخل أعلى هيئة قيادية في التنظيم (اللجنة المفوضة)، بتولية عبد الناصر قرداش، إمارة اللجنة خلفًا لـ”الفرقان”، وهو يعزز من فرضية أن مقتلهما تم بوشاية من بعض القيادات التركمانية في التنظيم لإبعادهما من المشهد تمامًا، وإتاحة الفرصة أمام سيطرة “القراديش”.
على أن عودة “القراديش التركمان” للتحكم في مفاصل التنظيم، ارتبط بحصول الأزمة الأكبر في تاريخه والمعروفة بأزمة “تعميم ليهلك من هلك عن بينة“، والمتعلق بالتوسع في التكفير، والذي أصدره عبد الناصر قرداش وأخرجه باسم “اللجنة المفوضة”، و”الخليفة” في آن واحد.
وأدى التعميم إلى تفجر الخلافات المنهجية في داعش، بعد 3 سنوات من المحاولات المستمرة لاحتوائها، عبر اللجان المنهجية والدواوين الشرعية التي أشرف عليها “أبو محمد الفرقان” قبل مقتله، وأضحى التنظيم منقسمًا إلى تيارين/ جبهتين رئيسيتين هما: جبهة اللجنة المفوضة برئاسة عبد الناصر قرداش، والأخرى جبهة مكتب البحوث الشرعية برئاسة البحريني تركي البنعلي.
وتزامنت تلك الأزمة مع حصار عسكري خانق فُرض على ما تبقى من أحياء مدينة الموصل التي ظلت تحت سيطرة داعش، بالإضافة إلى حصار عاصمة الخلافة (البديلة) في داخل الرقة السورية، وفيما داهم الخطر التنظيم، كانت قيادته منشغلة بالخلافات المنهجية عن الدفاع عن معاقل الخلافة المكانية.
وعلاوة على الخلافات المنهجية، أدت الخلافات بين العرب والقراديش (التركمان)، في نفس الفترة تقريبًا، إلى سقوط مدينة تلعفر في قبضة القوات الحكومية العراقية المدعومة بفصائل الحشدين الشعبي والعشائري،- كما يروي أبو مسلم العراقي- رغم أن قيادة داعش العليا أعلنت حشد الإمكانيات العسكرية واللوجيستية اللازمة لخوض المعركة، وحرض المتحدث باسم التنظيم، آنذاك، “أبو الحسن المهاجر” على الاستماتة في القتال وتجنب الهروب.
وأمام تفاقم وتعقد الخلافات، اضطر أبو بكر البغدادي، للخروج من مخبأه في داخل سوريا، وعقد مناظرةً بين عبد الناصر قرداش وتيار اللجنة المفوضة، وبين تيار مكتب البحوث الشرعية، ونجح الأخير في استمالة أمير داعش، فأصدر قرارًا بعزل قيادات اللجنة وسجن بعضهم، و إلغاء تعميم “ليهلك من هلك عن بينة”، بالإضافة لإجراء إعادة هيكلة قيادية وتصعيد قيادات مكتب البحوث والاتفاق معهم على تولى القيادة العسكرية والشرعية، وإصدار سلسلة علمية لتبيان الأخطاء المنهجية في قضايا التكفير.
وقبل أن تستقر الأمور لصالح المجموعة القيادية الجديدة في تنظيم داعش، أصدر “عبد الله قرادش” قرارًا بوقف نشر السلسلة العلمية، بحجة عدم مناسبة الوقت، وحل مكتب البحوث وغيره من الهيئات الشرعية، وإرسال “شرعييه” إلى جبهات القتال في جيب هجين- الباغوز، قائلًا: “آني ما تهمني كل هذه المسائل العقدية، آني أهم شيء عندي الدولة”، وذلك حسب ما نقله القيادي الأردني السابق بالتنظيم (قُتل في 2019) عادل الكبيسي المعروف بأبي عبد الرحمن الزرقاوي.
وشرع “قرداش” في إطلاق سراح رموز تيار اللجنة المفوضة الذين قُبض عليه، بعد المناظرة الشهيرة أمام البغدادي، بينما جرى اعتقال “شرعيي التنظيم” الذين حازوا دعم “البغدادي”، سابقًا، وظهر في هذه الأثناء، أن الأيديولوجيا الجهادية التي ميزت داعش كمجموعة عقدية بالأساس، قد تراجعت لصالح الولاءات التنظيمية والعلاقات الشخصية والروابط الإثنية، بالتوازي مع حصار التنظيم في جيب جغرافي محدود نسبيًا على الحدود العراقية- السورية.
