تلقى تنظيم داعش، على مدار الأشهر الخمس الماضية، عدة ضربات قوية استهدفت قيادته العليا، فبعد مقتل خليفته السابق أبو إبراهيم القرشي (الهاشمي)، في فبراير/ شباط الماضي، والإطاحة بمتحدثه الإعلامي والقيادي البارز به أبو حمزة القرشي (المهاجر)، خلال وقت سابق، وكذلك القبض على أحد أبرز قادته في تركيا، أواخر مايو/ آيار الماضي، نجحت الولايات المتحدة، قبل يومين، في استهداف وقتل ماهر العقال الذي يُعتقد أنه شغل منصب والي الشام في داعش، وتولى مسؤولية تطوير شبكات داعش خارج سوريا والعراق.
ومع أن مقتل وأسر قادة داعش يؤكد أن أمراء التنظيم ليسوا بعيدين عن حملة الملاحقة التي تشن ضد عناصره إلا أن السياقات التي أحاطت بتلك العمليات، تكشف وجود “تمييز طبقي” داخل التنظيم، وخصوصًا بين فئات الجنود، والأمراء، والحجاجي الذين يُمثلون قادة الصف الأول بالتنظيم، ففي حين يبقى الجنود في ساحات المعارك وفي المناطق الصحراوية القاحلة داخل سوريا والعراق وغيرها، يُقيم حجاجي وأمراء داعش في مناطق أكثر أمنًا وراحةً، داخل مناطق الشمال السوري، وفي داخل بعض المدن التركية وغيرها، كما تُثبت عمليات استهدافهم.
وعلى الرغم من أن داعش يعتبر الخروج من ساحات القتال في سوريا والعراق والإقامة في مناطق الشمال السوري وتركيا.. إلخ، “إقامةً في ديار الكفر”، بمفهومه الأيديولوجي والحركي، إلا أن قادة داعش كانوا أول من خالف هذه القاعدة، وهربوا من المعارك للإقامة في مناطق أكثر أمنًا وترك عناصرهم يعانون القتل والتشريد والجوع.
وسبق لداعش أن هاجم، عبر منصاته الدعائية المختلفة، عناصره الذين قرروا الخروج من العراق وسوريا أو خرجوا بالفعل إلى دول أخرى، وذلك خلال إصدارات إعلامية وبيانات ورسائل رسمية، وأناشيد صوتية بثتها مؤسسة أجناد المعنية بالإنتاج الصوتي، مُحرمًا الإقامة في خارج مناطقه باعتباره “تولي يوم الزحف، وإقامة في ديار الكفر”، بتعبير متحدثه الرسمي (الأسبق) أبو محمد العدناني- في كلمته الصوتية المعنونة بـ”قل للذين كفروا ستغلبون” الصادرة في يونيو/ حزيران 2015، لكن يبدو أن قادة داعش لا يلتزمون بالتوجيهات التي يوجهونها لأتباعهم وأنصارهم
فعلى سبيل المثال، اختبئ زعيمي التنظيم وخليفتيه السابقين، أبو إبراهيم الهاشمي، وأبو بكر البغدادي، داخل منازل في أطمة (على الحدود السورية- التركية)، وباريشا، التابعة لمنطقة حارم في شمال غرب سوريا والمحسوبة، آنذاك، ضمن مناطق نفوذ تنظيم حراس الدين، فرع القاعدة السوري- الذي يصمه داعش بالكفر-، منذ منتصف عام 2019 وحتى مقتله في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، بينما اختبئ المتحدثين السابقين باسم التنظيم أبو حمزة القرشي، وأبو الحسن المهاجر قرب مدينة جرابلس، (تُسيطر عليها فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا) ، مع أن التنظيم يُحرم على أتباعه الإقامة في تلك المناطق باعتباره “ديارًا كفرية لا تُحكم بالشريعة”، على حد تعبيره.
