سيف العدل.. الأسطورة الزائفة لجهادي القاعدة المخضرم
بينما يُصارع تنظيم القاعدة المركزي حالة الشيخوخة الحركية التي تعتريه، منذ فترة طويلة، في ظل مقتل كبار قادته وغياب زعيمه الهَرِم (الشائخ) أيمن الظواهري عن مسرح الأحداث وانفصاله عن الواقع كما يبدو من كلماته وإصداراته المرئية، يبرز القيادي القاعدي المخضرم “سيف العدل” كخليفة محتمل وأمير مستقبلي للتنظيم، لا سيما وأنه القيادي الأخير الذي تبقى بعد انفراط عقد أمراء القاعدة، بفعل حملة الملاحقة الأمريكية المركزة التي استهدفتهم منذ عام 2001.
وراج اسم “سيف العدل”، الذي لا زال مختبئًا في مكان مجهول بالعاصمة الإيرانية طهران
كقيادي جهادي منذ تسعينات القرن الماضي، وفي منتصف العقد الأول من القرن الحالي، إذ شبهه الجهاديون بـ “أبو مصعب الزرقاوي“، زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين (العراق)، الذي ذاع صيته قبل مقتله في مثل هذا اليوم، 7 يونيو/ حزيران من العام 2006، خاصةً بعد رواج مقال شهير منسوب لـ”سيف العدل” يروي فيه قصة لقائه وتنسيقه مع الزرقاوي لإقامة جماعة جهادية متحالفة مع القاعدة.
ومع أن الواقع العملي يُثبت أن أبو مصعب الزرقاوي يمثل نقيضًا لسيف العدل من زوايا عدة منها العلاقة مع إيران والموقف مع الشيعة الذين حاربهم القيادي الأول وتحالف معهم نظيره الأخير، إلا أن الأساطير المصاحبة لشخصية سيف العدل لا تزال رائجة في المخيال الجهادي، بفعل حملة الدعاية المكثفة التي أطلقا تنظيم القاعدة وانساقت ورائها منصات إعلامية أخرى، طوال سنوات، وفي هذا الإطار تكشف القصة الحالية عن حقيقة “أسطورة سيف العدل” اعتمادًا على وثائق ومراسلات تنظيم القاعدة وزعيمه الراحل أسامة بن لادن:
في إحدى الرسائل المتبادلة بين أسامة بن لادن، زعيم القاعدة المؤسس، وعطية الله الليبي مسؤول العمليات الخارجية (الأسبق بالقاعدة)، في عام 2010، والمنشورة ضمن وثائق أبوت آباد، طلب الأول من الأخير أن يقترح له مجموعة من الأسماء ليختار من بينهم نائبًا له في قيادة التنظيم، فاقترح الليبي 3 من قيادات القاعدة الذين كانوا مسجونين في إيران: (أبو محمد المصري الشهير أيضًا بـ أبو محمد الزيات “عبد الله أحمد عبد الله“، وأبو الخير المصري “أحمد حسن أبو الخير“، وسيف العدل “محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان”، لكن “بن لادن” رد على الترشيح قائلًا إن سيف العدل لا يرقى لمكانة القائدين الأخرين وإنه لا يصلح لاستلام القيادة العامة أو النيابة سواء في منصب النائب الأول أو الثاني.
ورغم أن أسامة بن لادن لم يوافق على ترشيح أي من القادة الثلاثة بسبب ظروف سجنهم في إيران، في ذلك التوقيت (سبتمبر/ أيلول 2010)، إلا أنه لفت نظر مسؤول العمليات الخارجية في القاعدة إلى أن سيف العدل ليس على نفس المرتبة أو الدرجة التنظيمية لأبي الخير المصري وأبي محمد المصري، الذين صارا لاحقًا نائبي أمير القاعدة قبل مقتلهما في عامي 2017، و2020 على الترتيب، مضيفًا أن سيف العدل قد يصلح في الأمور العسكرية التي هي دون القيادة العليا.
