مع استمرار الرفض الصربي الروسي الاعتراف باستقلال جمهورية كوسوفو، يعود التوتّر الأمني إلى غرب البلقان على وقع غليان القارة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا. والمخاوف تزداد من إقحام البلقان في الصراع المفتوح بين روسيا والغرب، لاسيَّما مع الحماسة التي يُبديها رئيس صربيا ألكسندر فوتيتش الملقب بـ “بوتين الصغير”، لاستعادة السيطرة على كوسوفو والانحياز لموسكو قدر الإمكان.
- صراع قديم جديد بين كوسوفو وصربيا ومخاوف من تطوره لمواجهة عسكرية تزيد المشهد تعقيداً
- النائبة الكوسوفية ميموزا كوساري ليلا لأخبار الآن: بوتين يستخدم صربيا لمصالحه
- كوساري ليلا: العلاقات بين روسيا وصربيا مازالت قويّة ولم تتمكن صربيا من الإنفصال عن بوتين
- حملة سفك دماء واسعة تعرض لها الألبان انتهت بتدخل قوات الناتو الموجودة في كوسوفو إلى اليوم
- أعلنت كوسوفو استقلالها العام 2008 من جهة واحدة وسط اعتراف دولي عدا صربيا وروسيا والصين
لمحة تاريخية عن الصراع القديم الجديد بين صربيا وكوسوفو
مع انهيار الإتحاد السوفياتي بين العامين 1991 و1992، تفككت جمهورية يوغوسلافيا الإشتراكية الإتحادية التي كانت تضمّ كلّاً من صربيا (من ضمنها مقاطعة كوسوفو)، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، وجمهورية مقدونيا.
وأعلنت كلّ من كرواتيا، وسلوفينيا، ومقدونيا الاستقلال عن جمهورية يوغوسلافيا، فوقعت الحرب اليوغوسلافية بين الجيش الإتحادي الصربي الذي رفض استقلالها، وبين تلك الدول التي دخلت في حروب أهلية مع الحكومة الإتحادية في صربيا، انتهت العام 1993 بتوقيع اتفاقية أممية للسلام في لاهاي، ونشر قوات دولية في الجمهوريات المنفصلة، لاسيما في البوسنة والهرسك.
إقليم كوسوفو الذي يضمّ أكثرية ألبانية مسلمة، ظلّ يرزح تحت الإضطهاد الصربي على الرغم من استقلال كلّ الدول الآنفة الذكر عن اتحاد يوغوسلافيا، الذي قاده سلوبودان ميلوشيفيتش (Slobodan Milosevic)، أحد أكثر الشخصيات الأوروبية إجراماً في التاريخ الحديث، إذ ارتكب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في مختلف دول البلقان، لاسيما بحقّ أبناء كوسوفو الذين شكلوا العام 1995 ما يعرف بجيش التحرير الشعبي للتحرر من اضطهاد الصرب لهم، وتحقيق استقلال الإقليم الألباني عن يوغوسلافيا.
آنذاك أي في العام 1998، انطلقت حرب ضروس انتهت بتدخل قوات حلف شمال الأطلسي لصالح كوسوفو المنتفضة ضدّ ما خَلُصَت إليه تحقيقات المحكمة العليا لدى الأمم المتحدة العام 2001، بـ “حملة الإرهاب الممنهجة التي تضمنت قتل واغتصاب وإشعال النيران وسوء المعاملة الشديدة” لألبان كوسوفو، وبقيت قوات حلف شمال الأطلسي حتى الساعة موجودة في كوسوفو بموجب اتفاق رسمي يهدف لحماية كوسوفو من أي إعتداء عليها من حكومة صربيا المركزية.
منذ تإعلان جمهورية كوسوفو والرفض الصربي الروسي
دخل قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في كوسوفو لحماية سكانها، دخل ذلك الإقليم الذي يتألّف من نحو مليون وثماني مئة مواطن، أغلبيتهم ألبان مسلمين، تحت إدارة أممية عبر بعثة أرسلها مجلس الأمن العام 1999. وبعد 9 سنوات، في فبراير العام 2008، أعلن الإقليم عبر برلمانه الاستقلال عن صربيا وقيام جمهورية كوسوفو التي اعترف بها كلّ دول العالم عدا روسيا والصين وصربيا، التي تحكم علاقتها بجمهورية كوسوفو إتفاقية بروكسل التي وُقّعت بين بريستينا عاصمة كوسوفو، وبلغراد عاصمة صربيا، بين العامين 2010 و2011 بعد محادثات برعاية أوروبية، ومواكبة أمريكية قضت إلى حلّ أمور لوجيستية عالقة بين البلدين من دون فضّ النزاع، حيث أنّ صربيا مستعدة لأيّ تنازل إلّا الاعتراف باستقلال جمهورية كوسوفو، في حين أنّ بريتسينا مستعدّة للتخلّي عن أيّ مطلب إلّا اعتراف صربيا باستقلالها، لاسيّما أنّ رفض الاعتراف الصربي يترافق مع رفض في الاتحاد الأوروبي بتبنّي قضية استقلال الإقليم.