كما أمنت القيادة العليا للتنظيم خروج أسر “حجاجي داعش” إلى خارج مناطق القتال في سوريا والعراق، ونقلتهم إلى دول أخرى بعيدة عن العمليات العسكرية (منها تركيا)، بينما رفضت بشكل قاطع إخراج عوائل وأسر عناصر التنظيم، وشاع في أوساط هؤلاء العناصر أن القيادة أبقت أسرهم داخل المناطق المحاصرة لاستخدامهم كدروع بشرية، وذلك وفقًا لحوارين منفصلين أدلى بهما عبد الناصر قرداش، أمير اللجنة المفوضة سابقًا (أعلى هيئة قيادية تنفيذية بالتنظيم)، وأمير هيئة الهجرة في داعش.
وأوضح أبو مسلم العراقي، الأمني السابق بالتنظيم، في الجزء الثاني من شهادته على داعش والتي نشرتها مؤسسات منشقة عنه بعنوان: “شهادة أمني تائب”، أن الخروج من “معاقل داعش” المحاصرة كان محرمًا على أفراد وعوائل التنظيم، ومباحًا للأمراء والحجاجي الذين نقلوا أسرهم إلى خارج مناطق القتال وزودهم بكل ما يحتجون من أموال وغذاء ومنازل، على حساب جنود وعناصره التنظيم.
تقديس القيادات الداعشية بـ”سردية الطهرانية”
ورغم مناقضة قيادة داعش العليا ومخالفتها للتوجيهات التي أوجبت على أتباعها الالتزام بها، حشد التنظيم آلته الدعائية لصناعة صورة مرسومة بدقة للحجاجي (قيادات الصف الأول) والأمراء، تقوم على مرتكزات أساسية منها الطهرانية والربانية (المزعومة)، لأنهم “بُعدٌ عن الشبهات”- وفق كلمات أنشودة شهيرة للتنظيم رددها منشده (السابق) “ماهر مشعل” وكُررت بصورة مطردة في الإصدارات والرسائل الإعلامية للتنظيم- إلا أن تلك السردية المغالية في تعظيم قادة داعش انهارت ولم تصمد أمام واقع التنظيم الذي اعتمد معيارًا عنصريًا طبقيًا في التفرقة بين الأعضاء المنتمين له، بحسب ما كشفته العديد من التسريبات التي نشرها قادة وعناصر بالتنظيم.
فمنذ إعلانه إقامة الخلافة المكانية، أواخر يونيو/ حزيران 2014، حث داعش أتباعه وأنصاره على طاعة قيادته العليا وعلى رأسها خليفة التنظيم، والوقوف خلفها دون أي اختلاف مستخدمًا ثنائية “الترغيب والترهيب” في تجييش أعضاءه وأنصاره خلف تلك القيادة عبر الترغيب في الطاعة واعتبارها عليها من أعظم أسباب النصر، والتحذير من الخلاف معها أو التطرق إلى انتقادها بأي صورة من الصور، داعيًا لـ”فلق رأس من يخالف القيادة أو يشق عصا الطاعة بالرصاص وإخراج ما فيه”، وفق تعبير المتحدث (الأسبق) باسم التنظيم أبو محمد العدناني في كلمته “هذا وعد الله”- يونيو 2014.
وبرر داعش الدعوة للطاعة المطلقة بمبدأ “السمع والطاعة للقيادة في كل الأحوال” أو “في المنشط والمكره” (بحسب نص البيعة التي يؤديها عناصر التنظيم له)، معتبرًا أنه ليس من حق أفراد التنظيم الاعتراض على قيادتهم حتى ولو أخطأت، إلا في حال ثبت لديهم أن هذه القيادة ارتدت عن الإسلام أو كفرت به.
وفي نفس الإطار، استأصلت القيادة العليا لتنظيم داعش كل المخالفين لها، واتبعت الأسلوب الأمني في التعامل معهم، كما أعدمت من وصفوا أمرائها بـ”الكفر أو الغلو”، وذلك لتبقى مسيطرة على زمام الأمور داخل التنظيم، ولكي لا تسمح بوجود جيوب حركية خارج سيطرتها أو بروز تيارات وأفراد يتهمونها بـ”الكفر والردة” بما يمنح عناصر التنظيم فرص للخروج عليها وعصيانها.