وتُميط تلك الرسالة، التي رفعت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA عنها السرية ضمن وثائق “أبوت آباد” المأخوذة من مخبأ أسامة بن لادن بعد مقتله في مايو/ آيار 2011، اللثام عن جزء كبير من أسطورة “سيف العدل”، الذي حظي باهتمام وتركيز لافت في أوساط الجهاديين وكذلك في أوساط دوائر مكافحة الإرهاب العالمية، وصُور بأنه أخطر جهاديي القاعدة وآخر آماله لينبعث من ركام الهزيمة والشتات الذي يعيشه التنظيم منذ هجمات الـ11 من سبتمبر/ أيلول 2001.
فعلى مدار سنوات طويلة، بقي سيف العدل متواريا في الظلال إلى حد كبير، وذلك بدافع الاضطرار في أغلب الأحيان وبدافع الاختيار في أحيان أخرى، فلم يظهر في أي لقاء مرئي أو كلمة مسجلة، حتى حينما تولى الإمارة بشكل مؤقت في الفترة الانتقالية والعصيبة التي مرت بالتنظيم منذ مقتل زعيمه أسامة بن لادن، في 2 مايو آيار 2011، و تسلم خليفته أيمن الظواهري إمارة القاعدة في يونيو/ حزيران من العام نفسه.
وبالتوازي مع هذا التواري، نشرت المنصات الدعائية الرسمية للقاعدة والمؤسسات المناصرة للتنظيم، سلسلة من الرسائل والكتب والمقالات باسم سيف العدل، مصورةً إياه بأنه القائد العسكري الأكثر فاعلية والدينامو الحقيقي للتنظيم، ومسؤول الارتباط بالأفرع الخارجية القوية كتنظيم أبو مصعب الزرقاوي (التوحيد والجهاد، الذي صار لاحقًا القاعدة في بلاد الرافدين ثم داعش)، وهو ما لم يحدث في الحقيقة، كما تُظهر إحدى وثائق أبوت آباد.
خدعة السيرة الذاتية لـ “القائد الذباح”
وتدحض رسالة بين أسامة بن لادن وعطية الليبي المزاعم التي روجتها منصات دعائية مرتبطة بالقاعدة (كان من بينها منبر التوحيد والجهاد الذي أشرف عليه المنظر الجهادي الأردني أبو محمد المقدسي)، حول دور سيف العدل في قيادة القاعدة، وتأثيره في احتواء مجموعة أبو مصعب الزرقاوي وربطها بالقاعدة بتكليف من “بن لادن” وأيمن الظواهري، في الفترة التي أنشأ فيها الجهادي الأخير معسكر هيرات أثناء وجوده في أفغانستان، قبل الغزو الأمريكي للبلاد عام 2001.
ويروي المقال المنسوب لسيف العدل والمعنون بـ”السيرة الذاتية للقائد الذباح أبو مصعب الزرقاوي” (منشور ضمن وثائق أبوت آباد)، قصصًا مفبركة عن سيف العدل والزرقاوي معًا، زاعمًا أن الأول كان ضابطًا برتبة كبيرة في سلاح الصاعقة (القوات الخاصة) المصرية، وقياديًا مرتبطًا بتنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، قبل خروجه منها عام 1987 بسبب تورطه في محاولة قلب نظام الحكم بمصر ، وأنه فُوض من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري للتنسيق مع مجموعة الزرقاوي، التي رفضت أن تُبايع القاعدة وتنصهر فيها بشكل كامل.
