شبح الخليفة الجديد
عبر كلمة صوتية جديدة لمتحدث إعلامي “مجهول”، أكد تنظيم داعش مقتل زعيمه السابق أبو إبراهيم الهاشمي القرشي المعروف أيضًا بحجي عبد الله قرداش التركماني، بعد أكثر من شهر على إعلان الولايات المتحدة نجاحها في تصفية “القرشي”، مع ثلة من مساعديه وكبار قادة داعش، خلال عملية عسكرية نفذتها القوات الخاصة قرب مدينة أطمة السورية (شمال غرب البلاد).
وأعلن المتحدث الجديد باسم داعش والمُكنى بـ”أبو عمر المهاجر”، اختيار “أبو الحسن الهاشمي”، خليفة للتنظيم الإرهابي، واصفًا إياه بـ”الشيخ المجاهد الجليل والسيف الصقيل”، لكنه لم يكشف أي معلومات عن هويته الحقيقية واكتفى بالقول إنه “من أهل السبق والصدق ولو أمكن لكشفنا عن اسمه ورسمه، ولكن لكل مقام مقال”، وهو ما يؤكد تخوف قيادة التنظيم من ذكر عن أي معلومات متعلقة بالزعيم الجديد خوفًا من الكشف عن شخصيته الحقيقية وبالتالي التوصل إليه واستهدافه كما حصل مع سلفه “أبو إبراهيم الهاشمي”، في حين تعتقد بعض المصادر العراقية والغربية أن “الهاشمي” هو جمعة البغدادي شقيق أبو بكر البغدادي، الزعيم الأسبق لداعش.
وحث “أبو عمر المهاجر” الذي تولى منصبه خلفًا لـ”أبو حمزة القرشي”، المتحدث السابق باسم التنظيم ونائب أبو إبراهيم الهاشمي ووزيره- وفق بيان داعش-، أتباع ومناصري التنظيم على مبايعة “أبو الحسن الهاشمي” وعدم التأخر عن أداء قسم الولاء له، وعدم ترك السمع والطاعة له.
وفور هذا الإعلان، سارعت كتائب ومناصري “الخلافة الإلكترونية/ الافتراضية”، لنشر بيانات التأييد والدعم لخليفة داعش، تحت شعار ووسم “الثبات على العهد”، متجاهلين أي إشارة إلى هويته الحقيقية أو التأخير الذي صاحب عملية تنصيبه زعيمًا للتنظيم، ولاحقًا، نشرت وكالة أعماق، الذراع الإخبارية للتنظيم، صورًا لمقاتليه وهم يأدون البيعة لـ” أبو الحسن الهاشمي”.
القراديش.. ولعبة خليفة داعش
على أن توقيت وطريقة نشر صور بيعات خليفة داعش الجديد يكشف العديد من الأسرار التنظيمية التي يُحاول داعش إخفائها، إذ كانت أولى البيعات التي سلطت آلته الدعائية الضوء عليه، هي بيعة المقاتلين التابعين للتنظيم في قواطع العمليات المختلفة داخل نطاق محافظة كركوك العراقية والتي تُعد أحد المعاقل الرئيسية للتركمان العراقيين، الذين ينخرط العديد منهم في العمل داخل داعش ويتولون مناصب بارزة في قيادته العليا.
ولعل التنظيم أراد إرسال رسالة ضمنية لأتباعه مفادها أن “خلافة القراديش” لا زالت باقية وتتمدد، وهو ما برز بشكل جلي في إعلان “أبو عمر المهاجر” أن اختيار “أبو الحسن الهاشمي” جاء بناءً على توصية سلفه أبو إبراهيم الهاشمي القرشي/ حجي عبد الله قرداش التركماني، وهو ما وافق عليه أهل الحل والعقد (مجلس الشورى) الذي يُعد أعلى هيئة قيادية في التنظيم (يُسيطر عليه التركمان حاليا)، وكذلك في مسارعة مقاتلي داعش التركمان في كركوك وغيرها إلى مبايعة الخليفة الجديد، فضلا عن اختيار تسمية حركية مميزة للتركمان في داعش وهي “الهاشمي”، الذي لم يستخدمها التنظيم إلا في الإشارة إلى قادته التركمان كأبي علي الأنباري الهاشمي، وأبو إبراهيم الهاشمي (الخليفة المقتول).