ويمكن استنتاج هذه التغيرات عبر التدقيق في رسالة “حجي زكريا قرداش” التي وجهها لنائب أبو بكر البغدادي، “عبد الله قرداش” وتتضمن تحذيرًا له من الوثوق في قادة داعش الآخرين، واقتراحات بإجراء تغييرات قيادية في مناصب القيادة العليا بالتنظيم، لتعزيز سيطرة “التركمان”.
ولاية تركيا اللوجيستية
وبالرغم من فرض حصار على ما تبقى من معاقل الخلافة المكانية، منذ 2018، إلا أن القيادات القرداشية كلفوا مسؤولي هيئة “الأسرى والشهداء” الداعشية، بإخراج العائلات التركمانية دون غيرها من العراق ومخيمات اللاجئين في سوريا إلى تركيا، وإيصال الكفالات (الرواتب الشهرية) لهم بانتظام، كما يؤكد أبو عبد الله العراقي التركماني في اعترافاته التي أدلى بها بعد اعتقاله من قبل قوات “سوريا الديمقراطية”.
وتتطابق اعترافات “التركماني” مع الشهادة التي نشرها “أبو مسلم العراقي” حول استهداف وقتل عوائل الجهاديين العرب ومناصريهم الذين حاولوا الخروج من مدينة الموصل بعد حصارها من قبل قوات الجيش العراقي، خلال معركة الموصل (أكتوبر 2016- يوليو 2017)، موضحًا أن “قيادة داعش” (تحت إمرة عبد الناصر قرداش، أمير اللجنة المفوضة) أمرت بقتل الخارجين من المدينة باعتبارهم “مرتدين”، وبهذا التبرير قتلت مئات العائلات (أحصى العراقي منهم 350 عائلة)، فيما سُمح للعائلات التركمانية في تلعفر والبعاج بالخروج تجاه سوريا، ثم تركيا لاحقًا دون استهدافهم.
وجرى نقل نحو 90% من العائلات التركمانية إلى تركيا، ونقل الأموال لهم بشكل دوري، في الوقت الذي عانت فيه عوائل المقاتلين الأجانب (المهاجرين) والعديد من العائلات العراقية العربية من الحصول على الكفالات الشهرية، كما يذكر الشرعي المنشق عن داعش “أبو عيسى المصري” في مقال سابق له بعنوان: (سلطان باريشا).
إن هذه الأموال حُرمت منها أرامل ويتامى وضعفاء وعجزة
أبو عيسى المصري
وبجانب نقل الأموال، بشكل دوري، أصدر “حجي عبد الله قرداش” تعليمات لخلايا داعش المنتشرة في تركيا بوقف الهجمات الإرهابية داخل الدولة- على عكس ما فعله أبو محمد الفرقان الذي أشرف بنفسه على هجمات مطار إسطنبول بحسب أسبوعية النبأ-، بسبب وجود أفراد وعوائل التركمان في البلاد، وتحولت تركيا إلى “ولاية لوجيستية” للتنظيم، كما يتضح من تقرير متابعة سير العمل الشهري الذي ظهر “أبو بكر البغدادي” وهو يتصفحه خلال لقاءه المرئي الأخير: (في ضيافة أمير المؤمنين)، أواخر أبريل/ نيسان 2019.
التركمان في الواجهة
إلى ذلك، أعطى اغتيال أبو بكر البغدادي، في أكتوبر 2019، المجموعة التركمانية (القراديش)، فرصة ذهبية للسيطرة على المنصب الأهم داخل هرم داعش القيادي، فبعد أيام معدودة من مقتله، أعلن المتحدث الحالي باسم داعش “أبو حمزة المهاجر القرشي” أن مجلس شورى التنظيم اجتمع وتشاور حول من يشغل منصب الخليفة واستقر على اختيار “أبي إبراهيم الهاشمي القرشي”، أميرًا له.
واستخدم المتحدث باسم التنظيم لقب “الهاشمي القرشي” في الإشارة إلى زعيم داعش الجديد، تمامًا كما فعلت صحيفة النبأ عندما ذكرت قصة “أبو علي الأنباري” ووصفته بـ”الهاشمي القرشي”، للإيحاء بأنه ينتمي إلى قبيلة “قريش” العربية- رغم أن أصول التركمان تعود إلى القبائل التركية الآسيوية غير العربية-، وذلك لكي ينطبق عليه شرط تولى الخلافة التي ينص الفقه الحركي الذي يتبناه التنظيم على حصرها في “أبناء قريش”، على حد وصف المتحدث باسم التنظيم (الأسبق) في كلمته الصوتية لإعلان الخلافة المكنية.