ويكشف التدقيق في مسيرة “سيف العدل” الجهادية أنها بدأت عقب خروجه من مصر، في ثمانينيات القرن الماضي، متوجهًا إلى السعودية لأداء مناسك العمرة، بتعبير شقيقه، قبل أن ينتقل إلى أفغانستان للقتال ضد القوات السوفيتية الغازية حيث بقي لفترة في معسكر “جهاد وال” في خوست الأفغانية ورافقه في تلك الفترة أبو خالد السوري كما يذكر هو في مقاله لرثاء السوري والمنشور عام 2014 بعنوان “أبو خالد السوري: يرحمك الله يا أسد جهاد وال” ، كما أنه لم يكن ضابطًا كبيرًا بالقوات الخاصة المصرية، وإنما خدم كضابط احتياط بسلاح المظلات (لا يتعدى ضباط الاحتياط بالجيش المصري، في المعتاد، رتبة الملازم أول وهي رتبة صغيرة لا تتيح لهم الاضطلاع بأي أدور قيادية أو تنفيذية).
ويقول “بن لادن” في رسالته إن المقال المنسوب لسيف العدل “مكذوب”، وإنه لم ينل تفويضًا منه أو من قيادة القاعدة للتعامل مع مجموعة أبو مصعب الزرقاوي، خاصةً أن الوحدة والاندماج بين القاعدة وتنظيم الجهاد المصري لم تكن قد تمت في الفترة التي يتحدث عنها المقال، موصيًا مسؤول العمليات الخارجية بالقاعدة بنفي النقاط الخطيرة التي احتواها المقال دون أن يكتب أي توصيف إضافي للجهادي المصري (سيف العدل)، ومع أن عطية الليبي، وعد بنقد المقال وكشف الكذب الذي احتواه، إلا أن رد ذلك لم يتم، حتى نشر هذه السطور بعد 12 عامًا من تاريخ المراسلات المذكورة.
كما تكشف مذكرات سيف العدل عن معركة قندهار عام 2001، أن أبو مصعب الزرقاوي المعروف وقتها بـ”أبو مصعب الأردني”، حضر إلى قندهار بعد سقوط هيرات للمشاركة في القتال ضد تحالف الشمال والقوات الأمريكية، بيد أنها لا تذكر على الإطلاق وجود أي نوع من التنسيق بينه وبين سيف العدل.
سيف العدل بين محمد مكاوي ومحمد صلاح
ويشير المقال السابق، والموجود ضمن وثائق أبوت آباد، إلى خلفية سيف العدل زاعمًا أنه عمل كـ”مقدم” بقوات الصاعقة المصرية، عام 1987، قبل القبض عليه في قضية تنظيم الجهاد المصري، وهي معلومة خاطئة ومتداولة بشكل كبير، ساهمت الدوائر الاستخبارية والدبلوماسية الأمريكية في ترويجها وانتشارها، نتيجة خلطها بين شخصيتي محمد مكاوي (تَكنى بـ أبي المنذر)، ومحمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان، مع أنهما مختلفين تمامًا، فالأول وصل إلى رتبة عقيد بقوات الصاعقة المصرية وعمل بوحدة مكافحة الإرهاب قبل سفره إلى أفغانستان، إبان الغزو السوفيتي، بيد أنه رفض الانضمام للقاعدة أو المساهمة في تأسيسه، أم الأخير فهو الشهير بسيف العدل، والذي عُرف أيضًا بـ”إبراهيم المدني”، كما يوضح صهره مصطفى حامد أبو الوليد المصري.
ووفق شهادة أبو الوليد المصري، والتي تؤكدها وثائق أبوت آباد وقرارات الاتهام الصادرة من الولايات المتحدة الأمريكية، فإن سيف العدل عمل كمسؤول عسكري للقاعدة وشارك في تخطيط ما عُرف بـ”غزوة السفارات” والتي جرى خلالها تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، عام 1998.
وسافر سيف العدل، بحسب مركز مكافحة الإرهاب بأكاديمية ويست بوينت العسكرية الأمريكية، عام 1992 إلى الخرطوم، ودرب مجموعة من نشطاء القاعدة على استخدام المتفجرات في مزرعة الدمازين التي امتلكها أسامة بن لادن، بالقرب من أعالي النيل، وانتقل إلى الصومال، بعد ذلك ومنها إلى كينيا.