ويشير التزامن بين كلمة “أبو عمر المهاجر”، المتحدث الجديد لداعش، ونشر صور البيعات لـ”أبو الحسن الهاشمي”، إلى أن هناك خلافات داخلية نشبت داخل التنظيم خلال عملية اختيار خليفة داعش، وهو ما تؤكده معلومات حصلت عليها “أخبار الآن” عن طريق مصادر استخبارية عراقية.
ومن المحتمل أن يكون هذا الخلاف أحد أبرز الأسباب- بجانب الصعوبة في التواصل بين قيادات داعش وبعضهم البعض والأمنيات التي يلتزمون بها- التي أخرت الإعلان عن اسم الخليفة الجديد لداعش رغم اختياره وتسجيل كلمة “فمنهم من قضى نحبه” لـ”أبو عمر المهاجر” التي شملت نعي زعيم داعش السابق واختيار الخليفة الجديد، كما يظهر من الصيغة التي تحدث بها “المهاجر” والذي ذكر أن مقتل أبو إبراهيم القرشي تم “في الأيام الماضية” رغم مرور أكثر من 5 أسابيع على عملية استهدافه في 3 فبراير/ شباط الماضي.
ويبدو أن قراديش/ تركمان داعش ظلوا محتفظين بالسيطرة الأكبر على قيادة التنظيم العليا، واستفادوا منها في اختيار أحد المحسوبين عليهم “أبو الحسن الهاشمي” لمنصب الخليفة، وكذلك شرعوا في التواصل مع الأفرع الخارجية النشطة وعلى رأسها “ولاية غرب إفريقيا” (فرع داعش في نيجيريا وحوض بحيرة تشاد)، لحشد الدعم اللازم للخليفة الجديد الذي يبقى مجهولًا لغالبية مقاتلي وقادة التنظيم.
تكتيك قديم – جديد
ولجأت قيادة داعش الحالية إلى تكتيك قديم جديد في اختيار الزعيم الجديد له، حتى أنها استدعت نفس الألفاظ التي استخدمها لحث مقاتليه على مبايعة أبو بكر البغدادي في عام 2010، لدعوة مقاتليه لتأييد “أبو الحسن الهاشمي” في 2022. ففي المرة الأولى قال أبو محمد العدناني (المتحدث الأسبق)، في معرض التعريف بـ”البغدادي” خلال كلمة صوتية له نُشرت في أغسطس/ آب 2010: (ولو كان يمكنني لكشفت لكم عن اسمه ورسمه)، وفي الثانية قال أبو عمر المهاجر، في كلمته الصوتية مارس/ آذار 2022، عن “الهاشمي”: (ولو أمكننا لكشفنا عن اسمه ورسمه).
ولم يكن التشابه مقتصرًا على استخدام نفس الألفاظ فحسب
إذ لجأت قيادة داعش إلى اختيار كنية/تسمية حركية جديدة وأطلقتها على أمير قديم بغرض إخفاء هويته الحقيقية وتشتيت الجهود الأمنية الرامية للكشف عن شخصيته، وهو نفس ما حصل مع أبو بكر البغدادي في 2010 والذي تمت تسميته بالبغدادي بدلًا من “أبو دعاء السامرائي”، وخليفته التالي أبو إبراهيم الهاشمي القرشي في عام 2019 (بعد مقتل البغدادي) الذي كان معروفًا بأبي عمر التركماني وحجي عبد الله قرداش قبل توليه منصب خليفة داعش.
وتؤكد وثائق وشهادات سابقة أن قيادة داعش تلاعبت بأتباعه ومناصريه باختيار تسميات حركية غير معروفة لـ”الخليفة الداعشي” الذي لم يكن موجودًا أصلًا، وهو ما أوضحه أبو عيسى المصري، الشرعي السابق بداعش، نقلًا عن أبو محمد المصري، عضو اللجنة المفوضة سابقًا والذي أعدمه داعش بعد خلافه مع عبد الله قرداش، قائلًا: (بعد مقتل أبو عمر البغدادي، اجتمعت قيادة الجماعة ووضعوا اسمًا وهميًا هو “أبو بكر البغدادي” للأمير الجديد الذي لم يعين بعد، وجاءوا بأبي دعاء السامرائي (كنية البغدادي السابقة) فقالوا له نعينك حتى نجد أميرًا قرشيًا مناسبًا، فقا لهم أنا قرشي وآتاهم بنسبه فقالوا له إذا أنت أبو بكر البغدادي).