إتفاقية بروكسل لم تنهِ تدخل صربيا بشؤون كوسوفو لاسيّما في منطقة الشمال، إذ تستمر محاولات بلغراد لإفشال حكمِ الدولة في كوسوفو، وقد شَهِد ذلك الملف في الفترة الأخيرة تطوراتٍ لافته بدأت مطلعَ شهر أغسطس بحملة إعلامية صربية روسية، زعزعت استقرار كوسوفو من باب دفع سكان المناطق الشمالية للوقوف في وجه القرار الحكومي القائم على استبدال لوحات أرقام السيارات الصربية، بأخرى صادرة من كوسوفو ومواجهة الشرطة، ما أدّى إلى إطلاق أعيرة نارية وحدوث توتّر أمني كبير دفع السلطات في كوسوفو إلى تأجيل تنفيذ القرار…. وبعد أقل من أسبوع على تلك الحادثة، تعرّضت شرطة حرس الحدود الكوسوفية مجدّداً لإطلاق نار أثناء قيامها بدورية قرب الحدود مع صربيا، وذلك بعد تصاعد التوترات العام 2021 مع نشر صربيا للمدرعات على حدود كوسوفو.
كوساري ليلا: لا مشكلة مع الصرب الذين يعيشون في كوسوفو
في السياق، أجرت “أخبار الآن” لقاء خاصاً مع النائبة في البرلمان الكوسوفي ميموزا كوساري ليلا (Mimoza Kusari Lila) التي شرحت خلفيات الاضطرابات الأمنية الأخيرة ووضعتها في خانة المحاولات الصربية المتكرّرة لإفشال الحكم في كوسوفو، والتي تأتي بدعم من روسيا التي تربطها بالسلطة الصربية علاقات ودّ وأجندة واحدة.
وقالت كوساري ليلا: “بعد إعلان الاستقلال العام 2008، أصبحت كوسوفو تملك مؤسسات سيّدة كلياً تحكم البلاد برمّتها، وكان الحوار الذي استُهل في بروكسل العام 2010 واستُكمل العام 2011، يهدف إلى مناقشة المسائل العالقة بعد نهاية الحرب في كوسوفو، إلّا أنّ صربيا استغلّت نفوذها وبعض البنى الموازية التي بقيت بالأغلب ناشطة في 4 بلديات في شمال البلاد”.
وأضافت: “هناك واقع لا جدل حوله، وهو أنّهم حاولوا ترك انطباع بأنّ الصرب في كوسوفو يعيشون تحت تهديد حكومة كوسوفو، لكن في الواقع فقط ما بين 20 و30 % أو أقل من 30 % من الصرب الذين يعيشون في كوسوفو، يعيشون في البلديات الأربعة الكائنة في شمال البلاد، أمّا الـ70 % المتبقين من الصرب، فيعيشون في باقي أنحاء البلاد من دون أيّ مشكلة لديهم في قبول صلاحيات سلطات كوسوفو المكرّسة في مؤسسات البلاد، كاستعمال الوثائق الرسمية وبطاقات الهوية ولوحات السيارات”.
وفي ذلك الصدد، وثَّق ناشطون من كوسوفو لـ “أخبار الآن” الحملة الروسية الصربية الممنهجة ضدّ الحكومة الكوسوفية في الأوّل من أغسطس الجاري، لحثّ الصرب في المناطق الشمالية على القيام بأعمال شغب تحول دون تطبيق الحكومة في كوسوفو صلاحياتها المنصوص عليها في القانون، وهي إجبار المواطنين على استخدام الأوراق الرسمية الكوسوفية لا تلك الصادرة عن بلغراد، وتبديل أرقام السيارات الصربية بأخرى صادرة عن السلطات الكوسوفية”.
