تكتسي مقاطعة كالينينغراد الروسية أهمية استراتيجية بالنسبة لموسكو، خصوصاً أنّها تقع في قلب أوروبا، ومحاطة بأعضاء حلف شمال الأطلسي، فهل تكون الورقة الروسية الرابحة بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أم تكون مقدمة لحرب عالمية ثالثة بالمعنى الحقيقي للكلمة؟ حالياً، كلّ التطورات توحي بأنّ تفاضيل المشهد السياسي والعسكري لن تكون واضحةً في المستقبل، لاسيّما مع تلويح موسكو باتخاد إجراءات إنتقامية ردّاً على حظر فيلنيوس مرور البضائح الروسية إلى كالينينغراد، إستناداً إلى العقويات الأوروبية.
- موسكو تحذّر ليتوانيا من تبعات خطيرة بعد فرض قيود على نقل بضائع إلى كالينينغراد
- السفير الليتواني ليناس لينكيفيتشوس: ليتوانيا تتحضر لأيّ سيناريو روسي محتمل
- كالينينغراد جيب روسي في قلب أوروبا ويشكّل نقطة استراتيجية حسّاسة بالنسبة لبوتين
ارتفاع حدّة التوترات بين روسيا والغرب خصوصاً مع قرار ليتوانيا الأخير لناحية حظر مرور البضائع عبر أراضيها باتجاه كالينينغراد
مع ارتفاع حدّة التشنّج، يسعى الأوروبيون جاهدين إلى منع توسّع نطاق الحرب إلى دول أوروبية أخرى، خصوصاً مع وجود حلف روسي – بيلاروسي، وجود خاصرة رخوة للأوروبيين في مولدوفا بوجود انفصاليين موالين لروسيا، إضافةً إلى كالينينغراد روسيا، فيما اعتبر خبراء روس أنّ “قرار ليتوانيا قرار إنتحاري وذريعة جاهزة لموسكو”.
فبعد إعلان ليتوانيا عدم السماح لهيئة السكك الحديدية الروسية بنقل السلع، التي حظّر الاتحاد الأوروبي توريدها من روسيا عبر أراضي ليتوانيا، توالت التهديدات الروسية لليتوانيا والاتحاد الأوروبي، إذ لوّح الكرملين باتخاذ إجراءات إنتقامية، معتبراً أنّ ما حصل هو حصار غير مسبوق وانتهاك للقوانين، مستنداً بذلك على البيان المشترك بين روسيا والإتحاد الأوروبي والذي صدر العام 2002، بشأن المرور بين ليتوانيا و كالينينغراد. ولم يتوقف الأمر عند حدّ التصريحات، بل استدعت موسكو مبعوث فيلنيوس وسفير الإتحاد الأوروبي لديها، للإعراب عن احتجاجها الشديد.
بالنسبة لموقف دولة ليتوانيا، قد اعتبر السفير الليتواني ليناس لينكيفيتشوس (Linas Linkevičius) في حديث خاص مع “أخبار الآن“، أنّ تهديدات روسيا وتصاريحها أصبحت لغة تقليدية مع جيرانها، معتبراً أنّ في الردّ الروسي مبالغة. وقال: “لا شيء محاصراً في الأساس، هناك عمليات ترانزيت للمسافرين وترانزيت للسلع التي لا تحظرها العقوبات الأوروبية، كما أنّ هناك إمكانية تواصل جوّاً أو بحراً، وبالتالي ليس هناك حصاراً. أوضح أنّ “هناك بعض القيود التي تطبّق بفعل قرار الإتحاد الأوروبي والذي تنفّذه ليتوانيا، لذلك هناك مبالغة في الموقف الروسي الذي أصبح تقليدياً، ونحن نستمع إلى كل تصاريح روسيا، لكن في الوقت نفسه علينا أن نصدر الرد المناسب لها”.
تهديدات روسيا وتصاريحها أصبحت لغة تقليدية مع جيرانها
ليناس لينكيفيتشوس
وتابع: “ليست ليتوانيا هي التي تحاول استحداث عقوبات وطنية جديدة، فذلك الأمر مناط بصلاحيات الإتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية التي تحدّد كيفية تطبيق تلك العقوبات”، لافتاً إلى أنّ “تلك التوصيات والخطوط العريضة هي التي ترعى العقوبات، وبالتالي ليتوانيا لا تتخذ أيّ خطوات على الصعيد الوطني، وأي تغييرات أو تصحيحات هي من صلاحية المفوضية الأوروبية، ونحن مستعدون للإمتثال لها”.
