بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية مقتل أيمن الظواهري في غارة جوية نفذتها طائرة بدون طيار استهدفت مخبأه بكابول في أفغانستان الأحد الماضي، ٣١ يوليو ٢٠٢٢، يبرز اسم سيف العدل كالمرشح الأهم لتولي قيادة التنظيم. ما خلفية الرجل ولماذا كذب بشأن ماضيه وما تأثير استقراره في طهران على قرارات التنظيم وعمليات فروعه حول العالم.. هذا ما سنقوم بتحليله في سلسلة وثائقيات “بعد متلازمة طهران.. القاعدة إلى أين؟” والتي تمتد لـ ٥ أجزاء نبدأها بهذا التقرير عن سيف العدل وعصابته في إيران.
بعد متلازمة طهران.. القاعدة إلى أين؟ الجزء الأول
علاقة مريبة جمعت الأضداد في معسكر واحد رأى كل طرف فيه أنه يستخدم الآخر ويسخره لخدمة أهدافه، فالقاعدة رأت في إيران الملجأ والمعبر الآمن في عصر تتداعى عليها الدول والقوى الدولية وتطارد عناصرها حول العالم، بينما كان الإيرانيون أعمق مكرًا وأطول نفسًا في هذه العلاقة، فبعد عقدين تقريباً من احتماء التنظيم ببلادهم أصبح لهم عليه الكلمة النافذة بشكل غامض حتى بالنسبة لمنتسبي التنظيم أنفسهم، الذين يجهلون الوجهة التي يُساقون إليها بعد ارتماء قادتهم في قبضة طهران وارتهانهم لقرارها.
فالحقيقة أن قادة القاعدة في إيران أصيبوا بما لا يمكن وصفه إلا بـ”متلازمة طهران”، فطوال سنوات عديدة لم يستنشقوا إلا هواء إيران ولم يشربوا سوى مياهها حتى صار ولاؤهم لها ولم يعودوا يعرفون لهم وطنٌ سواها، وأضحت طهران عاصمة التنظيم الدولي للقاعدة.
ثعلب القاعدة عبد الرحمن المغربي
يعد محمد أباتي الذي يُعرف بعبد الرحمن المغربي ويلقب بثعلب القاعدة، من أكثر قادة التنظيم غموضاً وتخفيًا؛ فهو الرجل الشبح الذي خُدع الأمريكيون بشأنه سنوات طويلة كان فيها قائداً نشطًا داخل التنظيم، بينما حسبه أعداؤه في عداد الأموات واخرجوه من دائرة الملاحقة تماماً مما ساهم في منحه حرية الحركة والعمل، وحتى اليوم تظل قصة دخوله إلى إيران لغزاً غامضًا لم يُكشف عنه، فهو لم يكن ضمن القيادات التي فرت إلى أراضيها بعد سقوط حكم طالبان في أفغانستان عام 2001، وكذلك لم يرد اسمه أبداً ضمن قادة القاعدة المشمولين في صفقة التسويات بين التنظيم وطهران، رغم توليه منصباً حساساً فائق الأهمية داخل التنظيم.
لكن في يناير/ كانون الثاني ٢٠٢١ خرج وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، في مؤتمر صحفي ليؤكد أن المغربي مازال يمارس دوره القيادي من قلب الأراضي الإيرانية، وعرض برنامج “مكافآت من أجل العدالة” التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، مكافأة تصل إلى 7 ملايين دولار مقابل الحصول على معلومات حول مكان وجوده هناك وفُرضت عقوبات على كل من يتعامل معه.
والمغربي هو صهر الزعيم العالمي للقاعدة الذي أعُلن عن مقتله، أيمن الظواهري، وقد ولد في المغرب في 1 يوليو/تموز 1970، وانضم في شبابه للتنظيم، وشغل عددًا من المواقع المهمة به حتى أصبح مسؤولاً عن شبكة السحاب، الذراع الإعلامية المركزية للقاعدة، وفقاً لما كشفته رسالة من عطية الله الليبي، مسؤول الأقاليم (الأفرع الخارجية للتنظيم)، إلى أسامة بن لادن، وُجدت ضمن الملفات التي تم العثور عليها في مجمع أبوت أباد في مايو/أيار 2011، إذ طلب الليبي تعيين المغربي نائباً له -وهو ما تم لاحقاً في أغسطس/آب ٢٠١٠، بينما كان في عداد الأموات لدى الأمريكيين الذين حسبوا أنهم قضوا عليه بغارة في وزيرستان بباكستان عام ٢٠٠٦.
بروفايل المغربي حسب الكاتب عبد الغني مزوز
وجاءت النقلة الأكبر له حين أصبح مسؤول الأقاليم بعد مقتل الليبي أواخر ٢٠١١، أي رئيس مكتب الاتصالات الخارجية، وكذلك أصبح المدير العام للتنظيم في أفغانستان وباكستان عام 2012، ومكنته تلك الأدوار المركبة والهامة من الاطلاع على أخطر أسرار التنظيم وما لا يمكن لبعض القادة الأخرين الوصول إليه، فقد كان أحد ثلاثة فقط كان لديهم إمكانية الاطلاع على مضمون الرسائل الخاصة بأسامة بن لادن، رفقة مصطفى أبو اليزيد وعطية الليبي، وبعد جمعه لهذه المناصب أضحى لديه سلطة توجيه فروع القاعدة حول العالم وإرسال الرسائل التي يريدها إليهم.
ووصفه عطية في رسائله بأنه يتمتع بـ”عقلية طيبة جدا ودين متين نحسبه كذلك، وخلق عال، وكتمان وصبر وفكر صائب ووعي ممتاز، صالح للقيادة”، لكن مشكلته أن كبار السن من أعضاء القاعدة قد لا يقبلوا ترقيته لصغر سنه عنهم، ونصح عطية، بن لادن بتعيينه نائباً له، برسالة صوتية على الأقل لإظهار دعمه له تلافيا لاعتراض شيوخ التنظيم.
وذكرت وزارة الخزانة الأمريكية أن بن لادن عين عطية مبعوثًا للقاعدة في إيران، مما سمح له بالتنقل داخلها وخارجها بإذن من المسؤولين الإيرانيين، وصنفته الوزارة كإرهابي، في يوليو/تموز 2011، وفي الشهر التالي قُتل في غارة بطائرة بدون طيار شمال باكستان، وحل المغربي محله، وظل يمارس نشاطه بحرية في إيران تحت أعين النظام ورقابته.
وتجدر الإشارة إلى أن أحدث وثيقة منسوبة إليه تم التوصل إليها، هي الرسالة المسربة التي خطها بيده في نهاية آذار/مارس 2014 وتعهد فيها مع بعض قادة التنظيم أنه في حال وفاة أيمن الظواهري، زعيم القاعدة، سيبايعون أبي الخير المصري، وأبي محمد المصري، وسيف العدل، وناصر الوحيشي على التوالي، وقد قُتلوا جميعاً عدا سيف العدل.
ووفقاً للباحث، عبد الغني مزوز، فإن المغربي شارك في اتخاذ أهم القرارات التي كان لها تأثير في صياغة الخريطة الجهادية في العالم، فقد كان شارك في ترتيبات أخذ بيعة أبي مصعب الزرقاوي ومجموعته لزعيم القاعدة، أسامة بن لادن، كما لعب دوراً مهماً في إعادة إحياء نشاط التنظيم بعد تفكيك معسكراته وانفراط عقده في أفغانستان بعد الغزو الأمريكي عام 2001.
ويؤكد مزوز أن المغربي من ضمن الأسماء المرشحة لتولي منصب القيادة العامة للقاعدة بعد أيمن الظواهري، وتقييد حرية سيف العدل في إيران، لأننا إذا أخذنا بعين الاعتبار الوثيقة التي تضمنت سلسلة القيادة بعد الظواهري، سنجد أن القادة الذين تعهد بالولاء قُتلوا ولم يبق منهم سوى سيف العدل، الذي يُستبعد اختياره لأنه يعيش في إيران، لأن الوثيقة اشترطت أن يكون الأمير المختار في فرع من فروع القاعدة، وبالتالي فإن المغربي ضمن الأسماء التي يُحتمل أن تؤول لها قيادة التنظيم.