وتبين مراسلات بين أسامة بن لادن ومسؤولي العمليات الخارجية في تنظيم القاعدة والذين كانوا مسؤولين عن التواصل مع “تنظيم دولة العراق الإسلامية” (نواة داعش)، أن قيادة القاعدة بما فيها “بن لادن” لم يكونوا على معرفة بـ”البغدادي”، رغم أنهم أقروا بتوليته إمارة التنظيم في العراق، ولم يثقوا بالمعلومات التي قدمتها لهم القيادة العراقية، إذ طلب زعيم القاعدة (الراحل) من المسؤولين عن العمل الخارجي أن يمدوه بمعلومات وافية عن “البغدادي” وأن يجمعوا تلك المعلومات من المصادر التي يثقون بها حتى يتضح الأمر لقيادة القاعدة في خراسان.
ومن الواضح أن تنظيم داعش عاد وكرر نفس الحيلة السابقة والتي أصبحت مشهورة في اختيار “أبو الحسن الهاشمي”، والذي لم يكن معروفًا من قبل في أوساط أفراد وقادة التنظيم، وهو ما تؤكده وثائق تنظيمية ومصادر استخبارية عراقية لـ”أخبار الآن”، قائلًةً إنه يُرجح أن يكون الخليفة الجديد هو “زيد العراقي” المعروف داخل داعش بـ”الأستاذ” وهو أحد أمراء الصف الأول داخل داعش، وتولى، سابقًا، إمارة ديوان التعليم وديوان القضاء والمظالم وكذلك إمارة المكتب المركزي لمتابعة الدوواين الشرعية وعضوية لجنة الرقابة المنهجية، وكذلك اللجنة المفوضة (أعلى هيئة تنفيذية) داخل التنظيم سابقًا، بينما ذكرت بعض المصادر العراقية وأخرى غربية لوكالة “رويترز” أن “الهاشمي” هو جمعة البغدادي، شقيق أبو بكر البغدادي، غير أنه لا يمكن الجزم، في الوقت الحالي بهوية الخليفة الداعشي الحقيقية، خاصةً في ظل عدم اليقين الحاصل حاليا.
داعش يُناقض نفسه
إلى ذلك، انقلب تنظيم داعش باختياره “أبو الحسن الهاشمي” خليفة للتنظيم الإرهابي، على آراءه الفقهية- الحركية التي انتهجها في مرحلة الخلافة المكانية (2014: 2019)، والتي تشدد على ضرورة إعلان هوية زعيم داعش حتى تصح بيعته من الناحية الشرعية.
ووفقًا لما ذكره القيادي الداعشي السابق ابن جبير (عادل الكبيسي المعروف بأبي عبد الرحمن الزرقاوي المهاجر)، فإن قيادة التنظيم العليا عندما قررت اختيار أبو بكر البغدادي، خليفة له، في عام 2014، استشارت تركي البنعلي (مفتي داعش، وأمير مكتب البحوث الشرعية به سابقًا- قُتل في 2017)، فأفتى بضرورة ووجوب ظهور “الخليفة الداعشي” بشخصه حتى يعرفه الناس وتصح بيعته، وتم الأمر بظهور “أبو بكر البغدادي” في الجامع النوري بالموصل في يوليو/ تموز 2014، رغم معارضة عدد من قادة التنظيم- منهم أبو محمد الفرقان، نائب البغدادي وأمير ديوان الإعلام المركزي بالتنظيم سابقًا، قُتل في 2016- لهذه الخطوة بحجة الخطورة والضرورة الأمنية.
وتلفت الخبرة السابقة في التعامل مع تنظيم داعش، خاصة بعد سقوط الخلافة المكانية في مارس/ آذار 2019، إلى أن التنظيم حل المكاتب والدواوين الشرعية التابعة له وأصبح لا يُركز على المسائل الشرعية ويخالفها في أحيان كثيرة بحجة الضرورة، وهو نفس التبرير الذي يُقدمه أتباع التنظيم لاختيار “أبو الحسن الهاشمي” خليفةً له دون توضيح هويته الحقيقية.