وقد أشار الناشط الكوسوفي أدميريم (Admirim)، في حديثه لـ “أخبار الآن“، إلى الإجتماع الذي عقده مسؤولون صربيون رسميون لقاءات في كوسوفو عشية بدء تطبيق حكومة في بريستينا قراراتها الإدارية المرتبطة بأرقام السيارات، وكان هدف اللقاء حثّ الصرب في كوسوفو على الإنتفاضة على الحكومة، قطع الطرقات، والقيام بسلسلة أعمال شغب.
وفي وقت اجتاحت فيه مواقع التواصل الإجتماعي في كوسوفو مقالات تُسمي الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش (Aleksandar Vučić) بـ”بوتين الصغير”، كونه يتخذ من الرئيس الروسي قدوة ومثلاً له وينفذ أجندته في كوسوفو، أوقفت السلطات الكوسوفية ليل السبت الأحد) 6-7 أغسطس الصحافية الروسية داريا أسلاموفا (Daria Aslamova) التي دخلت كوسوفو من الحدود الصربية خلسةً، وذلك بتهمة التجسس لصالح المخابرات الروسية، وقال وزير الداخلية الكوسوفي هلال سفيكلا (Xhelal Sveçla) عبر صفحته على توتير: “في اليوم نفسه الذي تعرّضت فيه شرطتنا للهجوم من قبل العصابات الإجرامية، وبعد 6 أيّام فقط من أحداث يوم الأحد، تمّ اعتقال داريا أسلاموفا، وهي جاسوسة روسية مؤكّدة تشارك في الدعاية الحربية في أوكرانيا، وهي تحاول دخول كوسوفا من صربيا، وذلك دليل قاطع على تدخل روسيا في شمال كوسوفو”.
لسوء الحظ لم تتمكن صربيا من الإنفصال عن بوتين
من جهتها قالت النائبة كوساري ليلا لـ أخبار الآن: “لا مجال للجدل بأنّ العلاقات بين روسيا وصربيا لا تزال قويّة جدّاً، وأنّ الإيديولوجيا والإستلهام لم يتغيرا. لسوء الحظ لم تتمكن صربيا من الإنفصال عن بوتين ومقاربته وطريقة تنفيذه لأعماله مع الدول، سواء كانت دول مجاورة أو دول أخرى في الإتحاد الأوروبي”.
وأضافت: “صربيا دولة طرحت التعاون العسكري مع روسيا والصين وطوّرته، كما أنّها دولة حافظت على وثاقة علاقاتها ورحّبت بزيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إليها، حتّى لو لم تتمكن طائرته من النزول في صربيا منذ بضعة أشهر، ما يُظهر أنّ صربيا تؤيّد بالكامل سياسة الهجوم الروسي على بلد سيّد ومستقل مثل أوكرانيا”.
وأردفت بالقول: “من المؤكّد أنّ روسيا لطالما استعملت كوسوفو لمصالحها الداخلية حتّى لو كان الوضع مغايراً عن الهجوم الروسي على أوكرانيا، فقد طرح بوتين فكرة الاستقلال في كوسوفو محاولاً ربطها بمنطقتين أوكرانيتين غزتهما روسيا منذ بضع سنوات في ظلّ محاولتها توسيع دائرة غزوها في أوكرانيا، وبالتالي فإنّ سياسات الدولتين مترابطتان ولطالما كانت كوسوفو جزءاً من هذه السياسة وحاضرة في الخطابات السياسية في روسيا وبلغراد”.
وفي السياق، حديث بوتين عن كوسوفو أتى في بداية عمليته العسكرية في أوكرانيا، إذ قال معرض حديثه مع أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن اعتراف روسيا بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين عن أوكرانيا، معيداً إلى الأذهان اعتراف الأمم المتحدة بكوسوفو رغم عدم موافقة السلطات المركزية للدولة، أي صربيا هنا، بالإنفصال وذلك إنطلاقاً من حقّ تقرير المصير، معتبراً ذلك “سابقة قانونية” حصلت من قبل. وأضاف: “نحن عملنا الشيء نفسه تجاه جمهوريتي دونباس ولوغانسك، وبعدما قمنا بذلك توجهتا إلينا بطلب تقديم المساعدة العسكرية إليهما في التصدّي للدولة التي تخوض عملية عسكرية ضدّهما”.