وتوضح وثائق منفصلة نشرها مركز مكافحة الإرهاب بأكاديمية ويست بوينت ضمن برنامج “هارموني”/ Harmony، أن سيف العدل كان مسؤولًا، عام 1994، عن تدريب عناصر القاعدة في شرق إفريقيا، وتولى الإشراف على معسكر القاعدة بكينيا بمساعدة مجموعة من الصوماليين (منهم فاضل هارون، قائد القاعدة في شرق إفريقيا، وسكرتير سيف العدل الخاص)، ويُظهر تحليل تلك الوثائق أن سيف العدل لا يثق في أحد ممن حوله، إذ ظل يخشى خيانة سائقي اللانشات العاملين مع القاعدة والذين تولوا مهام نقل الأفراد والمعدات، والتهريب في منطقة القرن الإفريقي، وبين دول تنزانيا وكينيا والصومال واليمن.
ويبدو أن سيف العدل عمل، في تلك الفترة، كقيادي تنفيذي تحت إشراف أمراء القاعدة البارزين وعلى رأسهم أبو عبيدة البنشيري (علي أمين الرشيدي- غرق في بحيرة فيكتوريا عام 1996)، وأبو حفص المصري الملقب بالكومندان، واللذين توليا مسؤولية اللجنة العسكرية في القاعدة، كما تؤكد وثيقة سرية (قائمة اتهام) صادرة عن وزارة العدل الأمريكية، والتي وضعت القيادي الأول في المرتبة الثامنة، بعد ثلة من القادة، أبرزهم أسامة بن لادن، وأبو عبيدة البنشيري، ومصطفى أبو اليزيد (الشيخ سعيد)، وأبو حفص الكومندان، وأبو إبراهيم العراقي وآخرين.
مدرب القاعدة: من إبراهيم المدني إلى سيف العدل
وبعد رحيل أسامة بن لادن ورفاقه من السودان إلى أفغانستان، تولى سيف العدل الذي عمل بكنية إبراهيم المدني وكذلك باسم حركي “عابر سبيل”، مسؤولية الإشراف على التدريب بمعسكرات القاعدة وأبرزها معسكر “جهاد وال” في خوست، ومعسكر”مس إيناك” قرب العاصمة الأفغانية كابل، والذي خُصص لتدريب نخبة مقاتلي القاعدة، وفي مقدمتهم مجموعة الانتحاريين الذين نفذو ا هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وجرى اختيار المقاتلين الذين التحقوا بهذا المعسكر من قبل أسامة بن لادن شخصيًا، حسبما يقول الصحفي كميل الطويل في كتابه “القاعدة وأخواتها: قصة الجهاديين العرب”.
وفي تلك المرحلة، لعبت الصدفة دورًا في تعزيز مكانة سيف العدل داخل القاعدة، فبعد غرق أبو عبيدة البنشيري في بحيرة فيكتوريا أسندت مهام إضافية للقيادي الأول في نطاق عمله داخل اللجنة العسكرية للقاعدة، كما ترسخت مكانته لدى حركة طالبان، عندما شارك مع أبو حفص المصري (الكومندان) في القبض على مجموعة من الشيعة الأفغان الذين حاولوا اغتيال الملا محمد عمر، أمير ومؤسس حركة طالبان،في أغسطس/ آب 1999، انتقامًا لمقتل 8 دبلوماسيين إيرانيين على أيدي مقاتلي الحركة في عام 1997، كما يقول الصحفي عبد الباري عطوان في كتابه “ما بعد بن لادن: القاعدة، الجيل التالي”.