ويؤكد الدكتور عمرو عبد المنعم، الباحث المتخصص فى شئون الحركات الاسلامية والجماعات المتشددة، في تصريحاته لـ”الآن” أن عبد الرحمن المغربي يتولى تأمين اتصالات أيمن الظواهري والإشراف على إرسال الرسائل المشفرة إلى القواعد التنظيمية حول العالم، وهو من أشد المقربين من صهره زعيم القاعدة، الذي أعلن عن مقتله في ضربة أمريكية استهدفت مخبأه في أفغانستان.
ياسين السوري
يعد عز الدين عبد العزيز خليل، المشهور باسم ياسين السوري، من أبرز قادة القاعدة المرتبطين بإيران، ولد عام 1982 في القامشلي في شمال شرق سوريا وانضم للقاعدة وساهم بشكل كبير في توفير الدعم اللوجستي للتنظيم، إذ تورط في الإشراف على عمليات نقل الأموال والرجال من مختلف الدول العربية إلى الأراضي الإيرانية، التي أصبحت الممر المفضل له إلى باكستان، حيث يقيم عدد من قادة التنظيم.
وقد سمح النظام الإيراني لياسين السوري، بالعمل على أراضيه منذ عام 2005، واستطاع بذلك نقل التبرعات التي تمنحها العديد من الجهات الداعمة للتنظيم من جميع أنحاء العالم العربي، إلى إيران كمرحلة أولى ومن هناك يتم توزيعها على مسارح العمليات في أفغانستان والعراق أو حيثما تقتضي الحاجة.
وفي 28 يوليو/تموز 2011، أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية ياسين السوري على لوائح الإرهاب، ونتيجة لهذا التصنيف، يعد تقديم أي دعم مادي مقصود له عن علم جريمة في حد ذاته، وتعهد برنامج مكافآت من أجل العدالة التابع للحكومة الأمريكية بصرف مكافأة تصل قيمتها إلى عشرة ملايين دولار أمريكي مقابل الإدلاء بمعلومات عنه، ثم تم تخفيض المكافأة مؤخراً إلى ثلاثة ملايين فقط.
وكانت السلطات الإيرانية ألقت القبض على السوري في ديسمبر/كانون الأول 2011 عقب الإعلان عن المكافأة الأمريكية مقابل الإبلاغ عنه، لكنها أنكرت رسميًا وجوده على أراضيها في محاولة للتنصل من المسؤولية.
ووفقًا لعروة عجوب، الباحث في شؤون الجماعات المتشددة، من الصعب تحديد طبيعة العلاقة بين ياسين السوري وإيران منذ اعتقاله عام 2011 لأن الأمر لم يتم الكشف عنه من قبل الولايات المتحدة التي كانت وراء تصنيفه من بين المتعاونين مع إيران.
وقال عروة عجوب في مقابلة مع أخبار الآن: ”لكن عندما يتعلق الموضوع بالعلاقة بين القاعدة الأم وإيران فيمكن وصف هذه العلاقة بالتعاون التكتيكي كما وصفها أحد المختصين الأكاديميين في دراسة مكافحة الإرهاب عساف مكدنة، وما نقصده هنا أن القاعدة وإيران يتشاركان نفس العدو وهو الولايات المتحدة ولكن بنفس الوقت لكل منهما أفكاره الأيديولوجية التي تصور له الطرف الآخر على أنه عدو“.
سلطان يوسف حسن العارف
يعد سلطان يوسف حسن العارف الذي يشتهر باسم قتال العبدلي، من قادة تنظيم القاعدة المقيمين على الأراضي الإيرانية، وهو يحمل الجنسية السعودية، وقد ولد في الثامن والعشرين من يناير/ كانون الثاني عام 1986، في جدة غرب المملكة العربية السعودية، وانضم إلى التنظيم واتخذ من إيران مأوى له بعد سقوط نظام حكم طالبان في أفغانستان عام 2001، وكان له دور فعال في استهداف المصالح الأمريكية حول العالم، وفي يناير/ كانون الثاني 2021، أعلن وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، عقوبات على العبدلي ضمن عدد من قادة القاعدة المقيمين في إيران، ورغم ذلك فإنه نظرا لطبيعته الغامضة فإن هناك شحاً في المعلومات المتاحة عنه وعن دوره.
سيف العدل
لسنوات طويلة ثارت التساؤلات حول سبب بقاء محمد صلاح الدين الشهير بـ”سيف العدل” في إيران، على الأقل منذ عام 2015 حين عقدت القاعدة صفقة مع طهران تم بموجبها تحرير أعضاء التنظيم هناك وسُمح لهم بالسفر إلى الخارج، لكن سيف العدل لم يغادر! كما أن أفراد عائلته كانوا من بين القلائل الذين أفلتوا من الاعتقال من بين أُسَر القاعدة، واتضح أنهم من دون الباقين كانوا مستثنين من الاحتجاز، مما أشار إلى وجود تفاهمات مع السلطات الإيرانية لم يتم إشراك باقي عناصر القاعدة بها.
ولم يتوفر لمنتسبي التنظيم الآخرين تفسير واضح لهذه العلاقة الخاصة التي ربطت سيف بمضيفيه مقابل المعاملة التفضيلية التي نالها منهم، ومن هنا بات علينا التنقيب والبحث في مصادر المعلومات المتاحة عنه وعن أسرته من أجل تفسير وشرح أبعاد هذه العلاقة وفك ألغازها.
بدأت علاقة سيف العدل بالإيرانيين في التسعينات بعدما التقى أسامة بن لادن في السودان، مع ممثل رفيع المستوى عن النظام الإيراني وطلب منه تدريب أتباعه على استخدام المتفجرات، ووافق الإيرانيون على تدريب أفراد القاعدة في لبنان على يد عماد مغنية، أحد أبرز القادة العسكريين في حزب الله، واختير سيف العدل لهذا التدريب بصفته أحد كبار الخبراء العسكريين في القاعدة، وتلقى تدريباته في معسكر تابع لحزب الله في سهل البقاع شرق لبنان، وأسفر هذا الاتصال بين الطرفين عن دور حيوي آخر لسيف العدل؛ إذ تم تكليفه بإدارة ملف علاقات التنظيم مع إيران، وسرعان ما ظهرت آثار دروس مغنية بعد عودة سيف العدل من لبنان، ففي واقعة تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في صيف 1998، تم استخدام أساليب تفجير تحمل تشابهًا صارخًا مع تلك الخاصة بعمليات حزب الله.
أُدرج سيف العدل على قائمة أكثر الإرهابيين المطلوبين لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي منذ عام 2001، ورُصدت جائزة عشرة ملايين دولار قدرها لمن يدلي بمعلومات عنه، وهو مقيم مع أسرته في إيران مع عدد من قادة القاعدة منذ سقوط نظام حكم طالبان عام 2001.
وقد تزوج سيف العدل من أسماء مصطفى حامد، ابنة الرجل الذي يُعرف بـ”مؤرخ القاعدة” ويشتهر بكنية “أبي الوليد”، وقد نشر قصة زواج ابنته مطلع فبراير/شباط الماضي على موقعه الشخصي “مافا السياسي” الذي يصدر من إيران، في مقال بعنوان “عقد قران سيف العدل : أفراح عرب قاعدة الجهاد فى قاعدة جاور” نُشر في ١ فبراير ٢٠٢٢، يشرح فيه الجوانب العملية والرمزية لهذه الزيجة، إذ يكشف أن إعجابه بسيف يعود إلى أشهر عديدة قبل تقدمه لخطبة ابنته، ويشير إليه بوضوح كرجل عسكري مهم يتمتع بالذكاء والحيوية، ويؤكد أن تعرفه عليه جاء خلال عملية إغلاق مطار خوست القديم خلال التصدي للغزو السوفيتي لأفغانستان.
