السجن 15 سنة لكل من ينطق بكلمة “حرب” أو “غزو”
- لماذا طغت المعلومات المضللة ورواية السلطة حول الحرب داخل روسيا.
- “العملية العسكرية الخاصة” هذا هو المسمى الوحيد المسموح بإطلاقه داخل روسيا على ما يحدث في أوكرانيا.
- مجموعة قوانين صارمة أصدرها أعضاء مجلس الدوما، الذين يهيمن عليه الحزب الحاكم “روسيا الموحدة”.
- المثقفون والناشطون السياسيون صامتون خشية التعرض للسجن.
- تم إغلاق كافة الفضائيات والإذاعات والمواقع والصحف، المناهضة للحرب.
- حجب مواقع التواصل الاجتماعي عن الشعب الروسي لإيصال فقط ما يريد بوتين.
خلال الأيام الماضيين تصدرت صورة مارينا أوفسيانيكوفا الصحفية بالقناة الأولى الروسية وهي تقتحم الاستوديو على الهواء مباشرة أثناء نشرة الأخبار وهي تحمل لافتة مكتوب عليها عبارات باللغة الروسية تقول: ”أوقفوا الحرب. لا تصدقوا الدعاية. هم يكذبون عليكم هنا“، مع توقيع بالإنكليزية ”مواطنون روس ضد الحرب“.
كما تمكنت مارينا من قول بعض العبارات باللغة الروسية بينها ”أوقفوا الحرب“، في حين حاولت مذيعة النشرة التغطية عليها برفع صوتها، قبل أن تنتقل القناة لعرض مشاهد أخرى.
فما الذي أضطرت من أجله مارينا إلى اقتحام الاستوديو والتعبير عن صوتها أمام الشعب الروسي الذي فرضت عليه وصاية بوتين فلا يستمع إلى أي صوت خارج أسوار روسيا؟
وكيف يحجب الكرملين عن الشعب الروسي حقيقة الغزو ضد أوكرانيا ؟ ولماذا كل هذا الرعب لدى بوتين من معرفة شعبه لجرائمه ضد أقاربهم وأصهارهم في أوكرانيا ؟
ما الذي يخيف بوتين من كشف حقيقة الوضع في أوكرانيا للروس؟
بادر قادة الكرملين في السابق بعدة حروب خارجية، وروجوا وقتها لأخطار تتهدد روسيا وتستدعي تدخلاً عاجلاً لحماية الداخل منها، وما بين مؤيد ومعارض لها، و لامبالي في الغالب كانت تمضي الأمور.
حدث هذا في الحرب السوفيتية في أفغانستان، وعلى مدار ١٠ أعوام في الفترة ما بين (1979-1989)، وكذلك أثناء التدخل العسكري في جورجيا (2008)، ودعم نظام الأسد في سوريا (2015)، وحتى الآن. إلا أن هذه الحرب تختلف عن أي حرب خاضتها روسيا في العصر الحديث، وربما في تاريخها بالكامل.
لم يكن بوسع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يتعامل مع الحرب على أوكرانيا مثلما تعاملت روسيا من قبل مع كل حروبها مع جيرانها من الدول الأوروبية أو الأسيوية على مدار عقود ، حيث لا تحظي أي دولة منهم بالمكانة التي تمثلها أوكرانيا عند الشعب الروسي الذي تربطه علاقات تاريخية وجذور عائلية مشتركة مع الشعب الأوكراني، فأوكرانيا، ليست مجرد بلد جار لروسيا، ولكنها جزء رئيسي من تاريخ وعقيدة وجينات الروس، بدون أوكرانيا يفقد الروس بلا مبالغة 60 في المائة من روايتهم التاريخية عن أنفسهم.
حيث في كييف نشأت دولتهم الأولى “كييف روس” بالفترة ما بين (882- 1239)، وفي كييف أيضًا تعمد الروس ودخلوا المسيحية الشرقية البيزنطية عام (867)، وفيها كُتب تاريخ الروس، وفيها أهم الكنائس والأديرة التي شكلت العقيدة الأرثوذكسية للروس اليوم. لا يكاد يخلو بيت روسي وفي المقابل أوكراني من علاقة نسب أو مصاهرة أو قربى. لذلك، هذه الحرب ينظر لها الروس في العموم نظرة مختلفة عن أي حروب أخرى خاضتها أو يمكن أن تخوضها روسيا.