ومع أن السردية التي روجها داعش لأمراءه وقادة الصف الأول به، ارتكزت في جزء منها، على فكرة أساسية نابعة من مبدأ “المساواة والعدل المطلقين” بين القادة والجنود والأعضاء الأدنى مرتبة بالتنظيم، إلا أن الممارسات الفعلية لحجاجي داعش وأمرائه، أثبتت أن القيادة العليا تعمل وفق رؤيتها الذاتية والتي تميزت ببراجماتية واضحة غير مقيدة بضوابط أيدولوجية أو شرعية، وذلك لأن المجموعة القيادية رأت نفسها “وصية على التنظيم” وبالتالي اعتبرت أنه ليس من حق أي عضو به مناقشتهم أو مشاوراتهم في قرارتهم حتى ولو كانت خطأً بينًا، كما ذكر أبو عبد الملك الشامي، أحد قيادات التنظيم الشرعية، في رسالة مطولة بعنوان “زفرات من الدولة الموؤدة”، نُشرت عبر منصات مناصرة لداعش في أغسطس/ آب 2017.
ووسعت الممارسات الحركية لقيادة داعش الفجوة التنظيمية والجيلية بين قادة التنظيم وبقية العناصر المتواجدين فيه، وبخاصة العناصر الأحدث سنًا الذين انضموا له بعد تمدده إلى سوريا والذين قدموا من دول مختلفة (عربية وأجنبية) وامتازوا بعدم وجود خبرات جهادية سابقة في ساحات القتال.
تقسيمات طبقية وإثنية وأيدولوجية
وأدى فشل داعش في دمج أفراده المنحدرين من خلفيات وإثنيات وجنسيات مختلفة، في نسيج/ إطار اجتماعي متجانس إلى فشل “التعايش الحرج”، وبروز الفوارق الاجتماعية والثقافية.. إلخ، بين عناصره، ونتيجة تلك الاختلافات تشكلت تيارات ومجموعات عديدة ومتنافرة داخل التنظيم، وارتبطت كل مجموعة فيما بينها بروابط أيدولوجية، و قومية، وإثنية.
وألمح أبو عبد الملك الشامي، في مقاله زفرات من الدولة الموؤدة، إلى أن التنظيم جرى تقسيمه إلى 3 تقسيمات طبقية رئيسية، أولها طائفة الحجاجي (قيادات الصف الأول وأعضاء اللجنة المفوضة، وأمراء الدواوين وبعض ولاة التنظيم) والذين يمتلكون أعلى سلطة تنفيذية داخل التنظيم ويحوزون “الأختام الحمراء” التي تسمح لها بإصدار قرارات واجبة النفاذ وتعميمها على جميع أفراد داعش، وثانيها طائفة الأمراء وهم قيادات بالصفين الثاني والثالث والذين يكونون مسؤولين في الأغلب عن الدواوين والولايات (مكانية أو أمنية) والمفاصل الحركية للتنظيم، فيما تشمل الطائفة الثالثة، الأفراد الأدنى مرتبة تنظيمية وهم “الجنود”.
وألمح “الشامي” إلى أن “الحجاجي” اكتسبوا ثقة قيادة التنظيم العليا وصاروا محصنين ضد العقاب والمساءلة لجملة من الأسباب منها المعرفة السابقة التي جمعت بينهما سواء في الجيش العراقي السابق (جيش الرئيس الأسبق صدام حسين)، أو داخل السجون التي اعتقلوا بها عقب الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، بالإضافة لكون عدد آخر منهم من “رواد العمل الجهادي” في العراق الذين انضموا للتنظيمات الجهادية، منذ بداية عملها في البلاد، عقب سقوط نظام صدام حسين، مضيفًا أن بعضهم “جواسيس” زرعوا داخل داعش للقضاء عليه من الداخل.