ويحكي حامد في مقال “١٢ سؤال من كابل – الجزء الأول، المنشور بتاريخ ٢٢ أبريل ٢٠٢١” أنه رأى سيف لأول مرة حين نصبت مجموعة الأخير كمينًا له قرب المطار وتعرف عليه حينها، ويقول: “كان يقودهم شاب ذو ملامح شرق آسيوية بأعين ضيقة ماكرة وابتسامة بريئة لمتآمر محترف، كان خفيف الحركة نشيطاً ضاحكاً، أحببته كثيرا رغم غدره بمجموعتي وقلت في نفسي إن هذا الفتى محارب أصيل ينتظره مستقبل كبير لو أنه ظل حيًا .. بعد أشهر تقدم للزواج من ابنتي ولم أكن في حاجة لمشاورة أحد لولا محبتي لعمالقة القاعدة أبو عبيدة وأبو حفص، فقد استشرتهما في أمر الزواج فوافقا على الفور”.
وهكذا قرر حامد عقد زواج سياسي عسكري بينه وبين قيادي في القاعدة، أحبه منذ رآه لأول مرة، وفي نفس المقال يتذكر كيف خطط لهجوم على دبابة سوفيتية وكيف نفذ سيف هذا الهجوم بموافقة من جلال الدين حقاني، الذي صار فيما بعد أحد أبرز قادة حركة طالبان، وهذا يرمز إلى حد كبير لطبيعة “مشروع” حامد ويحدد الخطوط العريضة لخططه المستقبلية.
فهي قصة رمزية للغاية يشير فيها إلى رغبته الواضحة في استخدام سيف، وتحقيق تحالف طويل الأمد بينه كرجل مخطط ذي مؤهلات أيديولوجية عالية وبين سيف كقائد عسكري محترف، وكان هذا التحالف منذ البداية يعمل على هامش القاعدة ويخدم طالبان.
وفي مقاله عن العرس يؤكد أبو الوليد على رمزية عقد حفل الزفاف في قاعدة عسكرية شهدت معارك كبرى ضد السوفييت، ويتذكر أبا عبيدة وأبا حفص الذين أصيبا في هذا المكان “قبل تأسيس (تنظيم) القاعدة بأكثر من عام”، ويصفهما بأنهما “الشخصيتان الأهم في القاعدة ومؤسساها الحقيقيان” في تقليل واضح من أسامة بن لادن ودوره، مع اللجوء إلى المناورات البلاغية والرموز التي لا تخفي وضوح المعنى الذي يقصده.
والجدير بالذكر أن مصطفى يشير على الفور إلى الاختلافات في الرأي بين سيف وغيره من كبار السن في القاعدة، وبأنه كان له نهج مستقل عنهم، ويذكر حضور حقاني وأتباعه (أصبحوا عناصر في طالبان لاحقاً) حفل الزفاف، وهو عندما يشير إلى “العقد” في ميدان الجهاد، لا يقصد فقط زواج ابنته من سيف، ولكن أيضًا العقد بينه وبين سيف وطالبان.
واللافت في هذه الرواية أن كل الثناء والمديح يذهب إلى طالبان وسيف، لا القاعدة، حتى أنه يصف صهره بطريقة تكتسي بالدعابة قائلاً إنه “يتمتع بالذكاء ولكن ليس إلى الدرجة التى تمنعه من الانضمام إلى تنظيم القاعدة”، وهكذا ، من خلال تزويج مصطفى حامد ابنته لسيف العدل ، استعان مصطفى حامد برجل عسكري لتنفيذ مشروعه، بينما كان يعد الأسس الأيديولوجية لتقسيم القاعدة.
وتتكشف بعض ملامح مشروع أبي الوليد في مقاله “١٢ سؤال من كابل – الجزء الأول، المنشور بتاريخ ٢٢ أبريل ٢٠٢١” الذي يُفترض أنه يرد فيه على أسئلة أرسلها صحفي أفغاني من كابل، ويتضح من حديثه أنه يضع نفسه في مرتبة أعلى من القاعدة، ويقول إنه كان صديقًا لكبار قادة التنظيم لكنه لم ينضم إليه أبدًا، ويعطى انطباع بأن مكانته تسمو على ذلك، فيتحدث عن أسامة بن لادن ليس كزعيم مؤثر، بل مجرد زميل جهادي ربما على نفس مستواه، ويقول”وكأصدقاء قريبين كنا نتزاور ونتشاور ونتناقش. نتفق أحياناً ونختلف أحياناً أكثر، وكانت علاقاتنا تتوثق باستمرار، لم تهتز لكثرة الخلاف فى وجهات النظر حول تقييم جهاد أفغانستان والجهاد عموماً”، ووفقاً لهذا المنظور يضع حامد نفسه في موقع التفوق مما يسمح له بمهاجمة ليس فقط الأخطاء العملية ولكن أيضًا الأسس الأيديولوجية للقاعدة وقادتها بمن فيهم بن لادن.
وفي حين تتسم إشاراته إلى بن لادن بالبرودة والجفاء، فإن أسلوبه يصبح عاطفيًا وحنونًا في اللحظة التي يتحول فيها الحديث إلى صهره، الذي يصوره على أنه الزعيم الجهادي الوحيد المستقيم، في نبرة تسويقية ظاهرة، بينما يعمل على تحطيم صورة زعماء القاعدة الآخرين وعلى رأسهم بن لادن.
فيما يتعلق بولائه، يبدو واضحاً حين يروي قصة تلاوة بن لادن خطابا دينيًا جعل الجمهور يبكي، إذ يُظهره كخطيب مثير للدموع فقط لكن عندما يتعلق الأمر بالمسألة المهمة وهي القيادة الحقيقية والبيعة، فإن حامد لا يعترف بها إلا لزعيم طالبان الملا عمر.
وتثير قضية البيعة هذه انقسامات عميقة بين الجهاديين، فالعلاقة الوثيقة بين الملا عمر وبن لادن لم تعش بعد رحيل هؤلاء القادة، بل على العكس من ذلك ، بعد وفاة الملا عمر ، أخفت طالبان مقتله وتركت القاعدة في طي النسيان لأكثر من عامين، وبعد ذلك ، عندما أصبح الظواهري زعيماً للتنظيم، تجاهلت طالبان رجاءه المتكرر للاعتراف ببيعة القاعدة، وهنا تظهر الرسالة واضحة لأي قارئ ذكي: القاعدة عملت لسنوات عديدة بدون بيعة مقبولة من شخص يعتبرونه أمير المؤمنين، وفي المقابل، تمتع هو كان ببيعة لطالبان وفقًا لمبادئ مقبولة لدى الجهاديين، وهي طريقة أخرى يؤكد بها مصطفى تفوقه على القاعدة التي تفتقر قيادتها للشرعية الدينية.
اغتيال ذكرى بن لادن في ذكرى مقتله
يمتلك مصطفى حامد قلماً قوياً وتأسر كتاباته خيال القارئ، فهو قصاص موهوب، لكن لأي غرض يستخدم تلك الموهبة؟ إنه يسخرها لتسويق سيف العدل وتشويه صورة قادة القاعدة ، بمن فيهم بن لادن، فمن بين سطور التفاصيل الدقيقة التي يسردها بأسلوبه المميز، تتسرب الكراهية والتشويه لمن يستهدفهم.
ففي سلسلة مقالات نشرها في مايو/ أيار 2022، بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لمقتل بن لادن، يظهر لأول وهلة أنه يمدح مؤسس القاعدة لكن القراءة المتأنية تكشف عكس ذلك.
ففي مقال “الكهرباء تصعق مبدأ الشورى، المنشور بتاريخ ١٩ مايو ٢٠٢٢” يحكي أن بن لادن حل مشكلة ندرة المياه في قرية عرب خيل معقل الجهاديين العرب في أفغانستان بشراء خزان، وأن ذلك “كان حلاً جيداً لمشكلة المياه أوقف حرب المياه التى كادت أن تنشب بين كبار قادة القاعدة باستخدام الجواريف وأن تنتشر بين باقى السكان الذين تسابقوا عشوائياً على سرقة المياه التى اكتشفها سيف العدل وسحبها من الترعة المجاورة للقرية”، وبالنظر إلى هذه القصة فإن دور بن لادن كرجل ثري اقتصر عمله على دفع ثمن الخزان بينما الامتنان الحقيقي يجب أن يتوجه إلى سيف العدل، الشخص البارع الذي وجد الماء وأدخله، ويظهر هنا كيف يستخدم القصة أيضًا كاستعارة حيث وجد الجهاديون مصدر حياتهم بفضل سيف، ولا يكف كبار قادة القاعدة عن التنازع، فقد “أخمٍدَت فتنة المياه بهذا الحل السعيد، ولكن لتبدأ فتنة الكهرباء”، وهكذا يبدو قادة التنظيم في كتاباته وكأنهم على وشك التقاتل فيما بينهم على كل مسألة.