الكرملين يحاصر الشعب الروسي بقوانين تحرِم كلمة “الحرب”
إدراكًا منه لخطوة رد الفعل الشعبي على هذه الحرب، والتي لا يوجد ما يبررها نظرًا لعدم قيام الحكومة الأوكرانية بتهديد للأراضي الروسية أو المتمردين في دونباس وهي الادعاءات التي روجها الكرملين لتبرير الحرب أما المجتمع الدولي، أطلق الكرملين مصطلح “سبيتسالني فاييني آبيراتسي” أو “العملية العسكرية الخاصة”، كما أطلق عليها بوتين في خطابه يوم 24 فبراير المنصرم ومستغلاً للعقوبات الغربية التي نشأت كرد فعل على هذا الغزو، وصدور عدة بيانات رافضة لها في الداخل الروسي من كافة الهيئات والنقابات، والتي سبق وتم رصدناها في تقارير سابقة لأخبار الآن من داخل روسيا.
بوتين أصدر قانون جديد بشأن هذه “العملية” حسب تسمية الكرملين، تم اعتماده في الرابع من مارس، وينص على معاقبة كل من يدعو إلى “فرض عقوبات على روسيا” بالاعتقال من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وغرامة مالية تصل إلى 200.000 روبل؛ أو “التقليل من شأن القوات المسلحة الروسية”، وعقوبتها السجن ثلاث سنوات، وغرامة مالية من 700.000 إلى 1.5 مليون روبل، أو “نشر صور وفيديوهات مزيفة عن العملية العسكرية” أو وصفها بأنها “غزو أو احتلال” بالسجن مدة تتراوح ما بين 10 إلى 15 سنة، إذا كانت المعلومات المنشورة “مزيفة”، وغرامة مالية 500.000 روبل.
وكانت السلطات الروسية قبل صدور القانون الجديد، قد طالبت كافة الصحف ووسائل الإعلام بإلغاء أي إشارة إلى كلمات “حرب” أو “غزو” من مطبوعاتها السابقة، ولم تستجب عدة صحف أشهرها جريدة نوفايا غازيتا المعارضة. لذلك أصدر الكرملين هذا التشريع، ليكون بمثابة سند قانوني لمعاقبة كافة الرافضين لتوجهاته.
بوتين يخفي حقيقة الحرب ويحاصر شعبه بالشعار “Z”
في هذه الأثناء، قيد الكرملين قدرة وصول الروس لمواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً لحجب كافة مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك – تويتر – إنستغرام)، وفرض عزلة على الروس فيما يشبه الستار الحديدي، وأغلقت عدة صحف ومحطات إذاعية أبوابها لعدم قدرتها على التعبير عن حقيقة الوضع، كان أشهرها إذاعة “صدى موسكو“، أما معظم الناشطين وحتى المناهضين منهم للفكر الليبرالي مثل مكسيم شيفتشينكو، الذي يعارض هذه الحرب بدوافع قومية، فقد توقف مثل غيره عن تناول أخبار الحرب، وقد كتب أن القانون فضفاض جدًا، ويخشى على نفسه من أن تفسر السلطات كلماته بشكل يعرضه لخطر السجن، كما نصح البقية بأخذ الحيطة والحذر.
القانون فضفاض جدًا، وأنا أخشى على نفسي من أن تفسر السلطات كلماتي بشكل يعرضني لخطر السجن، كما أنصح البقية بأخذ الحيطة والحذر
الناشط الروسي المعارض للحرب مكسيم شيفتشينكو
هكذا، أصبحت الساحة خالية تمامًا للكرملين، ليبث دعايته الخاصة حول هذه الحرب، ونشطت لجانه الإلكترونية على موقع التواصل الاجتماعي الروسي فكونتاكتي (VK)، ووسائل الاعلام المملوكة للدولة أو لرجال أعمال تابعين للكرملين، على أرصفة الطرقات، وفي الصحف، والمحال التجارية حتى عمت دعايته كل مكان، في ظل حملة مكثفة حملت شعار ( Z ) ، إنه نفس الشعار الذي ظهر ، وكان يحمله مقاتل سوري ضمن تقرير بثته القناة التلفزيونية التابعة لوزارة الدفاع الروسية عن لقطات لمقاتلين سوريين ذكرت القناة أنهم مستعدون “للتطوع” في أوكرانيا ، وكان ذلك في إطار حملة بوتين لتجنيد مرتزقة عرب للقتال في أوكرانيا بجانب صفوف جيش بوتين.