وأضاف: “لكن برأينا إنّ أيّ خطوات مستقبلية لا يجب أن تسهّل الحياة على روسيا لأنّ العقوبات قد استُحدثت لجعل الأوضاع أكثر تعقيداً، وذلك بسبب تصرفات روسيا والهجوم الذي قامت به”.
وتشمل السلع المدرجة في قائمة البضائع الروسية المحظورة من قبل الإتحاد الأوروبي 50 % من المواد التي تستوردها كالينينغراد، تتضمن الفحم والمعادن ومواد البناء والتكنولوجيا المتقدمة، وذلك إجراء تقول ليتوانيا إنّها لجأت إليه بسبب العقوبات التي فرضها الإتحاد الأوروبي، والتي هي عضو فيها.
روسيا جار لا يمكن أبداً التكهن بما قد تفعله
ليناس لينكيفيتشوس
سألت “أخبار الآن” السفير الليتواني ليناس لينكيفيتشوس ما إذا كان هناك أيّ استعدادات تجرى في ليتوانيا تحسباً لأيّ اعتداء روسي محتمل، فردّ بالقول: “مؤخراً حصلت هجمات سيبرانية حاشدة استهدفت المؤسسات العامة الليتوانية، وبالتالي علينا أن نبقى دائماً على أهبّة الإستعداد عندما يتعلق الأمر بالتهديدات العسكرية، لكن أشك أن تحاول روسيا استفزاز الائتلاف باعتبار أنّها تواجه ما يكفيها من المتاعب، وهي عالقة في الوحول الأوكرانية، وتعجز عن تحقيق أيّ نصر استراتيجي ملموس هناك، وهكذا فإنّ زيادة التحديات أمامها هو ضرب من الجنون”. وجدّد التأكيد أنّه يصعب التكهّن باي خطوة محتملة لأنّ روسيا جار لا يمكن أبداً التكهن بما قد تقدم عليه أو تفعله”.
ليتوانيا ومعها لاتفيا وإستونيا، طالبت مراراً بتوسّع الوجود العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) على أراضيها، وبتوفير أسلحة حديثة وأنظمة دفاع جوي، في حين يشكك أعضاء أخرون في الحلف، منهم إيطاليا وفرنسا، بأنّ روسيا ستشكل تهديداً لأراضي الناتو في المستقبل القريب، لا سيما في منطقة البلطيق التي أنهت فيها روسيا مناوارات عسكرية شارك فيها ألف جندي و60 سفينة.
“فرق كبير بين ما تفعله روسيا وما تتهم غيرها به”
وشدّد لينكيفيتشوس في حديثه لـ”أخبار الآن“، على أنّ “حصار ليتوانيا لا يشبه الحصار الذي تفرضه روسيا على مرفأ أوديسا الأوكراني، الذي يعيق تصدير الحبوب، ما يؤثّر سلباً على العالم بأسره”، معتبراً أنّ “هناك فرقاً شاسعاً بين ما تفعله روسيا وما تتهم غيرها بالقيام به بسبب العقوبات”.
وأظهر تقرير داخلي صادر عن السكك الحديدية الحكومية في ليتوانيا أنّ شحنات السكك الحديدية بين البر الرئيسي لروسيا كالينينغراد، تراجعت بشكل حاد حتى قبل دخول العقوبات حيز التنفيذ، من 616 ألف طن في مارس إلى 298 ألف طن في مايو. تضمنت نسبة 54 % من تلك الشحنة بضائع استهدفتها العقوبات الأوروبية، لكنها لم تحظر بعد بموجب برنامج تنفيذ مرحلي، فالعقوبات المعلنة بالفعل على الفودكا، على سبيل المثال، لا تدخل حيّز التنفيذ حتى 10 يوليو.
كالينينغراد جيب روسي ونقطة عسكرية في أوروبا ويضمُّ المقر الرئيسي للأسطول الروسي في البلطيق
الطريق من الأقاليم الروسية إلى كالينينغراد يكون برّياً وعبر السكك الحديدية الممتدة على طول 65 كيلومترا مروراً ببيلا روسيا وليتوانيا. ذلك الموقع الجغرافي ساهم في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول الأوروبية في السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنّها تلاشت مع ضمّ شبه جزيرة القرم العام 2014.