وعند مناقشة إدخال الكهرباء إلى القرية، يحكي أن بن لادن رفض طلب سيف العدل وأبو حفص بهذا الصدد، وأجرى مشاورة شكلية لم يسمح لمعارضيه فيها بفتح أفواههم فوافق الناس بالإجماع على رأيه هيبةً له رغم حاجتهم الماسة إلى الكهرباء في لهيب نار الصيف، ومحاولة طالبان إيصالها إليهم دون جدوى، ويقول “لمست وتر معضلة الشورى وهى قضية متورمة للغاية فى العمل الإسلامى، و الفقه الإسلامى أيضا.. كنت قد اقترحت أثناء هجرتنا من كابل إلى قندهار فى سيارة نقلتنا مع أسامة بن لادن، و مفتى التنظيم، وقادة كبار من القاعدة، قلت ساعتها والأتربة تتدفق علينا من نافذة السيارة: إن فقهاء المسلمين قد أضاعوا وقتاً طويلاً فى بحث مشكلة الشورى، وهل هى (مُلزِمَة) أم (مُعلِمَة) إلى أن اكتشف الشيخ أسامة أن الشورى (ملهاش لازمة). وقتها ضحك بن لادن والآخرون، و بدا مرتاحاً لتلك النتيجة”.
ويركز حامد هنا على مسؤولية بن لادن عن استمرار المشكلة وحرمانه للقرية من ضرورة حيوية في العصر الحديث على عكس الموقف المتفتح لسيف العدل، وكيف ضحك بن لادن إقراراً لوصفه بإهمال الشورى، في تشويه واضح لسمعة مؤسس القاعدة في الذكرى الحادية عشرة لاغتياله، بينما تطفح كتابته بنبرة تسويق وتلميع لصهره باعتباره الزعيم الجهادي المستقيم بينما يشوه سمعة الآخرين.
مشروع سيف العدل ومصطفى حامد
تمثل كتابات مصطفى حميد الآراء السرية لسيف العدل وطالبان حول مستقبل القاعدة
تشير كتابات حامد على موقعه الإلكتروني “مافا السياسي” بشكل صريح إلى جهود حثيثة لتغيير الأولويات الاستراتيجية للقاعدة، وحرف بوصلتها وإعادة تعريف أهدافها من جديد عن طريق السرد الانتقائي، فمن يحتكر السرد يملك التوجيه، وهو هنا يرسم صورة مقصودة للتنظيم هدفها وضع سيف العدل في قلب المشهد وتنحية الآخرين مثل بن لادن والظواهري، والغرض من إعادة النبش في التاريخ هو التأثير على أحداث المستقبل، أو بعبارة أدق المساهمة في توجيه القاعدة لوجهة مغايرة دون أن تبدو هذه الانعطافة كرِدة عن مسيرتها المعروفة، ودون أن يظهر التنظيم وكأنه تم اختطافه من قِبل سيف العدل.
ومن خلال النأي بنفسه عن القاعدة والتأكيد على أنه لم ينضم لها يوماً، يسمح أبو الوليد لنفسه بالكتابة عن مستقبل التنظيم متحررًا من المسؤولية بما يتوافق مع الرؤية الإيرانية، ويكشف ذلك عن الطريقة التي يريد بها سيف العدل تغيير القاعدة بشكل ناعم، فالأمر يبدو كما لو أن الحرس الثوري الإيراني هو الذي يضع استراتيجيات القاعدة من خلف الكواليس، فالنتيجة التي تقود إليها كتابات حامد أن القاعدة فشلت وعليها تغيير نهجها لتلتحم مع محور المقاومة الشيعي ضمن صيغة وحدة إسلامية غير مذهبية موجهة ضد أعداء إيران.
وفي هذا الصدد، يقول حسن أبو هنية، الباحث في شؤون الجماعات الجهادية في مقابلة خاصة مع أخبار الآن أن لإيران تأثير كبير على الحالة التي وصل إليها تنظيم القاعدة، فالعلاقة بين إيران والتنظيم علاقة استعمالية، فبعد أحداث سبتمبر لجأ أكثر من 500 من قادة القاعدة وعوائلهم إلى إيران، حيث كان يتم تصنيفهم بحسب من هو مع إيران ومن هو ضدها.
وأردف أبو هنية: ”كان هناك استخدام لهؤلاء حيث احتفظوا بهم أحيانًا كرهائن، وهذا الأمر سبب مشكلة لتنظيم القاعدة وأتباعه وأنصاره وكان عاملاً أساسيًا في إضعاف القاعدة وظهور تنظيم داعش“.
وعن مصطفى حامد وسيف العدل، يقول أبو هنية: ”إذا نظرنا كمثال إلى مصطفى حامد أبي الوليد المصري الذي يمتلك علاقة وثيقة مع طالبان أو القاعدة ويكتب افتتاحيات في طلائع خرسان، يدافع عن هذه العلاقة مع إيران ويعتبرها استراتيجية وينظر إلى الثورة الإيرانية على أنها نموذج كبير“.
ويضيف: ”وسيف العدل كذلك رغم أنه لا يظهر ذلك كثيرًا إلا أنه يؤمن في هذا بشكل كبير، وأعتقد أنه حتى عندما تمت صفقة التبادل ليس فقط الإيرانيون هم من منعوا سيف العدل من الخروج إنما هو شخصيًا رفض الخروج من إيران وأصر أن يبقى في حماية إيران وهذا نتيجة البعد التاريخي للعلاقة بين الجماعات الإسلامية والقاعدة بمكوناتها المختلفة مع إيران“.
مصطفى حامد وأيمن الظواهري.. مفترق طرق
في مقال نشره في مايو/ أيار 2018 بعنوان “مع بيان الدكتور أيمن الظواهري ” أمريكا عدوة المسلمين الأولى” .. الجهاد : إلى أين” يشن حامد هجوماً ضاريًا على أيمن الظواهري، زعيم القاعدة، وينتقد المسار الجهادي تحت قيادته، وينتقد بشدة الرسالة التي أطلقها الظواهري في ذلك الوقت بعنوان “أمريكا عدوة المسلمين الأولى”، ويصف رسائله بأنها فارغة وغير ذات صلة، وتشتت انتباه الأمة إلى أمور غير عملية مثل تحرير كاشغر وغروزني وكشمير والأندلس، معتبراً أنه “بعد رحيل بن لادن لم تظهر قيادة جهادية على نفس القدر، والعمل الجهادي صار شعارًا للفرقة والفوضى ، ولم يعد أملًا بقدر ما أصبح خطرا”.
ويُظهر بن لادن كشخص متواضع القدرات لا يستطيع وضع استراتيجيات محددة، أو التخطيط بشكل صحيح، ويهاجم بعنف قرار شن هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 واستهداف الأمريكيين حول العالم، ويقول: “بدأت مرحلة من التشتت والضياع الاستراتيجى، لعدم واقعية الهدف من جهة، ولعدم مناسبة الإمكانات المتاحة لتحقيق شئ ذى جدوى، ثم كان ذلك التوجيه مثار خلاف وبلبلة وعدم قبول من الرأى الإسلامي العام .”
ويعتبر أن “الجهاد” تحول”إلى عمل ارتزاقي لدى الأغلبية من التنظيمات بدوافع متعددة تبدأ من البحث عن الشهرة والزعامة، وصولا إلى البحث عن المال والسلاح والنفوذ” ثم يستدرك فيقول “مع الاحتفاظ باحترام خاص لمجاهدي اليمن المدافعين عن بلادهم” في إشارة لدعمه لتحالف فرع تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية مع ميليشيات الحوثي في اليمن التابعة لإيران.