The Russian Defense Ministry’s TV channel just shared this footage of Syrian combatants ready to “volunteer” in Ukraine. (Putin moments ago endorsed such deployments, claiming that the West is openly sending mercenaries.) pic.twitter.com/ouCfjAcSde
— Kevin Rothrock (@KevinRothrock) March 11, 2022
و Z هو الحرف اللاتيني من الكلمة الروسية “ذا بابيدو” (За победу) أي “إلى النصر”، وهي عبارة تم استخدامها في العهد السوفيتي للإشارة إلى النصر على النازية الألمانية والفاشية اليابانية.
أثار حملة التضليل على توجيه أراء الشعب الروسي تجاه بوتين
في أحدث استطلال للرأي أجراه مركز فوم (FOM) الروسي لاستطلاعات الرأي، تم إجراء المسح في الفترة مابين 4 إلى 6 مارس 2022، وشارك فيه 1500 مواطن روسي تصل أعمارهم فوق سن 18 سنة، وبحسب نتائج الاستطلاع، يعتقد 76% من المستطلعين أن أداء رئيس الدولة “جيد نوعاً ما” بينما رأى 13% أن أداء الرئيس “سيء”؛ بينما وجد 11% – ترددوا في الإجابة. بالإضافة إلى ذلك، أقر 75% من بأنهم يثقون في فلاديمير بوتين، و16% – لا يثقون فيه، وحوالي 9% ترددوا في الإجابة.
فيما يخص الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي يسمى روسيًا “العملية العسكرية الخاصة”، فقد أجرى مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام (VTsIOM)، وقد أيد 77% من المستطلع آراءهم تأييدهم لهذه “العملية العسكرية”، وأبدى فقط 3% تخوفهم من العقوبات الغربية.
عقب الخبير السياسي يفغيني مينتشينكو، على هذه النتائج، بأن ارتفاع شعبية الكرملين نابعة من: “قرار الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك تقديم المساعدة العسكرية لهما”. بالإضافة إلى ذلك، قامت السلطات بامتلاك “زمام المبادرة، ونشرت المعلومات الخاصة بها وحاربت المعلومات التي لا تتوافق مع روايتها بشكل صارم للغاية”. كما يعتقد الخبير مينتشينكو: “إذا ظلت هذه النتائج كما هي في غضون شهر، ولم يحدث هبوط ملحوظ في الاقتصاد، فستبقى معدلات تأييد الكرملين عالية”. بينما يرى أن المخاطر من تراجع تأييد الكرملين تكمن في “إطالة أمد الأعمال العسكرية، وما الذي ستصل إليه نتائج المفاوضات، فضلاً عن التدهور الكبير في الوضع الاجتماعي والاقتصادي للروس”.
المخاطر من تراجع تأييد الكرملين تكمن في إطالة أمد الأعمال العسكرية، وما الذي ستصل إليه نتائج المفاوضات، فضلاً عن التدهور الكبير في الوضع الاجتماعي والاقتصادي للروس
الخبير السياسي الروسي يفغيني مينتشينكو
مقاطع دعائية وأفلام حماسية سبقت الغزو لتهيئة الروسين لعملية ضد أوكرانيا
رغم إطلاق مسمى “عملية عسكرية خاصة” على الحرب ضد أوكرانيا بدلا من غزو أو حرب شاملة، فإنه لم يكن هناك ما يقنع الروس حتى بهذه العملية، لذا فقد بذلت الأذرع الإعلامية للكرملين مجهودا كبيرا حتى تقوم بتسريب معلوماتها المضللة إلى عقل المواطن الروسي الرافض لأي عمل عسكري ضد أوكرانيا.
فشهد الرأي العام الروسي عملية شحن عاطفي غير مسبوقة، وذلك عبر الفضائيات الروسية، والتدوينات، واستخدام الصور والاعلانات، ومقاطع الفيديو على اليوتيوب. على سبيل المثال عرض مقطع فيديو مدته 10 دقائق، أجزاء من خطاب الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشنكو، وهو يتحدث عن الفارق بين من اختاروا أوكرانيا ومن اختاروا روسيا، وكيف أن سكان دونباس “يعيش أطفالهم في حالة من الرعب، ولا مدارس أو حضانات لأطفالهم، وأغلب وقتهم يقضونه في قبو المنازل، وأن قواتنا المسلحة الأوكرانية ستستعيد بهذه الطريقة أراضيها المحتلة مؤقتًا من قبل عملاء روسيا”، وفي ظل جو درامي تعرض المقاطع الدعائية الروسية تسلسل الأحداث، بدءً من تظاهرات الميدان الأوروبي في العاصمة كييف، ولقطات لهجوم الجيش الأوكراني على دونباس، وشكل المدن قبل وبعد الحرب وكيف دمرها “الجيش الأوكراني” حسب الادعاء الروسي، ومسيرات لمن تصفهم بـ “النازيين الجدد”، وموسيقى حزينة مع صور لأطفال قضوا في المعارك نتيجة “القصف الأوكراني” حسب الزعم، وفي الخلفية أجزاء من خطابات الرئيس بوتين، وهو يتحدث عن “مآسي” سكان دونباس، وقراره بدء عملية عسكرية خاصة لأجل “حمايتهم” من التنمر والإبادة الجماعية.