كما يُعتبر الجيب الروسي نقطة عسكرية روسية في أوروبا، إذ يضمُّ المقر الرئيسي للأسطول الروسي في البلطيق، لكنّه محاط بقوات الناتو المنتشرة في كلّ من استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا. ولمواجهة توسّع حلف شمال الأطلسي عززت موسكو وجودها العسكري في كالينينغراد، ونظمت فيها مناورات مهمة عدا عن نصب صواريخ تحمل رؤوساً نووية وأنظمة دفاع جوي.
تجدر الإشارة، كانت كالينينغراد واحدة من أكثر المناطق الروسية عسكرة وانغلاقاً، وكان الجيش هو الدعامة الإقتصادية الرئيسية للمنطقة خلال الحقبة السوفيتية. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي، تمّ القضاء على ذلك الوجود العسكري، وبطبيعة الحال، على الفوائد الاقتصادية التي قدمها. ولا تزال كالينينغراد ذات أهمية استراتيجية كبيرة لموسكو، إذ تضم أسطول البلطيق الروسي في ميناء بالتييسك، وهو الميناء الأوروبي الوحيد الخالي من الجليد في البلاد.
لماذا تمتلك روسيا كالينينغراد؟
كالينينغراد هي الجزءُ الوحيد من روسيا المنفصل عنها جغرافياً، وهي تقع بين ليتوانيا وبولندا، على بعد أكثر من ثلاثِ مئةِ كيلومتر من بقيةِ الإتحاد الروسي، والوصولُ إليها يحتمّ قطع عدة دول. حتى الرابع من يوليو العام 1946، كان اسم تلك المقاطعة كونيغسبيرغ، أي جبل الملك، عندما كانت عاصمةً لمقاطعة بروسيا الشرقية الألمانية. بعد الحرب العالمية الأولى، تمّ فصل كالينينغراد عن بقية ألمانيا، بموجب معاهدة فرساي.
ومع ذلك، تغيّرَ كلُ شيءٍ العام 1945، فبعد نهاية الحربِ العالمية الثانية، تمّ ضمّ المدينة من قبل الإتحاد السوفيتي، بمُوجِبِ مقرراتِ مؤتمر بوتسدام، لتتحولَ المنطقة من السيادة الألمانية إلى سيطرة الإتحاد السوفيتي، الذي غيّر اسمها إلى كالينينغراد العام 1946، بعد طرد الألمان ومجيء الروس.
بعد نهايةِ الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفيتي العام 1991، وجدت كالينينغراد نفسَها معزولة جغرافياً عن روسيا، وقد تراجعَ التواجدُ الروسي العسكري فيها، لكن مع وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم، أعاد ضخَ الدمِ العسكري فيها من جديد نظراً لموقعِها الإستراتيجي بالنسبة لروسيا، إذ أنّها تعتبر مقرّاً لأسطولِها على بحر البلطيق، وفي قلب أوروبا، حيث باتت تعرف بخاصرة القارة العجوز الرخوة، ومن المحتمل أن يقدم بوتين على توجيه ضربته الأولى إلى أوروبا، إنطلاقاً من تلك المنطقة، حيث تستعرض موسكو ما نشرته من أسلحة ومنظومات صواريخ.
تلك الورقة تلوح بها موسكو تزامناً مع غزوها لأوكرانيا، وتصاعد التشنج مع الغرب وحلف شمال الأطلسي (الناتو) إبّان فرض عقوبات غير مسبوقة على النظام الروسي. وقد حظي الجيبُ الروسي باهتمامٍ دولي في يونيو 2022، عندما فرضت الحكومة الليتوانية قيوداً جديدة صارمة فرضها الاتحادُ الأوروبي، على عبور أراضيها إلى كالينينغراد. ذلك الموقف أثار ردَ فعل غاضباً من قبل موسكو، التي تعهّدت بالإنتقام واتخاذ إجراءات قد يكون لها تأثير ليس فقط على ليتوانيا، إنّما على أوروبا بأكملها.
شاهدوا أيضاً: طريق بوتين إلى كالينينغراد روسيا..الممر الذي سيفجر كل أوروبا