وتُلمح وثيقة ضمن وثائق “هارموني” إلى أن إبراهيم المدني أو سيف العدل، أشرف على معسكر “جهاد وال” لمدة تصل لـ 3 أعوام، وأنه كان غير راضي على أسلوب قيادة القاعدة ويعتبر أن هناك تقصير وسوء إدارة منها، وأدى ذلك إلى كوارث في ما يتعلق بالعمل التنظيمي، وتسبب في إهدار جهود كبيرة، في ظل عدم التنسيق في العمل وعدم وجود آلية واضحة لنقل المهام القيادية بين أمراء التنظيم وبعضهم البعض، وبالإضافة لذلك طالب سيف العدل بوجود آلية ثابتة لتسليم وتسلم المهام، واقترح طريقة لتنفيذها، وهي طريقة استمدها من خدمته بالجيش كضابط احتياط، كما يتبين من تحليل مقترحه.
وإلى جانبه سخطه عن أداء القاعدة، رفض سيف العدل خطة أسامة بن لادن لهجمات 11 سبتمبر، متعللًا بأن الهجوم داخل الولايات المتحدة الأمريكية سيؤدي إلى ردة فعل قوية ومدمرة للتنظيم، الذي كافح لإنشاء قواعد آمنة له في أفغانستان، بحسب ما يذكره علي صوفان، الضابط الأمريكي السابق بمكتب التحقيقات الفيدرالية FBI والذي أشرف على التحقيقات في ملف تفجيرات السفارات الأمريكية واستجواب عناصر القاعدة الذين عملوا مع سيف العدل.
سيف العدل.. مؤلف الخطة الرئيسية الفاشلة
وارتبط رفض سيف العدل لهجمات 11 سبتمبر بخوفه من تدمير تنظيم القاعدة بفعل الرد الأمريكي القوي، وبالتالي فشل الخطة متدرجة المراحل أو (خطة المراحل السبعة) التي وضعها مخططو القاعدة- من بينهم سيف العدل- لحرب الولايات المتحدة والغرب، وتعتمد تلك الخطة على إشعال “الصحوة الجهادية” في قلب الدول الإسلامية، وتجنيد أبنائها للقتال لصالح القاعدة، ومن ثم التحول لمرحلة القتال الشامل التي يُفترض أن تؤدي في غضون 20 عامًا لانتصار التنظيم، وفق الرؤية القاصرة لمخططيه.
الخطة نفسها كانت جيدة في التنبؤ ببعض التطورات الرئيسية في المنطقة ولكنها فشلت إلى حد كبير بسبب تطورات أكبر مثل ظهور داعش. من الواضح أن سيف العدل لا يمتلك إمكانيات المخطط الاستراتيجي الرئيسي كما يعتقد. ومع ذلك، فإن رغبته في التركيز على التخطيط الاستراتيجي تزيد من خطورته، وتجعله منافسًا قويًا على القيادة بعد الظواهري.
وتشمل المرحلة الأولى (2001: 2003) تنفيذ هجمات منسقة ضد الولايات المتحدة لدفعها لغزو دول إسلامية ومن ثم تنبعث الصحوة الجهادية، لذا كانت هجمات 11 سبتمبر بمثابة الطعم لتلك المرحلة، أما المرحلة الثانية (حتى 2006)، فركزت على أن يتحول التنظيم إلى شبكة عالمية منتشرة وهو ما تم بعد الغزو الأمريكي للعراق، وركزت المرحلة الثالثة (2007- 2010) على سوريا وبعد أن تتموضع فيها خلايا القاعدة تشن هجمات ضد إسرائيل وتركيا لاكتساب زخم في البلدان المسلمة وتجنيد أعضاء جدد.. إلخ.
بينما شملت المرحلة الرابعة (2010: 2013) مهاجمة وإسقاط الحكومات العربية وشن هجمات ضد موردي النفط وشن هجمات سيبرانية ضد البنية الاقتصادية الأمريكية، لتأتي المرحلة الخامسة (2013- 2016) والتي كان يُفترض أن يتم إعلان “دولة قاعدية” فيها، ويتم الانطلاق من هذه الدولة إلى إعلان “خلافة عالمية” في المرحلة السادسة (2016: 2018)، وخوض حرب عالمية ضد الغرب بكامله، وبعد خوض الحرب العالمية، يعلن تنظيم القاعدة في المرحلة السابعة (التي حُددت، في خطته، بعام 2020)، انتصاره في الحرب الكونية التي أشعلها، كما رأى واضعو خطته.