كيف صنع الكرملين عقل جمعي يعتقد أن جميع الروس مؤيدون للحرب
بعدما أدركت فيما يبدو السلطات الروسية أن الرأي العام قد تم شحنه بشكل جيد، ولم يعد لديه سوى رواية السلطة، نشطت التقارير الإخبارية التي تسأل الروس في الشوارع عن رأيهم في “العملية العسكرية الخاصة”، وإذاعتها بشكل مستمر لترسيخ فكرة أن الرأي العام مؤيد للإجراءات الأخيرة، ونشر هذه اللقاءات على مواقع التواصل الاجتماعي مترجمة لعدة لغات. لخلق عقل جمعي يعتقد أن الجميع مؤيد وأن عليه أن يكون مثلهم.
على سبيل المثال، في تقرير خاص سأل سكان فورونيج، وهي مدينة في جنوب غربي روسيا، عن رأيهم في “العملية العسكرية الخاصة”، أجاب الناس “أن ما يحدث عملية تحرير للشعب الأوكراني من الفاشيين الذين يحكمونهم بالقوة”، أما ما يخص علاقتهم بأقاربهم وأصدقائهم في أوكرانيا، فقد أجابوا بأنها “لم تتأثر لأنهم يدركون أننا جئنا لكي نحررهم”، والبعض لم يعبر عن رأي واضح، ولكنهم أكدوا على “ثقتهم في بوتين، ودعم قرارات الرئيس”، ودعم البعض العملية بشكل واضح، وصولاً للقول “ندعم ما يفعله بوتين، وتوسيع العمليات لما بعد أوكرانيا إذا كان ذلك ضروريًا”، بينما رفض البعض الآخر التعبير عن رأيه، واكتفى بالقول “أدعم الرئيس”. لكن ما يمكن ملاحظته أن كبار السن كانوا أكثر اندفاعًا في دعهم وثقتهم ببوتين، وتأكيدهم على أن مصدرهم الرئيسي في المعلومات “ما يصدر عن الحكومة الروسية”.
لماذا انتشرت رواية السلطة حول الحرب على أوكرانيا بين الروسيين
يمكن القول أن رواية السلطة قد طغت على ما عداها، ويعود ذلك للقوانين الصارمة التي أصدرها أعضاء مجلس الدوما، الذين يهيمن عليه الحزب الحاكم “روسيا الموحدة”، وخوف المثقفين والناشطين السياسيين من التعرض للسجن، بالإضافة لغلق كافة الفضائيات والاذاعات والمواقع والصحف، المناهضة للحرب، وحجب مواقع التواصل الاجتماعي، وشعور العديد من الروس بأن العقوبات هذه المرة لا تستهدف فقط الحكومة بل ثقافتهم وتاريخهم، وهو ما ضخم الكرملين منه في دعايته عبر القول أنهم “يريدون القضاء على كل ما هو روسي؛ تمامًا كما فعل الرومان بعد القضاء على قرطاج ورش أرضها بالملح حتى لا ينبت فيها من جديد أي نبته”.
رغم ذلك، لا يوجد ضمانة بأن يظل الوضع على ما هو عليه، وحال طالت الحرب، وبدأت آثار العقوبات الاقتصادية في التأثير على حياة المواطنين، مع عدم قدرة الكرملين على إخفاء عدد الضحايا من الجنود الروس، فقد يتغير الوضع بشكل دراماتيكي للغاية. في النهاية الروس ضحايا لحملة إعلامية قوية، ورواية واحدة ووحيدة، ولا يعني تأييدهم الحالي أنه دعم للحرب أو لتدمير المدن الأوكرانية وسفك دماء شعبها الذي يرونه شعب شقيق.
*تم إنجاز هذا التقرير بالتعاون مع مترجم مقيم في موسكو تم إخفاء اسمه حرصا على أمنه