تعيش دولة البوسنة والهرسك مخاوف أمنية كبيرة، إذ يتصاعد التوتّر بشكل لافت مع الحديث مؤخراً عن إمكانية تجدّد الخلاف في ذلك البلد، الذي يقع جنوب وجنوب شرق أوروبا، وتحديداً داخل البلقان، وفي منتصف الدول التي كانت تشكّل جمهورية يوغوسلافيا السابقة. والمعلومات تفيد بأنّ المخاوف تتعاظم أكثر كون ذلك الخلاف قد يكون أكبر تهديد منذ انتهاء الحرب في العام 1995، ربّما يسفر عن كارثة شاملة.
- تعيش البوسنة والهرسك أخطر أزمة تواجهها منذ نهاية الحرب البوسنية في العام 1995
- التهديد بالإنفصال قد يؤدّي إلى حصول خلاف مفتوح ربّما يصل للإشتباكات المسلّحة
- دوديك الذي يتكىء في تحركاته على 15 عاماً من التحضير يكرر تهديداته بالإنفصال
- عميد كلية العلوم السياسية تورتشيللو: كلّ ما قام به دوديك كان بدعم من الاتحاد روسيا
تلك ليست يوغوسلافيا في العام 1991، إنّها البوسنة والهرسك اليوم، البلد الذي تمّ التفاوض على نظامه الدستوري المعقّد بصعوبة كبيرة، هو اليوم على وشك الإنهيار.
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة سراييفو سياد تورتشيللو، وصف لـ”أخبار الآن“، الوضع في البوسنة والهرسك بالمعقّد للغاية، فقال: “أعتقد أنّ تلك أخطر أزمة نواجهها منذ نهاية الحرب البوسنية في العام 1995، وتلك الأزمة خطيرة جدّاً لدرجة أنّ هناك بعض القوى السياسية تحاول ليس فقط تعطيل مؤسسات الدولة التي تأسّست في الماضي منذ 25 عاماً، بل تقود البلاد إلى الخراب”.
وتابع في حديثه لـ”أخبار الآن“: “في السنوات الـ 25 الماضية، تمّ الإهتمام ببعض المؤسّسات التي تحتاجها الدولة لبسط سيادتها، كالجيش الموحّد، وكالات الإستخبارات وغيرها من المؤسسات الأمنية، والمؤسسات التي لها علاقة بسياسة البلاد الإقتصادية. وثمّة خطر آخر، هو تهديد كياني ريبوبليكا صربسكا بالإنفصال عن دولة البوسنة والهرسك، وذلك يهدّد سيادة الدولة، وقد يؤدّي ليس فقط إلى خلاف سياسي كما هو حاصل الآن، بل إلى إمكانية حصول خلاف مفتوح ربّما يصل إلى الإشتباكات المسلّحة إذا ما قرّرت ريبوبليكا صربسكا إعادة بناء قوّتها العسكرية، وتلك إحدى الأفكار التي يناقشها القادة في ريبوبليكا صربسكا”.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القوّات المسلّحة في ريبوبليكا صربسكا، التي كانت موجودة خلال الحرب، اعتُبرت مسؤولة عن المجزرة التي حصلت في سريبرينيتسيا، ويقول تورتشيللو إنّه إذا ما حاولت ريبوبليكا صربسكا إعادة بناء قوتها المسلحة التي وجدتها المحكمة الدولية مسؤولة عن المجزرة في سريبرينيتسيا، (مجزرة سريبرينيتشا حصلت العام 1995 وراح ضحيتها 8000 شخص على يد صرب البوسنة، وتم الاعتراف بها منذ ذلك الحين على أنها إبادة جماعية)، فذلك سيشكل تهديداً للبلد ولضحايا تلك القوات المسلّحة في الحرب التي حصلت بين العامين 1992 و1995.
يكرر زعيم صرب البوسنة والهرسك ميلوراد دوديك، الذي يتكىء دوديك في تحركاته على 15 عاماً من التحضير، تهديداته بالإنفصال عن البوسنة، وهو يُتهم بتعريض السلام للخطر في البلد الذي يعاني من انقسامات إتنية. ويعد ميلوراد دوديك، وهو عضو في مجلس رئاسة البوسنة والهرسك الثلاثي، بتشكيل جيش صربي، كما يريد طرد مؤسسات فدرالية، مثل القضاء خارج جمهورية صرب البوسنة المعروفة بصربسكا. وتثير تلك التهديدات في وجه وجود الدولة الهشة التي ولدت بعد حرب أودت بحياة 100 ألف شخص، قلقاً كبيراً في البوسنة.