بيد أن تلك الخطة لم تكتمل إذ أطلقت الولايات المتحدة حملتها العالمية لحرب القاعدة، عقب 11 سبتمبر 2001، وحينها كان سيف العدل مكلفًا من قبل قيادة القاعدة بالمشاركة في وضع خطة الدفاع عن قندهار (العاصمة الفعلية لحركة طالبان) ضد تحالف الشمال الأفغاني، المدعوم أمريكيا، وبالفعل وضع خطة تقوم على تقسيم المدينة إلى 5 قطاعات عملياتية، وتوزيع مقاتلي القاعدة والمتطوعون العرب والأفغان على مجموعات عصابات قتالية خفيفة الحركة مع الاستعانة بتجهيزات هندسية كحفر الخنادق وتمويه الأسلحة والمعدات، على حد تعبيره في مقاله المعنون بـ” المقاومة الإسلامية ضد الغزو الأمريكي لقندهار والدروس المستفادة”.
المتمرد ضد أسامة بن لادن وخالد شيخ محمد
وكاد سيف العدل أن يُقتل، خلال الغزو الأمريكي لأفغانستان، إذ قُصف منزله، كما يقول في إحدى رسائله لقيادة القاعدة عقب سقوط نظام طالبان عام 2001، لافتًا إلى أن القصف تم بعد يومين فقط من خروجه من المنزل الذي كُشف بسبب احتشاد الناس للحصول على أموال من مكتب الأمم المتحدة الذي أُغلق بالتزامن مع الغزو الأمريكي لأفغانستان.
ويشدد سيف العدل في رسالته على أن العديد من قادة القاعدة البارزين سقطوا، خلال فترة قصيرة، منهم خالد شيخ محمد الذي تولى إمارة اللجنة العسكرية في القاعدة خلفًا لأبي حفص الكومندان، وأبو زبيدة الفلسطيني القيادي الأمني البارز، متحدثًا بنبرة أقرب للنقد عن أن سبب سقوطهم في قبضة الاستخبارات الباكستانية والأمريكية هو تهاونهم في الإجراءات الأمنية، واختراق التنظيم من قبل الجواسيس، واختراق جماعة لشكر طيبة أو عسكر طيبة المتحالفة مع القاعدة.
وفي رسالة أخرى ضمن وثائق “هارموني”، انتقد سيف العدل بشدة كلًا من خالد شيخ محمد وأسامة بن لادن، واتهمهما بهدم ما بناه التنظيم في سنوات، خلال أسابيع معدودة، ورمي شباب وعناصر القاعدة في النار دون تحقيق أي فائدة، وتحويل القاعدة إلى لقمة سائغة يأكلها العالم بأسره.
واستهل سيف العدل رسالته بالتأكيد على أنه يجب الخروج من الاندفاع في العمل والمجاملات التي أعمت أعين قيادة القاعدة العليا عن الحقيقة وتسببت في خسارته شبكاته التنظيمية في جميع أنحاء العالم، خلال وقت قصير، قائلًا لخالد شيخ محمد: “اعتقدت أنك ستتوقف عن الاندفاع خلف الطلبات التي تأتي من الداخل- يقصد من أسامة بن لادن وقيادة القاعدة العليا-، وكنت أهرب من فتح هذا الموضوع لأني أعلم أن المعلم (بن لادن) يراسلك بشكل مباشر وهي للأسف عادته المطلقة إذا عارضه أحد يذهب مباشرة إلى آخر ليجتهد له متشبثًا برأيه ضاربًا بعرض الحائط بمن حوله فلا شورى ولا يحزنون..”.
