انحدار تنظيم القاعدة في اليمن وتراجعه بعد أن تآكلت قياداته
- التنظيم خرج خروجاً مذلاً من محافظة البيضاء جنوب شرق العاصمة صنعاء
- الحوثيون سيطروا على الصومعة آخر معاقل القاعدة في محافظة البيضاء
خلال أقل من شهرين، اضطر تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية إلى إعادة تقديم ذاته وتوضيح مواقفه في منشورين؛ ”في ظل وجود تساؤلات كثيرة“ حول التنظيم ”سواء من أعضاء الجماعة الجدد أو من خارجها.“
في المرتين، يحاول التنظيم أن يطمئن أنصاره بأنه بخير ومسيطر وأن كل ما حدث في العامين الماضيين كان بموجب خطة! في المرتين، اجترّ التنظيم ذات الكلام واستخدم ذات المفردات سعياً إلى توحيد ”رؤيته“ حول المضامين؛ لكنه في كل مرّة يقع في تناقضات ويزيد الغموض حول تلك المضامين. ومن ذلك أن أهمّ ما اعترف به التنظيم في المرتين هو تحييده ومهادنته ”بعض الأعداء“ في اليمن من دون ”التحالف.“ فهل هادن الحوثيين ؟ أم داعش؟ أم كليهما؟ في نفس الوقت يؤكد التنظيم على قتال الفريقين.
في المحصلة، هذان المنشوران أعتراف صريح بانحدار التنظيم وتراجعه بعد أن تآكلت قياداته، ونضبت مصادر تمويله، وضاعت ولاءاته.
المنشوران هما كتيب ”تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب،“ المؤرخ في سبتمبر الماضي، ولقاء طويل مدته ساعتان مع رأس التنظيم نفسه، خالد باطرفي، نُشر على دفعتين في النصف الثاني من نوفمبر الجاري.
عامان صعبان
عندما تولى باطرفي زعامة التنظيم خلفاً لقاسم الريمي مطلع ٢٠٢٠، اعتبر كثير من المراقبين والمتابعين أن الرجل سوف يعيد توجيه التنظيم إلى وجهته الصحيحة؛ وسوف يعيد ألق التنظيم، الذي ظل حتى وقت قريب الأهم بين فروع القاعدة. قيل وقتها إن الريمي كان ضعيفاً ولا يتمتع بالكاريزما الجامعة.
تقول الدكتورة إليزابيث كيندال، المتخصصة في شؤون اليمن وأستاذة اللغة العربية في جامعة أكسفورد البريطانية: ”كان (باطرفي) يستطيع أن يُحدث زخماً جديداً عند الجماعة باعتباره شخصية أيديولوجية أكثر لديه خلفية دينية قوية وخلفية عائلية قوية كما أنه حارب في أفغانستان ولديه جذور يمنية في الجنوب. كلها كانت فرص أمامه لكنني أشعر أن مستوى الانحدار كان بدأ وأن التنظيم كان مخترقاً من قبل الجواسيس. الجماعة كانت ضعيفة. وكان صعباً استرجاع ألقها. ويبدو أنه فشل.“
بالفعل، منذ تولى باطرفي الزعامةَ، والتنظيم في تراجع. العامان الماضيان كانا الأسوأ. خرج التنظيم خروجاً مذلاً من محافظة البيضاء جنوب شرق العاصمة صنعاء. في سبتمبر الماضي، سيطر الحوثيون على الصومعة آخر معاقل القاعدة في المحافظة.
في مايو العام الماضي، اضطر إعلام التنظيم إلى التعامل مع مظلمة جماعة ”النهديين“ – نسبة إلى أبي عمر النهدي- وهو قائد ميداني اعترض وآخرين على ”هوس“ التنظيم بالجاسوسية؛ فيتهمون الآخرين جزافاً. في ذلك الوقت، كان التنظيم أعدم أبا مريم الأزدي وهو شرعي مخضرم في التنظيم كان في أفغانستان وعاد إلى اليمن وله مؤلفات يهتدي به أنصار القاعدة. ومن المتهمين أيضاً مسؤولون أمنيون وماليّون. منهم من أُعدم ومنهم من اعتزل التنظيم ومنهم من فضل الاستسلام إلى دولته الأم على أن يظل قريباً من التنظيم. في يوليو ٢٠٢٠، تردد أن جماعة النهدي أتموا انشقاقهم عن التنظيم بعد أن رفض باطرفي معالجة مظلمتهم.