حرب أخرى في البوسنة والهرسك ستكون مدمرة، وسط توقع دولي بدوامة صراع محتملة تفرض إستجابة عاجلة للمشكلة
تورتشيللو يرى أنّ “دوديك يستعمل تعابير سياسية مزدوجة، ويقول إنّ ريبوبليكا صربسكا تحاول استعادة صلاحياتها التي تعتبر أنّ دولة البوسنة قد سلبتها إياها عبر ممارسة الضغوطات… إنّها خطوة سياسية لكن كلّ ما يقوم به يدفع الدولة البوسنية إلى نقطة حيث لا تستطيع أن تبسط سلطتها على الأراضي التي حدّدتها الأمم المتحدة بعد حرب الـ 1992 و1995 في البوسنة والهرسك”.
وأضاف لـ”أخبار الآن” أنّ “خطوات ميلوراد دوديك وتصريحاته هي خطوات نحو إعلان استقلال ريبوبليكا صربسكا، إذا ما كانت الظروف الدولية مناسبة لذلك، وكلّ ما قام به في الشهر الماضي كان بدعم من الإتحاد الروسي من جهة، ومن صربيا من جهة أخرى”.
وشدد على أنّ “روسيا تتدخل بشكل كبير في الأمور الداخلية في البوسنة خلال الأشهر الماضية، بل إنّ ذلك التدخل الروسي بدأ يزداد خلال السنوات الـ 15 الماضية، بدءاً من العام 2006، لكن في الأشهر الماضية، الممثلون الديبلوماسيون الروس وتحديداً السفير الروسي في البوسنة، صرّح علانيةً أنّ كلّ ما يقوم به دوديك هو جزء من العملية الديمقراطية، لكن ذلك يُعتبر تفكيكاً لدولة البوسنة والهرسك، وذلك لا يمتّ إلى الديمقراطية التي نعرفها ونفهمها نحن، بأي صلة”.
قضيتان أساسيتان تقودان البلاد نحو الهاوية حالياً: تهديدات جمهورية صربسكا بالإنفصال، والجهود المشوشة لإجراء إصلاحات في النظام الانتخابي
يشير تورتشيللو إلى أنّ “إحدى نقاط التحوّل في تدخّل المجتمع الدولي في البوسنة والهرسك كان في العام 2006، في ذلك العام حصلت محاولة من المجتمع الدولي لتقديم فكرة التعاون مع القادة في البوسنة والهرسك لإحداث تغييرات دستورية، لكنّها فشلت في العام 2006.
بعد ذلك، المجتمع الدولي وخصوصاً الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، نقلوا اهتمامهم من البوسنة والهرسك، إلّا أنّ البوسنة حافظت على العلاقة التكنوقراطية مع الإتحاد الأوروبي، واقتصر التدخل الأوروبي على ضغط المجتمع الدولي على القادة السياسيين للقيام ببعض الإصلاحات، وفي الوقت نفسه في العام 2006، كثّف الإتحاد الروسي من تواجده في البوسنة والهرسك، وقد أرسل في ذلك الوقت ديبلومايسيين روسيين معروفين إلى البوسنة والهرسك، والذين استغلوا كلّ تلك الفجوات والخلافات بين أعضاء المجتمع الدولي في البوسنة والهرسك، خصوصاً المجلس المسؤول عن تنفيذ اتفاقية السلام، والذي يشرف على البنود التي وضعها مسؤولون كبار في البوسنة الهرسك”.
في التسعينيات، كان الغرب بطيئاً في الرد على تفكّك جمهورية يوغوسلافيا السابقة، وبعد الكثير من إراقة الدماء، وفي نهاية المطاف تمّ توجيه ضربات جوية ضدّ القوات الصربية في البوسنة في العام 1995، وفي صربيا وكوسوفو في العام 1999، وكما تمّ نشر عشرات آلاف العناصر من قوات الناتو للإشراف على الهدنة وتحقيق الإستقرار في المنطقة. مع الإشارة إلى أنّه في السنوات اللاحقة، أنفق كلّ من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي مليارات الدولارات للمساعدة في إعادة بناء المنطقة.
لكن في كثير من الأحيان كانت توجه لهم انتقادات جرّاء تكيزهم على الحلول القصيرة الأجل، وقد تراجع انتباههم بسبب الإنشغالات الأمريكية في أفغانستان والعراق، وتسليم المسؤولية للاتحاد الأوروبي، الذي كان من المفترض أن يضمن استقرار المنطقة على المدى الطويل من خلال قبول انضمام دولهها إليه.