وأكد أبو مسلم العراقي، الأمني السابق بالتنظيم، في الجزء الثاني من “شهادة أمني تائب”، أن التعامل داخل التنظيم يجري بناءً على قاعدة “الواسطة والمحسوبية”، مردفًا أن الطبقة العليا في التنظيم جُعلت للأمراء، وفي المقابل جُعلت المرتبة الدنيا للجنود.
وعلاوة على التقسيمة الطبقية، برزت تقسيمات إثنية أخرى داخل داعش، فكون العراقيون العرب والتركمان (الملقبين بالقراديش) مجموعاتٍ خاصةً بهم، وانضوى الجهاديون الروس والشيشانيون والداغستانيون في تشكيلات ومفارز قوقازية، وكذلك فعل السوريون والتونسيون والسعوديون والمصريون، وغيرهم، كما أدت التفاعلات والسجالات الأيدولوجية الداخلية إلى حدوث تباينات وشقاقات أدت إلى انقسام التنظيم إلى 3 تيارات أيدولوجية هي: (تيار أبو جعفر الحطاب- أكثر تشددًا في قضايا التكفير، وتيار اللجنة المفوضة- الذي يسيطر على التنظيم حاليا وهو ثاني أكثر التيارات تشددًا، وتيار مكتب البحوث والدراسات- الأقل تشددًا مقارنة بالتيارين الأخريين)، وضم كل تيار من التيارات الأيدولوجية الثلاث مجموعات تنظيمية من جنسيات شتى.
وفي ذات الإطار، حاولت كل مجموعة إثنية/ قومية تعظيم مكاسب القومية التي ينتمون لها، والعمل وفق أجندتهم الخاصة دون اعتبار المصلحة العامة لأفراد التنظيم، فالمجموعات العراقية العربية تنافست مع نظيراتها التركمانية على حيازة النفوذ والسيطرة داخل نطاق القيادة العليا لداعش، فيما نظر القوقازيون (بتنويعاتهم) إلى القتال داخل داعش باعتباره فرصة للتدريب واكتساب الخبرات القتالية استعدادًا لمواجهات محتملة مع النظام الروسي، بينما حاولت مجموعات “إثنو- جهادية” أجنبية أخرى تطبيق رؤيتهم المتشددة لـ”نموذج الدولة الإسلامية” على أرض سوريا والعراق، دون مراعاة الفوارق الاجتماعية والثقافية بين الدول التي نشأوا فيها والدول التي هاجروا إليها مما أشعل الخلافات بينهم وبين المجموعات العراقية والسورية، في مناسبات متفرقة.
وسعى التنظيم، إبان فترة الخلافة المكانية، لدمج مقاتليه الأجانب في صفوف المجتمع المحلي وإنشاء علاقات نسب ومصاهرة بينهم لتوثيق الصلات مع السوريين والعراقيين، كما عزل عددًا من القيادات الأجنبية واستبدلها بأخرى محلية، لامتصاص غضب العشائر وأبناء المجتمعات المحلية في مناطق نشاط التنظيم، لكن القيادات البديلة استغلت مناصبها لتحقيق مصالح ذاتة وسلب أموال المواطنين، وبالتالي زاد حجم السخط الموجود لديهم تجاه داعش.
كما استغل أمراء داعش- بحسب شهادة أبو مسلم العراقي- مناصبهم القيادية في اضطهاد جنود/ أفراد التنظيم، الذين أُرسلوا إلى مواقع القتال/ الجبهات، في حين ظل الأمراء بعيدًا عنها ولم يشاركوا في العمليات القتالية التي سقط فيها الآلاف من جنود داعش.
الجنود في الجبهات والأمراء في الإصدارات
وتكشف شهادة عناصر وقيادات داعش الحاليين والمنشقين، عن التمييز السلبي الذي يتعرض له المقاتلون/ الجنود في صفوفه، مقابل الامتيازات التي يحصل عليها قادته، فعلى الصعيد العملياتي يشارك عناصر الفئة الأولى في الهجمات والمعارك التي يخوضها التنظيم، في مقابل غياب الأمراء عن المعارك وحضورهم الإعلامي في الإصدارات الدعائية لتحريض المقاتلين على الثبات والصبر على الجراح والهزائم والانتكاسات.