وفي أيار العام الماضي، اقتنص طيران التحالف مسؤول الاتصال في التنظيم عبدالله المالكي الذي نسق هجوم بنساكولا في ديسمبر ٢٠١٩. وفي أكتوبر من العام نفسه، أشيع أن باطرفي نفسه اعتُقل ليظهر بعد أكثر من شهرين في فيديو يناير ٢٠٢١.
تُعلّق الدكتورة إليزابيث: ”فإن ألقي القبض عليه ربما مُنح الفرصة لترويج أفكاره أثناء تلك الفترة. ولكنه ضعيف ضعفاً لا يمكن وصفه. وأعتقد أن اختراق القاعدة تمّ واكتمل.“
التراجع العسكري: مهادنة ”الأعداء“
في أواخر سبتمبر الماضي، نشرت الملاحم كتيباً من ٦٤ صفحة عن تاريخ التنظيم وسياسته وأهدافه. في الصفحة ٥١ منه، نقرأ أن“ الجماعة في سياستها القتالية تحيّد ما استطاعت من الأعداء انشغالاً بمعركتها الأساس مع التحالف الصهيوصليبي، وعندما تحيّد الجماعة أو تهادن بعض الأعداء في وقت فهو من أجل السياسة الشرعية والتفرغ لعدو أكبر وأخطر أو لمصالح أخرى تقتضيها الحرب.“
بعد أقل من شهرين على نشر الكتاب، بثت الملاحم مقابلة خاصة مع باطرفي وقال فيها الكلام ذاته. قال: ”كثير من الجهات تتصارع فيما بينها؛ وفي بعض الأحيان، ليس من صالحنا أن ندخل في هذا الصراع، نتركهم يتصارعون حتى يضعفوا بعضهم ولنا بعد ذلك حديث … وبعض الجهات حيّدناها لمصلحة شرعية ليس لأننا نكن لها ولاء وإنما لوجود عدو أكبر.“
الدكتورة كيندال علّقت على الكتيب وقالت: ”يمكن أن نقول إن الكتيب كان نفياً لتسييس القاعدة أو استغلالها كأداة؛ أو أنه كان محاولة لتغطية هذا الأمر. في كلا الحالين، الكتيب أظهر ضعف القاعدة.“
في أكتوبر الماضي، أعلن التنظيم مسؤوليته عن ثلاث هجمات فقط، وفي نوفمبر الجاري، تبنى التنظيم ست هجمات منذ بداية الشهر، وهذا توقيت مناسب بالنظر إلى موعد بث المقابلة. الهجمات جميعاً كانت ضد الحوثيين حصراً.
الدكتورة كيندال ترى أن إعلان مسؤولية التنظيم عن هذه الهجمات هو دليل ضعف في حقيقة الأمر. تقول: ”معدل الهجمات التي تبناها تنظيم القاعدة هو أقل من عُشر ما كان يتبناه التنظيم في ذروة هجماته في ٢٠١٧. … إذا كان لدينا جماعة تحظى باهتمام عالمي مثل جماعة القاعدة في اليمن تتمكن من تنفيذ ٣ هجمات فقط باستخدام عبوات ناسفة في فترة ٤ أو ٥ أسابيع.؛ فعلى الأرجح أن هذه الجماعة لا تشكل خطراً حقيقياً.“
وتلحظ الدكتورة كيندال أن الهجمات المعلن عنها تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من محافظة البيضاء. في المقابل، تقول الأخبار الواردة من المنطقة بوقوع هجمات عدة لا يتنباها أي طرف. تفسر الدكتورة كيندال هذا الأمر بأن المسؤول عن الهجمات إما مجموعات متعددة تتبع القاعدة تفضل ألا تتبنى الهجمات لسبب أو لآخر، أو ”لا بد أن القاعدة شريك ثانوي للفاعل الرئيس. لا بد أنها تتعاون مع آخرين وبالتالي لا تعلن عن هجماتها.“ وتذهب الدكتورة كيندال إلى أبعد من ذلك. تقول: ”تفسير آخر هو أن ثمة من يتلاعب بإعلام القاعدة نفسه؛ فأياً كان من يديره فلا شك أنه يريد أن يصوّر القاعدة على أنها قوة تقاتل الحوثيين وحسب وهذا أمر يخدم الحوثيين – أن يكون الحوثيون هم العدو الأول والوحيد للقاعدة في اليمن.“
أحد مشايخ محافظة البيضاء، فضّل عدم ذكر اسمه، قال لنا إن ”القاعدة موجودون لحماية الحوثيين.“ ويروي أن أحد قادة القاعدة الميدانيين في منطقة الزاهر جنوب محافظة البيضاء كان على علاقة بالحوثيين. ”وفي كل مرة كان يلتقيهم كان يرجع وينفذ عمليات ضد الحوثيين أنفسهم بهدف تشويه القبائل والمنطقة … وبعد سقوط الزاهر، أعدموه في ظروف غامضة.“ ويزيد هذا الشيخ أن مقاتلي القاعدة في الصومعة انقسموا بعد دخول الحوثيين إلى قسمين؛ ”قسم نزل إلى شبوة وعمل مع الحكومة وقسم انضم إلى الحوثيين.“
التراجع المالي: نضوب مصادر التمويل
ولا شك في أن الضائقة المالية التي يمرّ بها التنظيم دفعت كثيراً من المقاتلين إلى بيع ولاءاتهم خاصة مع غياب قيادة حاسمة وواضحة في تصريحاتها ومواقفها. فالتنظيم خسر مناطقه التي كان يسيطر على مواردها ويجبي الخراج من سكانها. عندما سيطر التنظيم على المكلا في ٢٠١٥، كان التنظيم يجني مليوني دولار يومياً كضرائب ورسوم على البضائع والنفط الذي يعبر الميناء الحيوي.