وهنا ثارت ثائرة بلغراد على ذلك التصريح المخيب لآمال، فما كان من الرئاسة الروسية إلّا أنّ أرسلت بياناً تؤكّد فيه أنّ الرئيس بوتين لا يدعم استقلال كوسوفو ولا يعترف بها جمهورية مستقلة.
هل تغزو صربيا كوسوفو؟
مع ارتفاع التوتّرات بين كوسوفو وجارتها صربيا ووقوع حادثتين، تمّ التعرّض فيهما لقوّات الأمن الكوسوفية وذلك في أقل من أسبوع، ارتفعت الأصوات التي تحدَّثت عن إمكانية وقوع عدوان صربي على كوسوفو، لاسيّما في ظلّ التأهّب على الضفتين وغليان القارة الأوروبية على وقع الغزو الروسي لأوكرانيا.
في ذلك السياق، تقول كوساري ليلا: “أنا واثقة من أنّ صربيا كانت لتحاول اللجوء إلى إجراءات عدوانية حتى من قبل لولا الواقع الجديد في كوسوفو المتمثل بانتشار آلاف الجنود التابعين لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذين يعملون تحت إمرة قوات كوسوفو التابعة للناتو ( KFOR- KOSOVO FORCE). كما أنّنا بنينا مؤسساتنا مثل مؤسسة قوى الأمن والشرطة، وأعتقد أنّه لو كان الوضع مغايراً على الأرض، لربّما يمكنك أن تعوّل على حصول اعتداء من جانب صربيا، لكن الوضع اليوم مؤاتٍ لتعزيز السيادة في كوسوفو والسلام والاستقرار أيضاً”.
وتابعت: “لا بدّ أن تفهم صربيا بشكل نهائي أن دورها كجار معطّل للوضع في كوسوفو ودول أخرى في غرب البلقان يجب أن يتوقف إن كانت تطمح لدخول الإتحاد الأوروبي فإن قام أي بلد مرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بأعمال مماثلة ضد جيرانه، لا مكان له في الإتحاد الأوروبي، وعليها أن تفهم أنه لا مجال للعودة إلى الوراء ولا يمكنها أن تعوّل دوماً على تخريب الإستقرار في كوسوفو لمصلحتها الخاصة”. وأكملت قائلة “لسوء الحظ، هي لا تحاول زعزعة استقرار المؤسسات الكوسوفية فحسب بل هناك مشكلة في مقاربتها للجماعة الصربية التي تعيش في شمال كوسوفو، فمصلحتها ورفاهها لا يتوافقان مع مصلحة صربيا التي تستعمل الصرب الذين يعيشون في البلديات الشمالية كرهينة بيدها لأنها تريد الضغط باتجاه تنفيذ أجندتها من دون التفكير بتحسين ظروف معيشة الصرب في كوسوفو”.
أمّا على الخط المقابل، مازالت الحملة الإعلامية الصربية الروسية الممنهجة على كوسوفو بأوجها، وهي كانت بدأت من تصريحين الأوّل صربي من حزب الرئيس الكسندر فوتيتش يتمّ فيه التوعّد “بنزع النازية عن البلقان”، والذي يُعيد إلى الأذهان كلام الرئيس الروسي عن نزع النازية من أوكرانيا، والثاني روسي من وزارة الخارجية الروسية التي اتهمت كوسوفو بفرض قواعد تمييزية على المواطنين”.
وفي وقت أعلنت فيه رئيسة كوسوفو فيوسا عثماني (Vjosa Osmani) أنّ “بوتين يمكن أن يستخدم كوسوفو لتوسيع الصراع الحالي في أوكرانيا وزيادة زعزعة استقرار أوروبا”، يبقى منسوب الحذر في كوسوفو مرتفعاً جدّاً من أيّ عملية ضدّها أو محاولة لمدّ الصراع إلى أراضيها لجملة من الأسباب، أبرزها ارتباط الإستقرار على أراضيها بشكل مباشر بحلف شمال الأطلسي، الذي تسعى موسكو جاهدة لضرب إيجابية تواجده في القارة عموماً، وفي كوسوفو على وجه الخصوص، كما تسعى لوقف تمدّده. وذلك ما يستدعي الخوف بحسب مراقبين أوروبيين لاسيما أنّ الصراع الذي يخوضه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس فقط ضدّ أوكرانيا، بل ضدّ الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والغرب ككل.