ويواصل سيف العدل في رسالته لـ”شيخ محمد” أنه يجب وقف العمل الخارجي للقاعدة تمامًا والجلوس لتقييم التجربة ومحاكمة المسؤولين- ومنهم خالد شيخ محمد نفسه-، بعد سقوط مجموعات شرق آسيا، ثم أوروبا، ثم أمريكا، ثم القرن الإفريقي، ثم اليمن، ثم الخليج، فضلًا عن تداعي شبكة القاعدة في باكستان، وتعرضها لضربات قوية كادت أن تؤدي إلى نهايتها تمامًا بسبب أخطاء قيادة القاعدة، مردفًا أنه كتب رسالة أيضًا لأسامة بن لادن انتقد فيها بشدة أسلوب ونهج القيادة وتعاملها مع الواقع.
ومن اللافت للانتباه أن سيف العدل انتقد أسامة بن لادن وغيره من قادة القاعدة بشدة في أكثر من موضع في رسائله، ولعل هذا السبب كان وراء رفض أسامة بن لادن توليته أي منصب في الإمارة العامة أو نيابة الإمارة بالتنظيم، وتفضيله لـ”أبو محمد المصري”، و”أبو الخير المصري”، على سيف العدل حتى مع الأنشطة العسكرية التي بذلها الأخير.
وترسم رسالة أنس السبيعي (أبو أنس الليبي)، المرسلة لزعيم القاعدة المؤسس في 13 أكتوبر 2010 والموجودة ضمن وثائق أبوت آباد، المسار الذي سلكه سيف العدل وعائلته بعد الخروج من أفغانستان، إذ توجهوا إلى منطقة الحدود الأفغانية الإيرانية، ودخلوا إلي الدولة الأخيرة، وأقاموا في منطقة شيراز ، مركز محافظة فارس وسادس أكبر المدن الإيرانية، مع مجموعة من قادة القاعدة منهم سليمان أبو غيث، المتحدث باسم القاعدة وصهر بن لادن، ومحمد الإسلامبولي شقيق الضابط خالد الإسلامبولي قاتل الرئيس المصري أنور السادات، وأبو محمد المصري، واثنين من أبناء أسامة بن لادن هما سعد وعثمان، وتسمت تلك المجموعة لدى الإيرانيين بـ”السي سات” وهي كلمة فارسية تعني الثلاثمائة.
وسمحت السلطات الإيرانية لقيادات القاعدة بالمكوث على أرضها، غير أنها أطلقت حملة ضدهم بعد حوالي عام من إقامتهما بها، وتم اعتقالهم ووضعه في معسكر تابع لإحدى المليشيات التابعة لإيران، في العاصمة طهران، في حراسة الحرس الثوري والاستخبارات الإيرانية وبعد ذلك جرى نقلهم إلى إحدى المقرات السكنية الأخرى وأصبح لديهم تواصل أفضل مع قيادات القاعدة الآخرين، خارج إيران، بتعبير أنس السبيعي.
الوجه البراجماتي لسيف العدل
وعلى صعيد متصل، تُسلط وثائق أبوت آباد الضوء على الجزء البراجماتي في شخصية سيف العدل، فالقيادي الذي انتقد أسامة بن لادن وخالد شيخ محمد بشدة وطالبهم بإيقاف العمل الخارجي لأنه أدى لتقويض شبكة القاعدة العملياتية، والذي أقام أيضًا بإيران منذ أواخر عام 2001 ولم يحرض عليها، أصدر قرارًا بإزاحة مؤسس وأمير فرع القاعدة في شبه الجزيرة العربية يوسف العييري الملقب بـ”البتار” من منصبه، بسبب رفض الأخير للتفجيرات الإرهابية التي نفذتها مجموعات مرتبطة بالقاعدة داخل المملكة العربية السعودية، ودعوته لأسامة بن لادن وقيادة القاعدة العليا للتركيز على قتال الولايات المتحدة وعدم استهداف المصالح أو الأراضي السعودية.