وبينما ينسب الفشل الجهادي لبن لادن والظواهري، ويقدم حلولًا تحمل رائحة الهواء الملوث للعاصمة الإيرانية طهران التي يقيم بها، ويبدو وكأنه يستعير لغة الدعاية الإيرانية وليس الأدبيات الجهادية المعروفة، حين يدعو إلى للتوحد تحت لواء ما يسمى بـ”المقاومة”، والتقارب مع إيران مستخدماً عبارات مثل “التعاون السني الشيعي”، و”وقف الصراع المذهبي، وتحديدا الصراع المفتعل بين السنة والشيعة ، والقتال الداخلى بشتى عناوينه، والتوجه جميعاً إلى هدف أساسي واحد” وهو “تحرير المقدسات وفلسطين”، أي بعبارة أخرى، الحل لديه هو الانضمام إلى معسكر إيران والتبعية لها، متجاهلًا الدور الإيراني التخريبي في سوريا والعراق واليمن وغيرها، ومتجاوزًا عن قتل مئات الآلاف من العرب السنة بدوافع طائفية على أيدي الميليشيات الشيعية تحت شعار تحرير القدس، دون أن يكون للقدس نفسها نصيب من الإهتمام -اللهم إلا الاهتمام اللفظي فقط-، أي أنه يدعو التنظيمات الجهادية السنية المتشددة للانضمام لركب حزب الله والحشد الشعبي والحوثي وغيرها من الميليشيات الوالغة في دماء السنة العرب، وبهذا -من وجهة نظره- يتوحد جناحي الأمة في وئام وتآلف!
يجب وقف الصراع المفتعل بين السنة والشيعة والتوجه جميعا لتحرير المقدسات وفلسطين
ما الذي يجب عمله وفقا لمصطفى حامد
فإذا لم يكن عناصر الحرس الثوري الإيراني هم الذين يكتبون هذه المقالات، واتضح أن هذه هي أفكار مصطفى حامد بالفعل، فمن الواضح أن هواء طهران كان له تأثير كبير على نظرة هذا الرجل للعالم، ومن المؤكد أن ضميره لم يبق كما كان في السبعينيات، وقد اعترف بذلك في مقال “١٢ سؤال من كابل – الجزء الأول، المنشور بتاريخ ٢٢ أبريل ٢٠٢٢” قائلاً “العديد من آرائي تبدلت بمرور الزمن وتوالي الأحداث، ومع تكشف الكثير من جوانب الواقع التي لم تكن واضحة في البداية”.
الطابور الخامس
يريد أبو الوليد، صهر سيف العدل ومعلمه، أن ينضم الجهاديون إلى محور “المقاومة” الإيراني، ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك في ظل عدم ثقة الجهاديين بنوايا إيران وما تسببت به من دمار في العالم الإسلامي؟ وهنا يقترح حامد وسيف حلاً مبتكرًا، وهو أن يعمل الجهاديون خلف خطوط العدو كطابور خامس.
وقد كتب سيف العدل مقالاً بعنوان “33 استراتيجية للحرب -1(استراتيجية التضاد)” باسم مستعار وهو “عابر سبيل”، ونشره على موقع “مافا السياسي” في فبراير/ شباط 2021، تحدث فيه عن مفهوم الطابور الخامس وقال “مفهوم العدو استراتيجيا أوسع ممن يقاتلك .. فهناك المتربصون .. لفظ العدو يشمل كل من يعمل ضد مسيرة الإسلام.. هناك من يكنون لك نوايا سيئة ويتحركون بطرق خفية .. لاحظ الإشارات فليس كل ما هو ظاهر حقيقي .. والطابور الخامس بحاجة أن يُستفز ويُستدرج ليظهر الذين يحركونه وتتكشف وجوههم.”
ويحمل المقال العديد من القرائن المثيرة للاهتمام فيما يتعلق بنوايا طغمة سيف العدل وصهره، كجزء من استراتيجياته، يطلب سيف من الجهاديين أن يكونوا على دراية بمفهوم الطابور الخامس، الذي يعني العمل مع العدو ظاهرياً “تعلم كيف تخرج أعداءك من مخابئهم .. أعلن الحرب عليهم سرًا .. لا تكن ساذجًا .. ليس كل ما هو ظاهر حقيقي”.
إن اهتمام سيف بمفهوم الطابور الخامس جدير بالملاحظة والاهتمام الشديد لأنه علامة مميزة لاستراتيجيته العسكرية، أي حشد الحلفاء المختبئين لضرب العدو من الخلف، وهذه هي بالضبط الطريقة التي وجه بها تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية ليصبح حليفًا للحوثيين، وطعن القبائل اليمنية في ظهورها بينما كان يختبئ وسط المجتمع كجزء منه.
وإذا كان تنظيم القاعدة في جزيرة العرب هو الطابور الخامس بالنسبة لليمن، فإن سيف ورفاقه المقيمين في إيران هم الطابور الخامس بالنسبة للقاعدة، فقد تآكلت نواة القاعدة ببطء على مدار حوالي 20 عامًا، ودمرت قواعدها، وقُتل العديد من القادة، لكن سيف ومجموعته ظلوا عاملاً ثابتًا، فما الذي يريده سيف العدل على وجه التحديد؟ إن كان يحاول تحويل القاعدة إلى منظمة أكثر براغماتية شبيهة بحزب الله اللبناني، فإن براغماتيته تلك تقتصر على التعاون مع إيران لمواصلة “الجهاد العالمي” الذي لا طائل من ورائه، ولم يعد يُعرف له هدف واضح للقتال من أجله.
أصبحت القاعدة والجماعات التابعة لها تعمل خارج التاريخ والجغرافيا على حد وصف أبي محمد الفلسطيني، فقد تلاشى نمو قاعدتهم في مقابل النجاح الذي حازته نماذج طالبان والجولاني التي تركز على الصراع الداخلي في تحركاتها بدلاً من استعداء بقية العالم بهجمات خارجية لا هدف لها.
ويشير الباحث في شئون الجماعات المتطرفة، هشام النجار، إلى إن إيران تدعم القيادة المركزية لتنظيم القاعدة التي تتبنى المنهج التقليدي القائم على مبدأ استهداف العدو البعيد وترعى أمثال سيف العدل وعبد الرحمن المغربي، وذلك بهدف توظيفهم ضد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية فيما يُعرف بـ”الجهاد العالمي”.
وأضاف في تصريحاته لـ”الآن” أنه في الوقت الذي تتغاضى فيه الولايات المتحدة الأمريكية عن النماذج الجهادية ذات التوجه المحلي على غرار حركة تحرير الشام في الشمال السوري وطالبان أفغانستان، فإن إيران على الضد من ذلك تحاول إذكاء نشاط تنظيم القاعدة الذي يتبنى التوجه العالمي العابر للحدود، وتسعى إلى توظيف هذا النموذج لخدمة مصالحها.
الأمير غير قادر في الأسر على تنفيذ أي واجبات قيادية و يجب على المرؤوسين التساؤل عما إذا كان الأمير يصدر الأوامر تحت الإكراه
بحسب الماوردي والعلماء المعاصرين
وهنا لابد من أن نتساءل، هل سيدرك سيف أخيرًا أنه لن يكون أبدًا خليفة الظواهري إذا بقي في إيران؟ وهل ستعي فروع القاعدة أخيرًا ألا تثق أبدًا في التوجيهات التي يرسلها شخص يعيش في إيران؟ فإذا كان سيف ومن معه “محبوسين” في إيران فهم لا يملكون قرارهم إذًا، ويعرف أنصار القاعدة أن الفقهاء تناولوا هذه القضية؛ فبحسب الماوردي والعلماء المعاصرين فإن الأمير الأسير لا يستطيع الاضطلاع بأي واجبات قيادية، ويجب على المرؤوسين التساؤل عما إذا كان الأمير يصدر الأوامر تحت الإكراه، ولذلك فإنه حتى بالنسبة لأعضاء القاعدة الأكثر تعاطفاً معه، فإن وضع سيف العدل في إيران يُظهر بوضوح أنه لا يمكن الوثوق برسائله، ولا الالتزام بأوامره.
