الأكيد أنّ الحروب حول العالم مستمرة، لا سيما بين الدول الكبرى أو العظمى، وتدخل الصين على خطّها بقوة، فيما الدول الصغيرة تبقى مساحات تتقاطع فوقها مصالح المتصارعين. أهداف تلك الحروب متقاربة متشابهة ولو تغيّر الوقت وتبدّلت الظروف… الشيء الوحيد الذي اختلف ربّما، أشكالها.
- تجارب باكستان وكينيا واليونان ومونتينيغرو دلائل دامغة وأمثلة قوية على إغراق الدول الديون
- الصين أكبر دائن رسمي بالعالم بالإستناد إلى دراسة وتحليل 100 عقد دين من كيانات مملوكة من الصين
- العقود الصينية تتضمن بنوداً سرية غيرِ عادية تمنع المقترضين من الكشف عن شروط الدين أو عن وجوده
- تصريحات دولية بأن بكين تسعى عن عمد إلى ديبلوماسية فخ الديون وفرض الشروط القاسية
- الصين تبرم عقوداً تسمح لها بالإستيلاء على الأصول الإستراتيجية عندما تواجه البلدان المدينة مشاكل مالية
- الصين تفرض ميزات تقيّد من خلالها المقترض وتسعى للحصول على قدر من التأثير على قرار المدين
فالحروب اليوم إقتصادية بامتياز تدخل على خطوطها المضائق والموانىء والسلع والمنافسة في الأسواق وكل ما له علاقة بالتجارة العالمية، وذلك ما تقوم به الصين في الدول حول العالم: يد ناعمة تظن أنها تداعب عنق الدول، لكنّها سرعان ما تقبض على الأنفاس إذا ما سارت عكس تيار بكين السياسي، أو وجهت إنتقاداً لسياساتها.
ما حصل في باكستان وكينيا واليونان ومونتينيغرو و ليتوانيا وأستراليا وتونس وغيرها من الدول، ومؤخراً في أوغندا، دلائل دامغة تشكّل أمثلة قوية وتوجب الحذر لتجنّب السقوط في فخ الديون.
أوغندا تخسر مطارها الدولي الوحيد لصالح الصين لفشلها في سداد القرض
في أحدث مثال على غرق الدول بالديون الصينية، فقد خسرت أوغندا مطارها الدولي الوحيد، مطار عنتيبي الدولي، وذلك لصالح الصين بعد فشلها في سداد قرض من بنك التصدير والاستيراد الصيني (EXIM) إلى أوغندا في العام 2015، وقيمته 207 مليون دولار بنسبة 2 % عند الصرف، وهو مخصص لتوسيع مطار عنتيبي الدولي.
ووفقاً لتقارير وسائل الإعلام الدولية، فقد تنازلت الحكومة الأوغندية عن بند الحصانة الدولية لتأمين القرض، ما مكّن المقرض الصيني الإستحواذ على مطار عنتيبي الدولي من دون أيّ تحكيم دولي.
وبحسب ما ورد اقترح بيان صادر عن هيئة الطيران المدني الأوغندية (UCAA)، فإنّ بعض أحكام اتفاقية التمويل مع الصين كشفت تفاصيل الأصول الأوغندية الأخرى والمطار، والتي سيتم إلحاقها والإستيلاء عليها من قبل المقرضين الصينيين عند التحكيم في بكين.
وكان وزير المالية الأوغندي ماتيا كاسايجا اعتذر الاسبوع الماضي للبرلمان عن سوء إدارة القرض الذي تبلغ قيمته عدة ملايين من الدولارات. ووفقاً لأحدث التقارير الإعلامية، فقد قام وفد من المسؤولين الأوغنديين بزيارة الصين أيضاً في وقت سابق من هذا العام، في محاولة لإعادة التفاوض على بنود اتفاقية القرض، لكنّ الزيارة لم تنجح وقد رفضت السلطات الصينية السماح بأيّ تعديل في الشروط الأصلية للصفقة.
نظرة نادرة على 100 عقد دين من الصين للدول النامية والفقيرة تكشف تفاصيل ديبلوماسية فخ الدين التي تتبعها بكين
في الفترة السابقة، كانت نشرت “أخبار الآن” جملة من التقارير المهمّة التي تبرز مدى الصراع بين الصين وحلفائها من جهة، والدول الغربية الأخرى من جهة أخرى، لكن لحرب الصين على الدول مسار آخر، فماذا يعني ذلك؟
في آذار العام الجاري نُشرت دراسة شارك فيها عدد من أهم الخبراء والباحثين، وهي امتدت على 85 صفحة، ساهم فيها عدد من المؤسسات المعنية، بينها مختبر الأبحاث aiddata، ومكتب الشؤون الخارجية في بريطانيا، ومركز القانون في جامعة جورج تاون.