وتنقل إحدى وثائق أبوت آباد عن أحد رفاق يوسف العييري المقربين أنه أرسل، قبل مقتله في عام 2003، رسالة مناصحة سرية لأسامة بن لادن بشأن التفجيرات، فأصدر سيف العدل قرارًا بإقالته ووصل الأمر للتنظيم في السعودية عن طريق أيمن الظواهري.
ومع ذلك، واصل سيف العدل توثيق علاقاته، من داخل مقر إقامته في طهران، بفرع القاعدة في شبه الجزيرة العربية وشارك ككاتب في مجلة “البتار” التي أنشأه التنظيم تخليدًا لذكرى يوسف العييري، وعلى ما يبدو فإن تلك العلاقات لعبت دورًا في إتمام صفقة تبادل الأسرى الشهيرة التي تمت بين القاعدة في اليمن (شبه الجزيرة العربية) وإيران بوساطة من جماعة الحوثي، وشملت إطلاق سراح سيف العدل وأبو محمد المصري وأبو الخير المصري، وكذلك خالد العاروري “أبو القسام الأردني”، الذي شغل منصب نائب “أبو مصعب الزرقاوي” في العراق، و”ساري شهاب” القيادي البارز بالقاعدة، مقابل إطلاق سراح دبلوماسي إيراني اختطفه فرع التنظيم في اليمن.
وفضّل سيف العدل، وأبو محمد المصري البقاء في طهران، حتى بعد إطلاق سراحهم، واختار القادة الثلاثة الآخرين الذهاب للانضمام لفرع القاعدة في سوريا، حيث قتلوا جميعًا خلال الفترة ما بين 2017 و2020، في غارات جوية نفذتها مقاتلات أمريكية، كما قُتل أبو محمد المصري في عملية استخبارية أمريكية في طهران عام 2020، ليبقى سيف العدل هو الناج الوحيد من جيل الحرس القديم في القاعدة، ويصير لأول مرة في مسيرته الجهادية الرجل الثاني في القاعدة التي قُوضت قيادتها العليا بفعل الضربات المركزة.
ومن ناحية أخرى، لجأ سيف العدل إلى حيلة مكشوفة للترويج لنفسه ولمشروعه من جديد
فعمد إلى توقيع كتابه الصادر في عام 2019 والمعنون بـ”الثورة”، باسم “محمد صلاح” فقط دون الإشارة إلى اسمه الحركي سيف العدل أو اسمه الكامل محمد صلاح الدين زيدان الذي وقع به سابقًا كتبه في سلسلة “الصراع.. ورياح التغيير”، الصادرة قبل بضع سنوات، ليستفيد من زخم واسم لاعب الكرة المصري الشهير ونجم ليفربول محمد صلاح، نظرًا للتشابه بينهما في الاسم.
ويُضاف كتاب الثورة إلى سلسلة من الكتابات السابقة لـ”سيف العدل” عن الثورة والتمرد، وحروب العصابات، ظل يدور في نفس الفلك داعيًا الشعوب العربية والمسلمة للتظاهر والخروج ضد الحكومات القائممة في بلدانهم، واعتماد الوصفة الثورية متعددة المراحل التي يزعم الرجل الثاني في القاعدة أنها الحل الوحيد لإدراك الانتصار.
غير أن الوصفات الثورية، التي حاول كتاب الثورة الترويج لها، تؤكد بشكل مباشر أن المشروع القتالي الذي قامت لأجله القاعدة وسعى سيف العدل التنظير له في كتابه “هكذا نرى الجهاد ونريده”، أثبت فشله الذريع، وأن أسطورة الرجل الثاني في القاعدة (سيف العدل)، والتي صِيغت عبر سنوات طويلة جراء سلسلة من العمليات الدعائية، ليست سوى أسطورة زائفة لجهادي تقليدي لا يصلح لإمارة التنظيم المتداعي، كما قال عنه مؤسسه الراحل أسامة بن لادن في “أبوت آباد”.