المسيرة المتناقضة لأبي الوليد
طور كبار السن في القاعدة في إيران ما يمكن تسميته بـ “متلازمة طهران” وهو مرض يمكن رؤية أعراضه بوضوح في كتابات مصطفى حامد، الذي يعد أول مصاب بهذا المرض.
قد يكون من الصعب على أعضاء القاعدة تصديق أن سيف العدل ومصطفى حامد اختارا العيش في إيران، ومع ذلك، فإنه من المستحيل إنكار ذلك في حالة حامد على الأقل فقصته مشهورة وموثقة، فقد احتُجز مع أسرته لسنوات في إيران، وفي عام 2011 ، سُمح له بالعودة إلى مصر، ومع ذلك بعدما وجد نفسه منفردًا في بلده قرر العودة إلى إيران، مثل الأسماك التي لا تستطيع البقاء على قيد الحياة خارج الماء، لم يستطع حامد البقاء خارج إيران.
مصطفى حامد حسب التصنيف الأمريكي للإرهاب
- أحد كبار المنتمين إلى القاعدة
- عمل كمحاور أساسي بين القاعدة وحكومة إيران
- عمل مراسلا لمحطة فضائية بناء على طلب قيادي بالقاعدة
- وفر له الحرس الثوري المأوى
- تفاوض حول العلاقة السرية بين بن لادن وإيران
في عام 2009، أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية حامد على قوائمها السوداء، وكشفت بالتفصيل عن دوره التاريخي في الاتصال بين إيران والقاعدة، بصفته أحد كبار مساعدي التنظيم، والمحاور الرئيسي بينه وبين طهران، ففي منتصف التسعينيات، شارك في مفاوضات سرية بين أسامة بن لادن والإيرانيين، مما سمح للعديد من أعضاء القاعدة بالعبور الآمن عبر إيران إلى أفغانستان، وفي أواخر التسعينيات، كان همزة الوصل بين الطرفين عندما كانت التوترات عالية بين إيران وأفغانستان، وسافر عدة مرات من قندهار إلى طهران كوسيط لطالبان.
وخلال حكم طالبان، عمل حامد كمراسل لمحطة تلفزيونية فضائية بناءً على طلب من كبار قادة القاعدة، وبعد الغزو الأمريكي لأفغانستان في أواخر عام 2001، كان مصطفى حامد في طهران يسلم رسائل من طالبان إلى الحكومة الإيرانية، وأثناء إقامته في إيران كان يعيش في حماية الحرس الثوري، الذي كان ينسق اتصالاته بين القاعدة وإيران.
كما تفاوض حامد نيابة عن القاعدة في محاولة لنقل عائلات عناصرها إلى إيران، وعاشت عائلة أحد كبار القادة العسكريين في التنظيم مع عائلة مصطفى حامد في إيران، وفي 2002، اضطلع حامد بتسهيل الاتصالات بين الحرس الثوري الإيراني وقائد عسكري كبير بالقاعدة.
العائلات تدفع ثمن المغامرات
بعد احتجاز حامد وأسرته في إيران لسنوات طويلة، تبنى الجهادي المصري المقيم في لندن، ياسر السري، حملة شعبية للمطالبة بالإفراج عنهم، عام 2011 استغلالاً لأجواء ما بعد ثورة 25 يناير.
وتكفلت صفية الشامي، شقيقة وفاء زوجة حامد، بكشف أوضاعهم الصعبة للإعلام، حيث كانت مصدرًا رئيسيًا لبيان كيف جر مقاتلو القاعدة زوجاتهم وأطفالهم -وأحيانًا أقاربهم- إلى إيران وحملوهم ضريبة مغامراتهم، مما سبب لهم معاناة هائلة، فكشفت أسراراً عائلية لم يكن أبو الوليد يريد أن يعرفها الجمهور، ففي لقائها مع صحيفة «الشرق الأوسط»، ذكرت أن شقيقتها وفاء وأولادها وأحفادها يعيشون بدون أوراق رسمية أو جوازات سفر في طهران، بعد أن سحبت سلطات الأمن منهم كل الوثائق الرسمية الخاصة بهم منذ دخولهم إلى البلاد.
وفي مايو 2008 ، نشر محمد طعيمة مقالاً معمقاً يشرح كيف تركت الجزيرة، مراسلها السابق مصطفى حامد، كما فشلت محاولات سناء شقيقة مصطفى، للتواصل مع السفارة الإيرانية في القاهرة، حيث تقول إنهم عاملوها “معاملة الكلاب وكأن أحدهم يتلذذ بالضغط على جرحك المفتوح، لم أستطع منع انفجاري بالبكاء والنحيب”، ونفوا باستمرار وجود شقيقها في بلادهم، ومرت الأسرة بظروف شديدة القسوة.
وفي أغسطس/آب 2011 ، ذكرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، أن وفاء الشامي فرت سراً من خاطفيها الإيرانيين مع حفيدها حسين للبحث عن ملجأ في مقر البعثة الدبلوماسية المصرية في طهران، وأنها كشفت عن وجود نحو مائة من الجهاديين العرب، هربوا من أفغانستان ويعيشون مع أسرهم في مناطق متفرقة بضواحي طهران، وأن ابنتها أسماء، زوجة سيف العدل، تعيش مع أطفالها الستة في حي شهريار بطهران.
وقالت وفاء إن بقائها في إيران يمثل خطورة عليها، لأنها كشفت أسرار أسرتها ومن ضمنها أسرة سيف العدل والعرب الآخرين في طهران رغم التعليمات الإيرانية المشددة بالتكتم على هذه الأخبار، وقبلت هذه المخاطرة بسبب تعنت السلطات الإيرانية معها، ومنعهم لها من زيارة أولادها الخاضعين للإقامة الجبرية في ظروف غير مقبولة، مبينة أن ابنتها عائشة، فرت إلى وزيرستان بباكستان، بينما فرت حفيدتها صفية إلى قطر.
وطالبت وفاء السلطات الإيرانية بكشف مصير ابنها وليد الذي اختفى قسريًا منذ عام 2005، بعد اتهامه بالتجسس لصالح إسرائيل وتهريب آثار أفغانية، وكان يتعرض إلى التعذيب والضرب والإهانة كل يوم من قبل السجّان والمعتقلين الإيرانيين أيضًا، على مدار أكثر من خمس سنوات حسبما يذكر أحد زملائه السابقين في معتقل إيفين سئ السمعة، دون أن يحصل على دعم من سفارته كما يحدث لرعايا الدول الغربية، بل احتُجز في ظروف وصفها أحد المعتقلين بعد إطلاق سراحه قائلاً ”انقطعت بنا السبل في القبور التي نعيش فيها.. نسينا وجوه أفراد عوائلنا ولم نعد نعرف الميت منهم من الحي”.
وبحسب قناة الجزيرة فإن عبد الله مصطفى حامد –المتزوج من إيرانية- اتصل بالقناة ليكشف عن تفاصيل مثيرة للاهتمام حول معاناة الأسرة، مبيناً أن النظام الإيراني حاول استدراجه لوقف تسريب الاخبار للخارج وكشف الانتهاكات الصارخة بحق الأسرة عبر ابتزازه بمنع دواء القلب عن والده وطالبوه بإحضاره له، لكنه لم يذهب خشية اعتقاله وقطع حلقة الوصل مع العالم الخارجي، وقال “لسنا أعداء لإيران ولن نكون كذلك”، مطالباً بالسماح لهم بالسفر ونفى حديث والدته عن وجود جهاديين عرب في طهران، كما شرح والده في رسالة للجزيرة ظروف اعتقاله في إيران، مبيناً أنها وعدت بالإفراج عنه بعد ثورة 25 يناير في مصر، ثم تراجعت عن ذلك، معرباً عن خطأ وثوقه في النظام الإيراني.