وفتح تولية الخليفة الجديد باب الصراع متعدد الأطراف داخل داعش من جديد، لاسيما وأنه لم يكن معروفًا من قبل لقيادات التنظيم، كما لم يكشف عن اسمه الحقيقي أو صورته لهم، وهو ما دفع “أبو عيسى المصري” القيادي الشرعي المنشق، إلى التشكيك في وجود شخصية “الهاشمي” من الأساس، معتبرًا أنه حيلة قديمة- جديدة من “حجاجي داعش” لتولية أمير جديد يخدم مصالحهم في السيطرة على التنظيم.
ومع أن التنظيم نجح، عن طريق سلسلة من الميكانزيمات الحركية، في الحفاظ على تماسكه الهيكلي، بعد إعلان “خليفته الجديدة”، إلا أن الصراع الداخلي وبخاصةً بين المكون التركماني والعربي لم يتوقف، فخلال الفترة الماضية تساقط العديد من قادة التنظيم العرب البارزين، على رأسهم “حجي معتز الجبوري“، والي ولاية العراق الداعشية، وحجي حامد الجبوري” الشخصيةً محورية في شبكة التنظيم المالية، والذي جرى القبض عليه بتعاون مع الاستخبارات التركية.
ومن الملاحظ أن أغلب القيادات الداعشية العربية التي سقطت كانت على صلة بالملفين المالي والقيادي (بمعنى تبوؤهم مناصب بارزة في الهيكل القيادي للتنظيم، وإشرافهم على موارده المالية التي كانت تحت تصرف التركمان)، بما يوحي بوجود صراع خفي حول تساقطهم، وقد يكون تم الوشاية بهم من قبل خصومهم/ القراديش داخل التنظيم، كما فعل “حجي عبد الله القرشي” الذي وشى برفاقه من قادة تنظيم القاعدة العرب والمهاجرين (الأجانب) خلال استجوابه من قبل القوات الأمريكية، بحسب ما تكشفه تقارير الاستجواب التكتيكي التي نشرها مركز مكافحة الإرهاب بأكاديمية ويست بوينت العسكرية الأمريكية.
ويبدو أن المجموعة العربية في قيادة داعش، بدأت استخدام نفس التكتيك في التعامل مع “القراديش”، فبعد أقل من شهر على اعتقال “حجي حامد”، اعتقل جهاز الأمن الوطني العراقي المسؤول المالي السابق لولاية الجزيرة الداعشية (يرجح أنه تركماني)، بعد قدومه من دولة مجاورة، بما يكشف عن وجود معلومات سابقة لدى أجهزة الأمنية العراقية من داخل التنظيم حول هوية وتفاصيل تحركات القيادي المذكور.
وفيما تواصل الآلة الدعائية لتنظيم داعش نفس الانتكاسات والضربات الأمنية التي يتعرض لها، تستمر “الحرب الصامتة” بين العرب والتركمان على ما تبقى من “خلافة التنظيم”، التي باتت تُعرف بـ”خلافة على منهاج القراديش”، كما يصفها أبو مسلم العراقي.
الخلاصة:
- يعيش داعش على وقع صراع بين القيادات العراقية العربية ونظيراتها التركمانية المعروفة بـ”القراديش”، مع أن هذا الصراع لم يتم تسليط الضوء عليه بالقدر الكافي.
- يعتبر قادة التنظيم المنشقين أن الصراع بين العرب والقراديش مزق التنظيم من الداخل وكان أحد أهم أسباب انهياره وخسارته لمعاقل سيطرته المكانية.
- يدور الصراع الأساسي على التحكم في ملفي تمويل التنظيم وملف القيادة العليا داخله.
- يخصص “القراديش” موارد مالية لرعاية أسر المقاتلين التركمان، بينما يعاني المقاتلون العراقيون ونظرائهم الأجانب (المهاجرون) من الفقر والجوع.
- يرتبط التركمان بعلاقات مع تركيا، التي نُقل لها نحو 90% من عوائل المقاتلين هؤلاء المقاتلين، ولهذا السبب أوقف الزعيم الحالي “حجي قرداش” العمليات الإرهابية ضد تركيا، مخالفًا نهج سلفه العربي “أبو محمد الفرقان” الذي أشرف بنفسه على الهجمات ضد مطار إسطنبول.
- من المحتمل أن يكون تساقط قيادات داعش العرب والتركمان، في الآونة الأخيرة، مرتبط بوشايتهم ضد بعضهم البعض، كما فعل “حجي عبد الله قرداش” الذي وشى برفاقه في “القاعدة” من قبل.
- تحول تنظيم داعش لمجموعة من الخصوم المتحاربين لكن قيادته العليا، لازالت تحاول الحفاظ على صورته الموحدة باستخدام أساليب الدعاية التقليدية.