وهنا يقول تورتشيللو لـ”أخبار الآن“: “من خلال استغلال تلك الخلافات، أعيد تشكيل التدخل الدولي في البوسنة والهرسك، وتحويل التركيز على بعض المواضيع التي دفعت البلد إلى الدفاع عن وضعه وعن مؤسّساتها.. وروسيا كانت تحاول، ويمكنني القول إنّها نجحت، في منع البوسنة والهرسك من أن تصبح عضواً في حلف الناتو، ويعتبر ذلك أحد أهداف السياسة الخارجية الإستراتيجية للبوسنة والهرسك”.
وأضاف: “في الوقت نفسه، رأى القادة السياسيون أنّ اهتمام الإتحاد الأوروبي بالبلد تلاشى لأنّ الإتحاد الأوروبي مازال يواجه مشكلة في التعبير عن موقفه وعن سياسته تجاه دول البلقان، وتجاه توسيع الإتحاد الأوروبي، والشعب والقادة لاحظوا أنّ ذلك الإهتمام يتلاشىى وبدأوا يستطلعون خيارات أخرى، فبدأوا البحث عن شركاء جدد، وقد رأت روسيا والصين أنّ تلك فرصتهما للتأثير في المنطقة”.
الآن وبعدما اشتدت تلك الأزمة، أدرك المجتمع الدولي خصوصاً الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أنّ تلك الأزمة قد تتفاقم بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وتحاولان أن تجعلا عواقب ذلك التصعيد كبيرة على الذين يقفون خلف تلك الأزمة، كدوديك وشركائه السياسيين في البوسنة والهرسك.
التهديدات المتجددة للاستقرار السياسي الداخلي تدق ناقوس الخطر مجدداً، فهل تنجح الجهات الدولية الفاعلة في اتخاذ الإجراءات التي تجنّب البلاد أزمة قد تكون ممية؟
ورأى تورتشيللو في حديثه لـ”أخبار الآن” أنّ “ما حصل في الأسبوعين الماضيين، أي الضغط من قبل المجتمع الدولي، جعل حكومة ريبوبليكا صربسكا تؤجّل اتخاذ بعض القرارات التي كانت تفكّر فيها، ومنها تبنّي بعض القوانين المتعلّقة بسحب الموافقة على وحدة القوّات المسلّحة والإستخبارات، وغيرها من المؤسّسات العامة كمؤسسة الدولة الضريبية المشتركة، والضغط الذي مورس من قبل المجتمع الدولي، من الواضح أنّه جعل ميلوراد دوديك يدرك أنّ ثمن زيادة التصعيد سيكلّفه الكثير، لكنّه من جهة أخرى غيّر من مخططاته وتعاون مع قائد الحزب الرئيسي في البوسنة والهرسك دراغان تشوفيتش في المفاوضات حول الإصلاحات الإنتخابية في البوسنة والهرسك، وأعلنا أنّهما سيمنعا حصول الإنتخابات في العام 2022 إذا لم تتم التعديلات الإنتخابية التي ينتظرونها، وفي حال حصول ما يهددون به، فعندها سنصل إلى وضع لن يتمكّن فيه المواطنون من ممارسة حقّهم الدستوري بالتصويت… وفي النهاية الدولة ستكون في حالة جمود، وذلك ما يخشاه ليس فقط المواطنون بل أيضاً المجتمع الدولي الذي أبدى مخاوف كبيرة من وقوع البلد في مرحلة الجمود السياسي، ومن أن تصبح تلك الحكومة مجرّد حكومة تقنية إلى أجل غير مسمّى.
لقد أبدت روسيا اهتماماً واضحاً، حيث أقامت نفوذاً سياسياً قوياً في كلّ الأجزاء المأهولة بالسكان الصرب في المنطقة، بينما احتلّت الصين، باستخدام البراغماتية السياسية ومواردها الإقتصادية، حضوراً رئيسيا في كلّ أنحاء المنطقة، وقد اتخذ دوديك خطوته الإنفصالية فقط بعد تلقي الضوء الأخضر من روسيا.
وفي المحصلّة، يبدو الوضع في البوسنة، مع خلافاته العرقية السياسية العميقة، كما كان عليه قبل اندلاع الصراع في العام 1992. فالتهديدات المتجددة للاستقرار السياسي الداخلي تدق ناقوس الخطر مجدداً، فهل تنجح الجهات الدولية الفاعلة في اتخاذ الإجراءات التي تجنّب البلاد أزمة قد تكون ممية؟