تفيد تلك الدراسة بأنّ الصين هي أكبر دائن رسمي في العالم، وتستند إلى جمع وتحليل 100 عقد، بين الكيانات المملوكة من قبل الدولة الصينية، والمقترضين الحكوميين في 24 دولة نامية، تتوزع بين أفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأوقيانوسيا، وتمّت مقارنة هذه العقود مع تلك الخاصة بالدائنين الآخرين، الثنائيين ومتعددي الأطراف والتجاريين.
تظهر تلك الدراسة ثلاثة أمور مريبة أو غريبة رئيسية:
- تحتوي العقود الصينية على بنود سرية غيرِ عادية، تمنع المقترضين من الكشف عن شروط الدين أو حتى عن وجوده.
- يسعى المقرضون الصينيون إلى الحصول على ميزة تقيّد الدائنين الآخرين، وذلك باستخدام ترتيبات الضمان مثل حسابات الإيرادات التي يتحكم فيها المقرضون، والوعود بإبقاء الدين خارج إعادة الهيكلة الجماعية.
- من المحتمل أن تسمح بنود الإلغاء والتسريع والإستقرار في العقود الصينية للمقرضين، بالتأثير على سياسات المدينين الداخلية والخارجية.
تلك البنود الغريبة يمكن أن تحد من خيارات إدارة أزمة المدين السيادي، ويعقّد إعادة التفاوض بشأن الديون. وتكشف الدراسة أنّ الحكومة الصينية والمصارف التابعة لها، قامت بإقراض مبالغ قياسية للحكومات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، منذ أوائل العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، ما يجعل الصين أكبر دائن رسمي في العالم.
وأشارت الدراسة إلى أنّه على الرغم من أنّ العديد من الدراسات الحديثة تدرس اقتصاديات الإقراض الصيني، إلّا أنّه ما زال هناك افتقار للحقائق الأساسية حول كيفية إقراض الصين والكيانات المملوكة للدولة، على وجه الخصوص، كيفية كتابة عقود القروض، وما هي الشروط والأحكام التي تحتوي عليها. ولفتت إلى أنّه في ضوء المخاطر الكبيرة، فقد أصبحت شروط وأحكام عقود ديون الصين، مسألة تتعلق بالمصلحة العامة العالمية.
إنّ اتفاقيات القروض الصينية غير المرئية، هي موضوع نقاش وجدل حاد. فقد أعلن البعض أنّ بكين تسعى عن عمد إلى ديبلوماسية فخ الديون، وفرض شروط قاسية على نظرائها الحكوميين، وكتابة العقود التي تسمح لها بالإستيلاء على الأصول الإستراتيجية عندما تواجه البلدان المدينة مشاكل مالية. وهنا اعتبر كبار المسؤولين الأمريكيون، منهم ريكس تيلرسون، أنّ بكين تشجّع التبعية باستخدام عقود مبهمة، وتغرق الدول في الديون وتقوض سيادتها.
الدراسة تلك تقدم أوّل تحليل منهجي لشروط الإقراض الخارجي في الصين، من خلال فحص الـ 100 عقد دين، في 24 دولة حول العالم، بمبالغ يبلغ مجموعها 36.6 مليار دولار، ويتبيّن أنّه تمّ توقيع كلّ تلك العقود بين عامي 2000 و 2020.
في 84 حالة، المقرض هو بنك التصدير والإستيراد الصيني (China Eximbank) أو بنك التنمية الصيني (CDB). ويحتوي العديد من العقود أو يشير إلى وعود المقترضين بعدم الكشف عن شروطهم، وفي بعض الحالات عن حقيقة وجود العقد حتّى.
عيّنة الـ100 تمثّل جزءاً صغيراً من أكثر من 2000 اتفاقية قروض، وقعتها جهات الإقراض المملوكة من قبل الدولة الصينية، مع البلدان النامية منذ أوائل القرن الحادي والعشرين.
في إيجاز لنتائج الدراسة، تمزج الكيانات المملوكة للدولة في الصين بين شروط الإقراض التجارية والرسمية، وتقدم شروطاً جديدة لزيادة النفوذ التجاري على المقترض السيادي، وتأمين أولوية السداد على الدائنين الآخرين.