وتدافعت الأقلام لكشف محنة الأسرة والتضامن معها، فأشاد الكاتب اللبناني جورج حداد بمصطفى حامد وطالب بالإفراج عنه، ومن المثير أن حداد في مناشدته للقيادة الإيرانية أكد اعتبر أحد رموز ” التيار الإسلامي التنويري الثوري” و”أحد رموز المقاومة، الفكرية والسياسية والنضالية” منتقداً “ما تقوم به بعض الأجهزة الإيرانية المنوط بها حماية الثورة من أعدائها لا من أصدقائها” في إشارة إلى أن حامد من أنصار طهران وبالتالي يستحق معاملة أفضل.
وفي نهاية أغسطس/ آب 2011 أتت حملة الضغط ثمارها وعاد أبو الوليد مع أسرته إلى بلاده، مع محمد الإسلامبولي شقيق قاتل الرئيس أنور السادات، الذي كان مقيماً في إيران أيضاً ومطلوبًا للعدالة في مصر.
الفرار إلى الأسر الإيراني
فى أواخر سبتمبر/أيلول 2016 غادر مصطفى حامد مصر متجها إلى قطر ومن هناك عاد إلى إيران، مما شكل صدمة لدى من بذلوا جهدهم لتحريره هو وأسرته، فما الذي دفعه ليعود مختاراً ويسلم نفسه طوعاً لمن ندم قبل ذلك على وثوقه بهم بعدما قيدوا حريته وأذلوا أسرته وسببوا المعاناة لأقاربهم الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها من أجل إنقاذهم من الأسْر الإيراني؟!
لذا تستحق حالة مصطفى حامد الدراسة كنموذج صارخ للإصابة بمتلازمة طهران، التي تشبه متلازمة ستوكهولم وهي ظاهرة نفسية تصيب بعض من يتعرضون للاختطاف أو الأذى تجعلهم يتعاطفون مع خاطفيهم أو من تعرضوا لهم بالأذى، فالرجل عانى معاناة مضاعفة في إيران، فبخلاف ما تعرض له شخصيًا، فقد رأى زوجته تعاني بسبب قراراته ولم يستطع أن يوفر لها الأمان، ورأى أبناءه وأحفاده يتألمون وهو لا حول له ولا قوة، ورأى أفراد أسرته يستصرخون العالم طلبًا للنجاة من القهر الذي لاقوه على أيدي الإيرانيين، وهو نفسه كان يتوسل إطلاق سراحه ثم إذا به يعود لهم طوعاً، والامر الأكثر صدمة أنه برر قراره بآخر سبب يمكن أن يخطر على بال أي شخص، ألا وهو وجود “مناخ الحريات” في إيران دونًا عن غيرها من الدول!
وجريًا على عادته في إعادة رسم الأحداث ولَيّ عنق الحقائق من خلال امتلاكه لناصية السرد، لجأ في كتاباته، عبر موقع مافا وارلد Mafa World” على موقعه إلى التهوين من قسوة تجربته السابقة في إيران مبيناً أن كتبه تُرجمت باللغة الفارسية ولاقت قدراً اهتماماً وتقديراً فى إيران من الأوساط الأكاديمية والثقافية، بعكس الحال فى مصر، وأن طهران فتحت له وللجهاديين ذراعيها وآوتهم حين سقطت أفغانستان، لكن طبيعتهم “الفضائحية” أجبرت مضيفيهم على سجنهم حماية للأمن القومي للبلاد لكنه كان سجنًا أفضل حالاً من “جوانتانامو” الأمريكي أو “العقرب” في مصر، وأنه خلال اعتقاله تمت معاملته باحترام بل وحصل على قدر من الحرية، بالرغم من قسوة التجربة فيقول “كانت تجربة (سجن) إيفين قاسية نفسياً لأنها بالنسبة لي غير مُبَرَّرَة ، فلست عدواً لإيران، وقد سعيت منذ أول لحظة إلى تقارب إسلامي بين البلدين إيران وأفغانستان، والجميع يعرف ذلك”، ولا يخفى بالطبع كيف يتجاهل هنا ما حل بأبنائه وزوجته من أذى يفوق التحمل خلال تلك التجربة القاسية، لكن ذلك يَهون في عينيه حين يتذكر التقدير المعنوي الذي حصل عليه في طهران.
لقد أدرك بعض الباحثين حقيقة حامد، فقد نشرت الدكتورة دلال محمود، أستاذ مساعد العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ورقة بحثية بعنوان “مراجعة كتابات القادة الإرهابيين: مصطفى حامد نموذجًا”، صنفت حامد على أنه منظّر جهادي يحاول إيجاد أرضية مشتركة بين المتطرفين، وبينت بالتفصيل كيف لم يتفق مع الظواهري.
وبعد تحليل محتويات 15 كتاب له وجدت أن كتاباته تدور حول فكرة محورية وهي “إقامة دولة إسلامية مركزية”، وهذا يفسر رغبته هو وسيف العدل في التنازل عن مبادئ معينة لإيجاد أرضية مشتركة مع الحلفاء المحتملين، فهو يدعو لتحالف سني شيعي لـ “تحرير” شبه الجزيرة العربية والإطاحة بالحكومات العربية ومهاجمة الولايات المتحدة.
وقالت د. دلال محمود في مقابلة مع أخبار الآن، أن مصطفى حامد كان جزءًا من علاقة إيران بتنظيم القاعدة، وهذه ليست جديدة عليه وهو يرى أن إيران لها مشروع إسلامي وهي تدعم المسلمين شيعة وسنة، وهذه كانت نقطة خلافية بينه وبين بعض قيادات القاعدة.
وفي البداية، كان التحفظ على التعامل مع إيران على اعتبارها شيعية، لكن الرد الذي كان يسوقه مصطفى حامد في سبيل تقريب المسافات هو أن الإسلام هو الأصل والمذهب هو الفرع، وإيران تعمل على نشر الأصل، ووجود دولة اسلامية.
ويتضح ذلك أكثر بتصفح مقالات موقعه، ففي مقال “الحوار الجاد والفرص النادرة، المنشور بتاريخ ٦ مايو ٢٠٢٢” يناقش مسألة تعاون ميليشيات الحوثي مع تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وحركة الشباب الصومالية معتبراً أن انتصار الحوثي لو حدث فإنه يعني” فتح الطريق البرى أمام مجاهدي اليمن للوصول إلى حدود فلسطين مروراً بتحرير مكة و المدينة.. إنها فرصة لمجاهدي اليمن و الصومال و فلسطين و جزيرة العرب كى ينظروا إلى أنفسهم وبلادهم بطريقة جديدة تناسب وقتنا الراهن” على حد قوله.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2021 ، كتب حامد مقالا بعنوان “موقف السلفية العربية من الإمارة الإسلامية، المنشور بتاريخ ٨ ديسمبر ٢٠٢١” على موقعه على الإنترنت يتهم فيه السلفية الجهادية بالتحالف مع إسرائيل ودول الخليج والولايات المتحدة وباكستان وحلف الناتو ومن ضمنه تركيا، ضمن تحالف يهودي سني أطلق عليه مدرسة الإسلام الصهيوني يستهدف حركة طالبان وإيران والحوثيين، على حد زعمه، وهذا الكلام بالتأكيد يعطينا مثالا مهما لفهم ما حدث لقلوب المصابين بمتلازمة طهران.
وقد رد هاني السباعي، القيادي المقرب من القاعدة والمقيم في بريطانيا، على حامد رداً مطولاً أظهر عمق الخلافات بين مؤيدي الظواهري ومؤيدي سيف العدل وكيف أن الطريقين لا يلتقيان أبدًا، مما ينذر بتصدعات كبيرة داخل القاعدة في حال تولى سيف العدل قيادتها.