وأشار أبو عبد الملك الشامي، القيادي بالتنظيم، إلى أن قادة التنظيم ومتحدثه الإعلامي (الأسبق)، حثوا عناصره على الصمود في مواجهة حملة التحالف الدولي لحرب داعش “قوة المهام المشتركة- العزم الصلب”، فيما اختبؤوا واختفوا عن ساحات المعارك، ولهثوا خلف المناصب والراحة واكتفوا بالتحريض عبر الإصدارات الدعائية والكلمات الصوتية دون المشاركة الفعلية في المعارك، واصفًا “رباط الحجاجي العسكري” بأنه “رباط على القبضات/ أجهزة اللاسلكي” دون الانخراط في المعارك أو المرابطة على الجبهات.
وبينّ أبو مسلم العراقي، الأمني السابق بداعش، أن المشاركة في جبهات المعارك مقصورة على جنود التنظيم فقط دون مشاركة فعلية لأمراءه، مضيفًا أن هؤلاء الأمراء أقاموا في منازلهم ومقراتهم الخاصة بعيدًا عن العمليات القتالية وبعضهم كان ينام عند “سبيته الأيزيدية”، وتسببوا في سقوط المدن ومعاقل التنظيم ومقتل العديد من عناصره، كما حدث في معارك سنجار وبيجي العراقيتان.
ويُقدر عبد الناصر قرداش، أمير اللجنة المفوضة الأسبق والمسجون حاليًا لدى القوات الأمنية العراقية، أن خسائر التنظيم في معركة بيجي وحدها بلغت 12 ألفًا من جنوده، بجانب مقتل 8 آلاف آخرين في معارك عين العرب “كوباني”- التي قادها “قرداش” من خارج المدينة- ، وذلك لأن قيادة داعش العليا رفضت تغيير خططها العسكرية أو الانسحاب من المدن المهددة بالانهيار ولو على حساب دماء عناصره وأفراده، وهو ما أقرت به أسبوعية النبأ الرسمية التي كشفت في عددها الـ 97 أن داعش تلقى خسائر كبيرة في الأفراد والمعدات جراء الحملة الجوية للتحالف الدولي والتي بدأت خلال معارك كوباني.
وإلى جانب رفضها تغيير إستراتيجتها وتكتيكاتها العسكرية في المعارك والعمليات العسكرية، أصرت “القيادة العليا” على تولي مجموعة من “الحجاجي”- تحت إشراف جمال المشهداني المكنى بأبي حمزة الكردي، وحجي عبد الناصر قرداش، وحجي عبد الله قرداش الخليفة السابق لداعش- على إقالة القيادات المخالفة لنهجها واستبعادهم من مناصبهم- كاستبعاد أبو ذر التونسي مؤسس الأكاديمية العسكرية الداعشية وتولية قادة عراقيين بدلًا منه-، بجانب الإشراف على العمل العسكري والأمني، وهو ما تسبب في استنزاف التنظيم بصورة كبيرة وخسارته لمناطق سيطرته، ومن ثم فرار عدد من قادته البارزين – منهم أبوحمزة الكردي- إلى ملاذات آمنة جديدة في دول أخرى.
وحظي قادة داعش الفارين، بإقامات مميزة في ملاذتهم الجديدة- بحسب شهادة أبو مسلم العراقي- مستغلين الأموال الطائلة التي جمعوها خلال ذروة نشاط التنظيم، في السنوات الماضية- كما انضم بعضهم (كأبو حمزة الشحيل) إلى فصائل مسلحة أخرى موالية لتركيا- بينما بقي أفراده وجنوده يعانون شظف العيش ولا يجدون ما يسدون به رمقهم، فضلًا عن وجود تمييز في إرسال الكفالات (الرواتب الشهرية) إلى الجنود بناءً على معيار الواسطة والمحسوبية، إذ يتم تقديم العراقيين على غيرهم في الحصول على الأموال بينما يُمنع المقاتلين الاجانب (المهاجرين) من الحصول على رواتبهم بحجة عدم وجود وسيلة لنقل تلك الأموال إليهم.
