أزمة إيفرغراند تتصاعد
تعالت أصوات المستثمرين في مجموعة إيفرغراند الصينية في هونغ كونغ حيث احتج المستثمرون في المنتجات المالية الصادرة عن المجموعة مطالبين باسترجاع اموالهم وسط قلق من التضحية بعائداتهم للحفاظ على عقارات الشركة.إذ تكافح “ايفرغراند” الغارقة في التزامات بـ 300 مليار دولار لدفع ما يترتب عليها لحاملي سنداتها والمستثمرين فيها، بعد أن اصطدمت بحملة بكين للحد من مديونية الشركات في قطاع العقارات المتضخم لكن الشركة العملاقة التي تخلفت رسمياً عن سداد سندات رئيسية تعاني أيضا من تخفيض تصنيفها إلى شبه عاجزة عن سداد ديونها أي على بعد خطوة واحدة فقط من تصنيف عاجزة تماماً عن السداد.
كانت إيفرغراند غروب، قد قلصت سداد مليارات الدولارات من مستحقات المستثمرين في أدوات الدين التي أصدرتها والمتأخرة عن سدادها في ظل مؤشرات على زيادة حدة أزمة السيولة النقدية التي تعاني منها الشركة.
ويخشى المستثمرون تخلف الشركة عن السداد، وهي في حاجة إلى جمع أموال لتسديد المستحقات للبنوك والموردين وحاملي الأسهم في موعدها والخوف لا يأتي فقط بسبب مصير الشركة العقارية العملاقة، بل من انتشار عدوى الانهيار بقطاعات أخرى باقتصاد الصين.
قطاع العقار في الصين بدأ في التصدع
يتذكر العالم كيف أن الأزمة المالية العالمية في 2008 بدأت بانهيار سوق العقارات الأمريكي نتيجة انفجار فقاعة المشتقات الاستثمارية لسوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة.
وتوالى الانهيار في أرجاء مختلفة من النظام المالي العالمي ليدخل العالم في أزمة لم تنتهِ آثارها تماما حتى جاءت أزمة وباء كورونا في 2020.
طفت تلك الذكرى مرة أخرى بقوة هذا العام مع ما يحدث في قطاع العقار في الصين، الذي اعتبر على مدى العقدين الأولين من هذا القرن الرافد الأكبر لنمو الاقتصاد الصين بمعدلات أضعاف متوسط النمو العالمي.
إذ شكل نمو شركات القطاع العقاري ما يقارب ثلث النمو في الناتج المحلي الإجمالي لثاني أكبر اقتصاد في العالم.
إذ بدأت فقاعة هذا القطاع التصدع في العامين الأخيرين بسبب عامل ذاتية فيه وبسبب سياسات حكومية تتعلق بمحاولة السلطات الصينية الحد من تغول الشركات الكبرى وإعادتها تحت سيطرة الدولة.
تغلي أزمة القطاع العقاري في الصين منذ سنوات، لكن العالم انتبه للخطر في الأشهر الأخيرة مع أزمة مديونيات الشركات العقارية الصينية.
ومطلع الشهر الماضي صنفت مؤسسة فيتش الدولية للتصنيف الائتماني مجموعة إيفرغراند الصينية “مفلسة” بعد تخلفها عن سداد مستحقات ديون.
منذ فترة والعالم يتابع ماذا ستفعل الحكومة الصينية مع ديون الشركات العقارية: هل ستقدم لها الدعم أم تتركها تتخلف عن السداد وتفلس.
ومجموعة إيفرغراند، ثاني أكبر مجموعة تطوير عقاري في الصين، ليست الوحيدة التي تعاني لكن ديونها هائلة وتزيد عن ثلاثمئة مليار دولار.
وتعد المجموعة مثالا صارخا على ما يواجهه القطاع ككل، وربما الاقتصاد الصيني بشكل أوسع.
الحكومة الصينية مسؤولة عن الأزمة
لا يمكن إغفال حقيقة أن الحكومة الصينية مسؤولة بشكل رئيسي عن تضخم تلك الفقاعة بشكل خطر، فلطالما عملت منذ تسعينيات القرن الماضي على تسهيل التوسع في البناء والإنشاءات بتقديم القروض الميسرة جدا للمطورين العقاريين لضمان النشاط الاستثنائي في الاقتصاد الذي يغذي النمو.