أمّا الآن، فقد نبضت مصادر تمويل التنظيم من الضرائب والتبرعات أيضاً، وفي هذا مؤشر على تراجع حضور التنظيم بين الناس.
التراجع التنظيمي: الجاسوسية
سُئل باطرفي عن اختراق الجواسيس للتنظيم على أعلى المستويات. يعترف الرجل بأن ”الحملة“ على الجواسيس لا تزال مستمرة؛ لكنه لا يعتبر ذلك دليلاً أو مؤشراً على ضعف التنظيم. يقول: ”نحن لا نقول إن الأمر انتهى؛ ولكن الحملة مستمرة … وهذا لا يعني وجود خلل في الجماعة. هو طبيعي وجود منافقين.“
في الوقت نفسه، يقرّ باطرفي بأن ضربات الطائرات المسيرة قتلت حتى الآن ١٦٠٠ عنصراً من التنظيم. ويُفهم أن هؤلاء عناصر متقدمون في السلم القيادي وإلا ما اكترث بهم الطيران المسيّر. هذه الهجمات تُعزى قطعاً للجواسيس الذين ”يضعون الشرائح“ التي تدل على مواقع المستهدفين. والحقيقة أن هذا رقم كبير غير معهود في تنظيمات مشابهة.
العدو الأقرب
منذ تولى تنظيم طالبان الحكم في أفغانستان، ونحن نسأل عمّا إذا كانت فروع القاعدة ستتخذ اتجاهاً مشابهاً تقترب فيه من المحلية وتبتعد أكثر عن ”الجهاد العالمي“ الذي بشّر به أسامة بن لادن – تقترب فيه إلى تحقيق أهداف محلية بدلاً من مقارعة ”العدو البعيد“ وهو أمريكا كما يأتي في أدبيات الجهاديين.
كتيب قاعدة اليمن أكد على أن الولايات المتحدة الأمريكية تظل عدواً للتنظيم. باطرفي أكد الفكرة بكلمات أكثر حسماً خاصة عندما سُئل عن موقفه من الأصوات التي تنادي بأن تغيّر القاعدة استراتيجيتها. يقول باطرفي إن أمريكا هي ”العدو الأقرب“ وليست فقط القريب.
وفي معرض رده، يبرر باطرفي التركيز على مقارعة أمريكا بأن الأمريكيين ”يسلطون … الأعداء ضدنا.“ وهنا يشير إلى ما يقول إنه تعاون بين أمريكا ودول أخرى ضد المسلمين. يقول: ”حتى على مستوى الإيغور المسلمين في تركستان، أمريكا تقف مع عدوها الصين ضد المسلمين.“
بغض النظر عن دقة هذا الكلام؛ ما فعله باطرفي هنا هو أنه ناقض نفسه. فهو إذ يذكر الإيغور ويُذكّر بعداء الصين للإيغور، ينسى أن طالبان الذين يعتبرهم مثلاً أعلى وقبلة للجهاديين اليوم لا يزالوا يسكتون عن قمع الصين للإيغور.
هذه السياسات الفضفاضة التي يتخذها تنظيم القاعدة في اليمن تجعل كل شيئ وأي شيئ ممكن. هل تحالف التنظيم مع الحوثيين؟ أو مع جهات يعاديها الجهاديون تقليدياً؟ بحسب باطرفي نفسه، هذا ما حدث فعلاً ولا جدال فيه!