وقد هاجم حامد أعضاء القاعدة الذين لا يزالون يدعمون الظواهري، دون أن يسميهم واكتفى بمناداتهم ب”السلفية العربية”، واتهمهم بأنهم يحاولون نسبة انتصار طالبان لهم وبالتالي شكلوا تهديدًا لحكومتها، وحذر من لجوء الجهاديين بشكل استفزازي إلى أفغانستان بعد وصول طالبان للحكم في أغسطس/ آب 2021، دون التنسيق مع الحركة أو مراعاة حساسية موقفها، مذكراً إياهم بأنهم كانوا السبب في احتلال أفغانستان بسبب عصيانهم لأمير الحركة بتنفيذ هجمات 11 سبتمبر دون الرجوع إليه، وأنهم يهدفون إلى سحب الشرعية الدينية من الحركة، ويسعون إلى إحداث انشقاقات في صفوفها لصالح تنظيم داعش، معتبرا أن القاعدة تحت قيادة الظواهري فشلت فشلا ذريعاً بدليل الإخفاقات في اليمن وسوريا.
هاني السباعي موجها كلامه لمصطفى حامد: أين حمرة الخجل
ورد السباعي، على حامد بكلمة صوتية في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2021، مكذبًا مزاعم توافد الجهاديين على أفغانستان، مشيراً إلى أن حامد يتعرض للخداع من المخابرات الإيرانية التي تعد مصدر معلوماته الكاذبة، وأنه يريد زرع الخلافات بين طالبان وكل الأطراف والدول السنية، مبيناً أن القاعدة لا تنازع طالبان على الشرعية مستشهداً بمبايعة الظواهري لقادة الحركة كالملا عمر مؤسس الحركة، وهبة الله أخوند زادة، أميرها الحالي، وأن أدبيات القاعدة كلها تمدح الحركة وتنافح عنها قبل وبعد سقوطها، وأن الملا عمر وخلفائه، لم يتبرأوا من القاعدة بعد هجمات 11 سبتمبر التي تسببت في غزو أفغانستان، معتبراً أن اتهام حامد للتنظيم بمساندة داعش ضد طالبان غير منطقي، لأن الدواعش كفروا الظواهري وأتباعه، وحاربوهم واستحلوا دماءهم، ودمروا مشروعهم في سوريا.
واتهم حامد بأنه جزء من مشروع الولايات المتحدة لأنها هي التي تحارب القاعدة وترصد الجوائز لمن يرشد عن قياداتها حول العالم، وتغتال قادتها أينما وُجدوا خاصةً في اليمن، لكن لم تتوجه طائراتها يوماً لاستهداف الحوثيين الشيعة الذين يرفعون شعار الموت لأمريكا، ولا تعتبرهم جماعة إرهابية رغم أنهم يمارسون القتل ويستهدفون الملاحة في البحر الأحمر، وهاجموا شركة النفط السعودي أرامكو، تحت مرأى من الأمريكان، بينما لو فعلت جماعة سنية ذلك لوُضعت على لوائح الإرهاب، مبيناً أن السعوديين عندما تدخلوا في اليمن كانوا يدافعون عن أنفسهم عندما رأوا أن الحوثي يمثل تهديداً حقيقياً للحجاز.
كما وجه اتهامات لحامد بالتشيع وموالاة إيران نتيجة إقامته الطويلة فيها وأنه ينسب أي مصيبة للجهاديين، ويبرئ ميليشيات الشيعة ويعتبر أن من يعادي الحوثيين أو إيران يقف في الصف الإسرائيلي على طريقة أن من ليس معنا فهو ضدنا، وأن الرابط بين كل الأطراف التي هاجمها أنها سنية فقد هاجم كل أطياف التيارات الإسلامية وكل أنظمة الحكم العربية وتركيا وباكستان، ودافع عن إيران وكل الجماعات الشيعية التابعة لها حصرا، ويتستر وراء الدفاع عن طالبان، ويتهم السلفية بالتصادم مع جمهور المسلمين السنة ويعتبرونهم ضُلال، وبيَّن السباعي أن من يتصادم مع جمهور السنة هم الشيعة الذين يقتلونهم ويحاربونهم.
وتأتي أهمية ردود السباعي من اعتبارها الرد غير الرسمي لأتباع الظواهري على أبي الوليد، لذا كان من المفيد معرفة موقف قطاع مهم من القاعدة من المشروع الإيراني.
محاربون بالوكالة
رصدت عدة تقارير هذه التحولات في مسيرة القاعدة وتبعيتها لإيران، فوفقاً لخبير المخابرات الأمريكية بروس ريدل، فإن “نشاط القاعدة في إيران، كان دوماً لغزاً محيرًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة”، حيث تمت ملاحظة أن تحركات عناصر التنظيم نشطت بقوة عام 2008 بالتزامن مع تعثر المفاوضات النووية مع إيران واتجاه الولايات المتحدة لفرض عقوبات عليها، وحينها تم السماح لعدد من قادة القاعدة بالسفر إلى باكستان وانتعش نشاط التنظيم، وفي عام 2009 بثت قناة العربية اعترافات القيادي في القاعدة، محمد عتيق العوفي، الذي أفاد بتواصل الاستخبارات الإيرانية وجماعة الحوثي مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ورغبتهم في مدِّه بالمال والأسلحة اللازمة لتنفيذ الهجمات الإرهابية.
وقد أشار الباحث مايكل اس. سميث في تقرير له نشره الكونجرس الأمريكي عقب مقتل بن لادن عام 2011 إلى أن “إيران اقامت بهدوء علاقة عمل قوية مع أبرز قادة القاعدة بهدف التصدي للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا”، ومن قبلها نشرت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية عام 2006 تقريرا نقلا عن مصادر استخبارية يفيد بأن الرئيس الإيراني سعى بقوة لإقناع زعماء القاعدة المقيمين لديه باختيار سيف العدل ليكون الرجل الثالث في التنظيم بعد بن لادن والظواهري!
ولا يبدو واضحاً تماماً هل سيف العدل غير قادر على مغادرة إيران أم أنه اختار البقاء هناك بإرادته، وأيا كانت الإجابة فإن النتيجة النهائية هي أن سيف لا يمكنه الاستمرار كقائد بارز في القاعدة ، فضلاً عن محاولة خلافة الظواهري؛ ففي مقابلة عام 2012 مع صحيفة الشرق الأوسط ، قال ياسر السري إن سيف العدل لا يتمتع بحرية الحركة والقدرة على التواصل مع قادة القاعدة الآخرين. لذلك يمكن اعتبار أن سيف كلف عدة عمليات إرهابية بأمر من الحرس الثوري الإيراني. أو ربما ينفذ قادة القاعدة هذه التوجيهات والأوامر الإيرانية بالإكراه، واعتبر السري أن قيادات وعناصر «القاعدة» في إيران، “أسرى مكرهون، على أفعال قد لا يكونون موافقين عليها. “
ويرى الباحث المتخصص في شؤون الحركات المتطرفة والإرهاب الدولي، منير أديب، أن علاقة طهران مع القاعدة قد تمنحها القدرة على التدخل في اختيار الشخصية التي ستخلف أيمن الظواهري في زعامة التنظيم، فقد أصبحت المحرك الرئيسي والأساسي للقاعدة والملاذ الحقيقي لقياداتها الحالية وخلفائهم المنتظرين كذلك، من أجل استخدامهم في مواجهة أعدائها.
ويشير أديب في تصريحات خاصة لـ”الآن” إلى أن طهران تستضيف أغلب قيادات القاعدة المتوقع أن يخلف أحدهم الظواهري، وفي حالة فراغ موقعه قد نرى هؤلاء مُتحفظ عليهم في إيران، وبذلك تضمن طهران التحكم في التنظيم أياً كان اسم زعيمه المقبل، طالما كان من ضمن المقيمين على أراضيها.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: كيف يمكن لقادة القاعدة خارج إيران التأكد من أنهم يتواصلون مع قادة القاعدة؟ وكيف يمكن لأي زعيم أو عضو من قادة القاعدة خارج إيران أن يثق بأي توجيه صادر عن سيف العدل أو المغربي أو أي أسماء أخرى مقرها إيران؟
إلى هنا انتهى الجرء الأول من سلسلة وثائقيات “بعد متلازمة طهران.. القاعدة إلى أين؟ والتي تمتد لـ ٥ أجزاء نكشف فيها تباعا نكشف أسرار وخبايا قادة القاعدة المتواجدين في إيران وهل اختاروا الاستقرار في طهران أم أجبروا على ذلك، وما هي خطط مصطفى حامد وسيف العدل لمستقبل القاعدة..