إنّ تعهدات السرية الواسعة للمقترض تجعل من الصعب على جميع أصحاب المصلحة التأكد من الوضع المالي الحقيقي للمقترض واكتشاف المدفوعات، وتصميم سياسات الإستجابة للأزمات. وبالتالي، لا يستطيع المواطنون في البلدان المُقرضة والمقترضة على حدٍ سواء، محاسبة حكوماتهم على الديون السرية.
تفيد الدراسة بأنّ العقود تفرض على المقترضين تمويل حسابات خاصة من عائدات المشاريع الممولة من قبل المقرض الصيني، أو من خلال التدفقات النقدية التي لا علاقة لها على الإطلاق بمثل تلك المشاريع.
عملياً، ذلك يعني أنّ الإيرادات الحكومية تظل خارج الدولة المقترضة، وخارجة عن سيطرة المقترض السيادي. كما أنّه إذا كانت حصة كبيرة من إيرادات بلد ما\ تحت سيطرة دائن واحد، فذلك يعزز مخاطر تعرض البلد لضائقة الديون.
يحتوي ما يقرب من ثلاثة أرباع عقود الديون في العينة الصينية، على ما تطلق عليه الدراسة بنود “لا نادي باريس”، والتي تلزم المقترض صراحةً باستبعاد الدين من إعادة الهيكلة في نادي باريس للدائنين الثنائيين الرسميين، ومن أي معاملة مماثلة للديون.
وتلك الأحكام تتعارض مع الالتزامات التي تعهدت بها الصين بموجب إطار عمل مجموعة الـ20 المشترك لمعالجات الديون، يُلزم حكومات مجموعة العشرين بتنسيق شروط تخفيف أعباء الديون للبلدان.
كلّ عقد تجاري يحتوي على بند إفتراضي في حال التقصير في السداد بالمقارنة مع العقود النموذجية، لكن في حالة العقود الصينية، فهي تزيد من تقييد المقترض.
أيضاً تفيد الدراسة بأن العديد من العقود المبرمة مع المقرضين الصينيين، يحتوي شروطاً جديدة تكيّف المصطلحات وفق مصلحتها لتتجاوز المعايير التجارية النموذجية، ويمكن لمثل تلك الشروط تضخيم تأثير المقرض على السياسات الإقتصادية والخارجية للمدين.
على سبيل المثال، 50 % من عقود مصرف CDB الصيني، تتضمن بنوداً في حال التقصير يمكن إطلاقها من خلال إجراءات تتراوح من المصادرة إلى الإجراءات التي يحددها المدين السيادي على نطاق واسع على أنّها معاكسة لمصالح كيان جمهورية الصين الشعبية. ويبدو أنّ تلك الشروط مصمّمة لحماية قطاع عريض من الإستثمار الصيني المباشر والمعاملات الأخرى داخل البلد المقترض. كما تتضمن كلّ عقود CDB إنهاء العلاقات الديبلوماسية بين الصين والدولة المقترضة، فيما لو تمّ تخلّف المقترض عن السداد، وبالتالي طلب المقرض بالسداد الفوري للديون.
أكثر من 90 % من العقود الصينية التي تمّت قحصها في الدراسة، تحتوي على بنود تسمح للدائن بإنهاء العقد والمطالبة بالسداد الفوري في حالة حدوث تغييرات كبيرة في القانون أو السياسة في البلد المدين أو الدائن، وفي تلك الحالة، يتحمل المدين كلّ المسؤولية والتكاليف جرّاء التغيير في سياساته البيئية والعمل.
بشكل عام، تشير العقود في العيّنة التي تمّ فحصها، إلى أنّ الصين هي جهة إقراض قوية وذكية من الناحية التجارية للدول النامية. وتحتوي عقودها على ضمانات سداد أكثر تفصيلاً من نظيراتها في سوق الإئتمان الرسمية، بالإضافة إلى ميزّات أخرى تقيّد من خلالها المقترض، وهي تسعى إلى الحصول على قدر من التأثير على المدين، وثنيه عن اتخاذ خطوات معاكسة لمصالح الدائن.
ومن المحتمل أن يكون الدائن مجبراً على التخلي عن إعادة الهيكلة، التي يمكن أن تكون غير قابلة للتنفيذ في المحكمة، نظراً لأنّ معظم العقود الصينية تحدد الاسنتاد إلى القانون الصيني، وبالتالي فالوعود التي يتضح في نهاية المطاف أنّها غير قابلة للتنفيذ، يمكن أن تكون مصدر ضغط رسمي وغير رسمي على المدين.
ما تمّ عرضه ربّما يساعد في إثراء المناقشات الجارية حول كيفية معالجة مخاطر ضائقة الديون لدى البلدان النامية، بما في ذلك عبر المبادرات العالمية.