وساد الاعتقاد بأنه مهما كانت مشاكل شركات العقار فإن الحكومة لن تتركها تنهار.
ودخلت الصين القرن الحالي بمشروعات إعمار هائلة نتج عنها ما أصبح بعرف بوصف “مدن الأشباح”، أي مناطق عمرانية بالكامل من أبراج سكنية ومباني تجارية وميادين وطرق واسعة لكنها خالية تماما من السكان.
فقد صاحب ذلك التوسع العقاري ارتفاع أسعار الوحدات السكنية والتجارية التي لا يقدر على تحملها أغلبية الشعب الصيني الذي لا يزيد دخله عن مئة وخمسين دولارا في الشهر.
ورغم أن الطبقة الثرية الصاعدة في الصين أصبحت تشتري عقارات غير التي تسكنها (عقار ثاني وثالث) وتتركها فارغة بغرض المضاربة على ارتفاع سعرها فيما بعد إلا أن ذلك لم يمثل طلبا كافيا ما جعل الشركات تواجه صعوبة في التسويق وتتراكم عليه الديون.
الرئيس الصيني تشي جين بينغ يحد من نفوذ الشركات الخاصة
ومنذ 2017 بدأ الرئيس الصيني تشي جين بينغ سياسة جديدة تستهدف الحد من دعم وتسهيلات الدولة للشركات الخاصة الكبيرة في كل القطاعات، ومنها القطاع العقاري. وأوضح الرئيس تشي ذلك صراحة أمام مؤتمر الحزب الشيوعي السنوي قبل أربع سنوات حين قال إن “العقارات تبنى للسكنى وليس للمضاربات”. لكن الآوان كان قد فات بالفعل، ووصل غليان الفقاعة إلى حد الخطر الحقيقي.
تكاد تجمع المؤسسات الدولية على أن فترة النمو الاستثنائي للاقتصاد الصيني انتهت، وتسهم السياسات الحكومية التي تحاول ضبط الغليان في تباطؤ النمو الاقتصادي.
وفي الشهر الأخير من العام المنصرم، أصدرت مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني تقريرا موسعا عن القطاع العقاري الصيني يرسم صورة قاتمة، حتى في حال تدخل الدولة لمنع انهيارات كبرى في القطاع.
على سبيل المثال، تراجع الطلب بشدة مع زيادة كبيرة في المعروض من الوحدات السكنية والتجارية ما يعني أن أسعار العقار ستستمر في الانخفاض لفترة.
ويضاعف ذلك من أزمة الشركات العقارية التي أصبحت ديونها فوق ما هو مسموح به بمعايير السوق: أي نسبة الدين إلى قيمة الأصول، ومع عزم حكومة الرئيس تشي الاستمرار في سياساتها لضبط الغليان، ومحاولة تقزيم المجموعات الخاصة الكبرى التي تكاد تفلت من قبضة الدولة، لن يتوقف التباطؤ والتراجع. صحيح أن لدى السلطات في الصين بعض الأدوات التي يمكنها استخدامها للحد من الأضرار الهائلة في حالات الانهيار، لكن ذلك لن يمنع التأثير السلبي على الاقتصاد الصيني ككل وأيضا الاقتصاد العالمي بالتبعية.
لمعرفة أهمية أزمة القطاع العقاري الصيني وتأثيرها على الاقتصاد العالمي ككل، نشير إلى أن حجم القطاع في الصين وصل إلى 55 تريليون دولار، أي ضعف نظيره الأمريكي ونحو أربعة أضعاف حجم الناتج المحلي الإجمالي للصين.
قد لا يسبب انفجار فقاعة القطاع العقاري في الصين أزمة مالية عالمية مماثلة لأزمة 2008-2009، لكنه سيؤدي إلى مزيد من التباطؤ في نمو الاقتصاد الصيني وسينعكس سلبا على الأسواق العالمية، خاصة أسواق السندات وأوراق الدين.
فضلا عن أن النمو السريع والقوي في الصين في السنوات السابقة كان يعد بمثابة “قاطرة” النمو الاقتصادي العالمي، ومع تباطؤ القاطرة تتباطأ كل عربات القطار ويتهدد التعافي العالمي الهش من أزمة وباء كورونا.