وتُؤكد بيانات القبض على أمراء داعش البارزين، مؤخرًا، كحجي حامد العراقي وغيره أن المجموعة القيادية في التنظيم لا زالت تنعم بامتيازات استثنائية وتتمتع برفاهية كبيرة، على حساب جنود داعش وأفراده، غير أن سُقوط هؤلاء القادة، يُثبت أنه لا يُوجد مكان آمن لقادة داعش وعناصره الفاعلين، حتى مع اختبائهم في دول بعيدة عن مسرح العمليات الإرهابية كتركيا، والسودان وكوسوفو (البلقان)، كما يتبين من رصد “أخبار الآن” للعمليات التي استهدفت قيادة داعش طوال الأشهر الماضية.
وعلاوة على الرفاهية الاستثنائية، حظي قادة داعش البارزين، في عديد من الأحيان، بعد سجنهم بفرصة تعيين “محامين” للترافع عنهم، بأموال دفعها التنظيم بصورة غير مباشرة، كما قدم التنظيم رشاوى مالية لبعض الجهات لنقلهم من سجون معينة أو تخفيف الأحكام الصادرة بحقهم- كما حدث مع أبو المغيرة القحطاني/ أبو نبيل الأنباري- في مقابل حظر قيادة التنظيم على أفراده الاستعانة بمحامين واعتباره من “التحاكم إلى الطاغوت”، وفق ما تُظهره تقارير لجنة التدقيق والرقابة المنهجية الداعشية.
فجوات جيلية وتنظيمية
ونتيجة الأسباب السابقة وغيرها، حدثت فجوة تنظيمية بين قيادة داعش وأفراده، بتعبير حجي عبد الناصر قرداش، وبالتالي صار هناك “انفصال نسبي” بين الفئة الأولى وبين العناصر الذين يمثلون الغالبية العظمى داخل التنظيم.
ومن جهته اعتبر، هشام العلي، الضابط السابق بالجيش العراقي والخبير في الشؤون الإستراتيجية ومكافحة الإرهاب، أن هناك فجوة جيلية في النسيج التنظيمي لداعش منشأها اعتماد التنظيم في عملية الاستقطاب والتجنيد على فئات عمرية بين سن المراهقة والعشرينات في الأغلب، مضيفًا أنه من الممكن ملاحظة ذلك من خلال مراجعة نتائج التحقيقات الجارية مع أسرى داعش وعوائلهم لدى القوات العراقية المشتركة.
وأضاف “العلي” أن المراحل العمرية السابقة تتميز- حسب علم الاجتماع- بوجود ثورة روحية لدى المراهقين والشباب وهو ما يجعلهم يؤمنون بالجزئيات ويبنون عقائدهم عليها، ومن ثم تسمح تلك النظرة الضيقة لداعش باستقطابهم، وتُسهل على قيادته السيطرة على هذه الفئات الأصغر سنًا الذين يستجيبون لكافة التعاليم والأوامر والتوجيهات التي تصدر من المرجعيات الفقهية والعسكرية للتنظيم.
وألمح الخبير العراقي في الشؤون الإستراتيجية إلى أن الخلافات التنظيمية تندلع بين القيادات التي تتجاوز أعمار ها الأربعين عامًا فما فوق، وتصل تلك الخلافات إلى حد الاحتراب، مما يجعل التنظيم يتحول إلى بؤر تنقسم باستمرار متحولة إلى جماعات أصغر وأصغر، وكل منها يعتقد أنه صاحب الحق والصواب الوحيد.