معضلة الخليفة الجديد
بيد أن المعضلة الحقيقية التي يواجهها تنظيم داعش لا تقتصر فقط على هوية زعيمه الجديد، لا سيما وأن التنظيم يقف أمام اختبار حقيقي من شأنه أن يُقوض جاذبية النموذج الذي يُقدمه داعش لـ”الخلافة التي لا تقهر”، كما تقول أذرعه الدعائية، في ظل الإخفاقات المتكررة لجهازه الأمني في تأمين قادته وأمراءه البازرين الذين يتسقطون بفعل وشايات داخلية، ويتم القبض عليهم أو قتلهم في ملاذتهم الآمنة سواء داخل سوريا والعراق أو حتى في خارجها في دول الجوار كما حدث مع حجي حامد العراقي، وزير مالية داعش، الذي قُبض عليه بعد متابعته واستدراجه من خارج العراق، وكذلك خليفة التنظيم أبو إبراهيم القرشي الذي قُتل في منطقة حدودية شمال غربي سوريا.
ومن اللافت أن قيادات داعش الكبار الذين سقطوا خلال الأشهر القليلة الماضية، لم يكونوا في داخل المعاقل التقليدية له
وإنما في مناطق عاشوا في مناطق أكثر أمنًا سواء على الحدود السورية- التركية التي أقام بها أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، ونائبه أبو حمزة القرشي، قبل مقتلهما في فبراير/ شباط الماضي، كما جرى نقل أسر قادة داعش إلى دول أخرى كتركيا وغيرها وزودوا بالأموال اللازمة، بينما يُعاني أسر وسجناء مقاتلي داعش العاديين في مخيمات الاحتجاز داخل سوريا والعراق، كما تكشف اعترافات أمراء داعش ومنهم أبو عبد الله التركماني.
وتوجه تلك الوقائع والاعترافات ضربة قوية لمزاعم داعش وسردياته القائمة على الإشادة بأمراءه وقادته والإفراط في تزكيتهم وتصويرهم بأنهم في قلب المعارك يتقدمون صفوف عناصره ويخوضون معارك الموت معه، وهو ما تنفيه التحركات والصفقات السرية التي يقوم بها قادة داعش الذين يتركون عناصره في قلب المعارك ويكتفون بتحريضهم وتوجيههم من مخابئهم وبيوتهم الآمنة خارج معاقله.
وعلى صعيد متصل، يعترف داعش، بإصراره على إخفاء هوية الخليفة الجديد أبو الحسن الهاشمي، أنه فشل في تأمين قادته وأمراءه رغم تخصيصه موارد كبيرة، ورغم احتفاظ تلك القيادة بملايين الدولارات لخدمة مصالحها والإنفاق على أمورها الشخصية، حسبما قال محمد علي ساجت، عديل أبو بكرا البغدادي وأحد مرافقيه سابقًا، كما يُشكل ذلك تأكيدًا إضافيًا على خشية قيادة التنظيم من تعاظم الانقسامات داخله استمرار الصراعات في ظل سيطرة مجموعة محددة من الأمراء العراقيين (والتركمان/ القراديش في القلب منهم)، على القيادة العليا والموارد فيه.
كما تُدلل طريقة داعش على صحة الانتقادات التي وجهها المنشقين عنه لقياداته العليا، فعلى حد تعبير أبو عيسى المصري، القيادي السابق بداعش، فإن “حجاجي داعش” نصبوا خليفةً مجهول ودعوا أتباعه لمبايعته وهو ما يتناقض بشكل أساسي مع وظيفة هذا الخليفة الذي يُفترض أن يكون في مقدمة صفوف أفراد داعش ويُقاتل معهم ويشارك بنفسه في تطبيق أحكام التنظيم، وهو ما لم يفعله الخليفة الحالي أو سلفه “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي”.
ومع أن قيادة داعش تحاول تجاوز الانتكاسات العملياتية والانقسامات الداخلية عبر القفز للأمام ودعوة مقاتلي ومناصري التنظيم لبيعة “أبو الحسن الهاشمي”، إلا أن خسائر التنظيم المتكررة تطرح سؤالا محوريًا حول إمكانية وقدرة التنظيم على الاستمرار في ظل قيادة لا تتحلى بالكفاءة اللازمة، وتلقي بأتباعها في النيران بينما تفشل في حماية نفسها أو القيام بمهامها الأساسية، وسط حالة التخبط والاضطراب الذي يعيشه تنظيم فقد “خلافته وخلفائها معًا”.