وتابع: تُثبت المعلومات التي حصلنا عليها من التحقيقات الجارية مع عناصر داعش لدى القوات العراقية المشتركة أن قادة التنظيم يتمتعون بالترف والإقامة بعيدًا عن خطر الحرب والملاحقة، لكن ذلك لا يُقابل، في الغالب، برفض من أفراد التنظيمات وذلك لأسباب منها الفئة العمرية للمقاتلين والتي لا يعترض أفرادها، غالبًا، على الأوامر والأفعال التي يأتيها القادة، وكذلك لـ”شرعنة” الترف الذي يعيشه القادة ونقلهم لعوائلهم وأسراهم خارج مناطق القتال، استنادًا إلى الفقه الحركي والمرويات التاريخية حول أحوال الأمراء المسلمين الذين تنعموا بميزات خيالية، علاوة على أن الأجواء داخل التنظيمات المسلحة منغلقة وليست ديمقراطية تسمح للفرد بالتفكير والاعتراض، بدعاوى السمع والطاعة وعدم شق الصف.
وبدورها، أكدت نهلة عبد المنعم، الباحثة المصرية في شؤون الجماعات المتطرفة والإرهاب الدولي، أن الجماعات المتطرفة وفي مقدمتها داعش تُضفي على قادتها مسحة من التفضيل والاستثنائية، لأنها تعتبرهم “حفظة للدين” وتصفهم بـ “أمراء المؤمنين” الذين يجب أن ينعموا بالأفضل ليحافظوا على مكتسبات الخلافة المزعومة ويقيموا الدين، وفق ادعائهم، مضيفةً أن التنظيم يستمد جزء من شرعيته من “القداسة” التي يمنحها لزعمائه، كما يستغل حملة الملاحقة الدولية لهم لتحسين صورتهم وإبرازهم كأمراء يجب طاعتهم.
وأشارت “عبد المنعم” إلى أنه يمكن ملاحظة الشقاقات بين قادة داعش وأفراده عبر تحليل مضمون الرسائل التي تنشرها صحيفته الأسبوعية “النبأ” التي تحرص على تبرير حالة التعب والمشقة التي يتعرض لها الأفراد باعتبارها محنة وبلاء واختبار إلهي يجب أن يصبر هؤلاء العناصر عليه، موضحةً أن التنظيم يدفع أتباعه وأنصاره نحو “التهلكة المغلفة بشعارات دينية”.
انقسامات متواصلة
وذكرت الباحثة المصرية في شؤون الجماعات المتطرفة أن هناك خلافات مستمرة نشبت داخل داعش سواء في قلب المجموعة العراقية نفسها التي عاشت على وقع خلاف “عربي- تركماني”، أو حتى في المجموعات الأخرى، لكن التنظيم لازال قادرًا في الحفاظ على تماسك روابطه الداخلية بصورة نسبية، معتبرةً أن العامل الفارق في هذا الشأن هو استمرار التنظيم ووجوده على الساحة العملياتية بما يسمح له بصنع دوائر وشبكات تنظيمية جديدة.
واتفق الخبير العراقي هشام العلي مع الباحثة المصرية نهلة عبد المنعم بشأن عدم اختفاء التنظيم بصورة نهائية نتيجة الخلافات الداخلية، لافتًا إلى أن الخبرة السابقة في التعامل مع التنظيمات الجهادية تثبت أن تلك التنظيمات تعاني من انقسامات عنقودية لأسباب أيدولوجية وتنافسية ومادية، وتُساهم هذه الانقسامات في تحجيمها وتفقدها عالميتها لكنها لا تقضي عليها بصورة كاملة.
ومع أن تنظيم داعش، نجح في احتواء الخلافات الداخلية وإظهار تماسكه التنظيمي، لاسيما في الفترة التي تلت مقتل زعيميه أبو إبراهيم القرشي، وأبوبكر البغدادي، إلا أن عمليات الاعتقال لقادته البارزين وسقوط خلاياه المتناثرة سواء في سوريا والعراق أو السودان والبلقان وغيرها من الدول، تكشف أن التنظيم يبقى مقوضًا من الداخل، رغم حرصه على إظهار التماسك التنظيمي، خاصةً وأن عدد، غير قليل، من أفراده وعناصره، اختاروا التعاون مع أجهزة الأمن وأدلوا بمعلومات قيمة أدت لإسقاط شبكات وخلايا وقادة التنظيم، كما يؤكد جهاز مكافحة الإرهاب العراقي.