بعد متلازمة طهران.. القاعدة إلي أين؟ الجزء الرابع
لعل من المثير التعرف على طبيعة الخلافات الداخلية العميقة بين كبار قادة تنظيم القاعدة، ونقاط الافتراق بينهم وبين التنظيمات الأخرى، ولكن الأمر الأكثر إثارة هو التعرف عن قرب على كيفية إدارة قادة التنظيم لهذه الخلافات السرية وأساليبهم في مقارعة الخصوم من رفقائهم، وكذلك طرق تحدي أوامر القيادة العامة للتنظيم في كبريات المسائل.
وهنا يبرز اسم سيف العدل (محمد صلاح الدين زيدان) كقائد عسكري مهم في القاعدة، يتمتع بروح متمردة داخل التنظيم رغم أنه استطاع التقرب من قادته بسرعة جعلته يتخطى الكثيرين وتولى القيادة العامة لفترة مؤقتة بعد مقتل مؤسس القاعدة، أسامة بن لادن، عام 2011، ثم أصبح الرجل الثاني في عهد خليفته أيمن الظواهري، وأبرز المرشحين لخلافة هذا الأخير بعد اغتياله في كابول في نهاية يوليو/ تموز 2022، لكن هل قنع سيف العدل بالموقع رقم “اثنين” خلال الأحد عشر عاماً الماضية؟ أم أنه كان يتآمر على سلطة الظواهري ويُضعف من شأنه ويُعد العدة لاستلام موقعه في الوقت المناسب؟
أبو الوليد.. الصهر والشريك والأب الروحي
بتتبع سلوكيات سيف العدل خلال عهدي قيادة بن لادن والظواهري يتضح أن الرجل كان يعمل منذ فترة طويلة على مشروعه بالتواطؤ مع صهره مصطفى حامد الشهير بأبي الوليد المصري، صاحب موقع “مافا السياسي”، ويستخدم هذه النافذة لتمرير أفكاره الخاصة والترويج لها، بالتعاون مع الصهر بليغ اللسان، والذي يُوصف ب”مؤرخ القاعدة”.
ويظهر من مقالات مصطفى حامد وسيف العدل على الموقع أن الرجلين يتعاونان وينسقان مع بعضهما البعض، لكن يبدو أن الحقيقة أكبر من ذلك بكثير، فهما يتواطآن وراء الكواليس ويوزعان الأدوار فيما بينهما، فيطلب سيف من حامد كتابة مقالات لنقد نهج قادة آخرين في القاعدة أو لدعم وجهات نظر معينة ثم يستخدم هذا الكلام لتقوية موقفه.
فرغم تأكيد الطرفين باستمرار على أنهما يسلكان طريقين منفصلين ويختلفان في وجهات النظر إلى حد بعيد، إلا أن بعض مقالات حامد تردد كلام سيف العدل، وينشر الأخير مقالاته مباشرةً على الموقع تحت اسم مستعار وهو “عابر سبيل“، وهذه المعلومة ليست رجمًا بالغيب بل إن الرجل نفسه عندما نشر كتاب “الصراع ورياح التغيير” على موقع مافا كَتَبَ على غلافه (جمع وترتيب عابر سبيل – سيف العدل- محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان).
يقول حسن أبو هنية، الباحث في شؤون الجماعات الجهادية، إنه بحكم الطبيعة الامنية لشخصية سيف العدل، فهو لايريد أن يحتمل نتائج كلامه وبالتالي يبث كتاباته بهذا الاسم، بمعنى أنت تعرف من كتبها لكنك أيضاً تستطيع أن تتنكر لها في أي لحظة ما ، وهذا هو النهج الذي يعمل به سيف العدل.
ويضيف في تصريحاته لـ “أخبار الآن” أن العلاقة بين سيف العدل ومصطفى حامد ليست مجرد قرابة على اعتبار أن سيف هو زوج ابنته إنما هناك ارتباط أيديولوجي، وهناك تأثير فكري لمصطفى حامد حتى إبان فترة الجهاد الأفغاني حتى لو لم يكن مندرج في إطار تنظيم القاعدة أو في حركة طالبان، فهو لا يزال مؤثراً في بناء تصورات أجيال متلاحقة.
ولدَى مراجعة الكتاب تظهر عدة ملاحظات جديرة بالتأمل؛ أولها عدم وجود أي مظاهر تبجيل للظواهري الذي تطل صورة صغيرة له على الغلاف الخلفي لكتاب واحد فقط من كتب سيف العدل وسط تسعة آخرين، بعكس بن لادن الذي يتصدر الغلاف الأمامي، ويبعث لروحه الشكر والثناء في المقدمة هو وآخرين من بينهم مصطفى حامد وليس من بينهم الظواهري، كما أنه في ثنايا الكتاب يطلق على الجيل الحالي من الأمة الإسلامية “جيل أسامة بن لادن”!! وكل هذه إشارات لا تخطئها العين موضوعة بعناية لتهميش الظواهري.
ولا تخطئ العين أيضاً أنه يهدف إلى نقل السلفية الجهادية إلى اتجاه جديد، حيث يقول حامد عن الجزء الثاني من الكتاب إنه يحتوي على نقاط “جديدة تماما على الفكر السلفي، بما يوحى بأن هناك أملا فى تطوير السلفية، وعلى الأخص السلفية الجهادية، لتسير على طريق جديد يأخذ الأمة إلى حال أفضل“، وهذا المديح من حامد لابد أن يثير الانتباه نظراً لأنه يتخذ موقفاً سلبياً معلنًا ضد جميع الاتجاهات السلفية والجهادية والعربية كلها باستثناء ما تقارب منها مع طهران تحديداً، فمثلاً في مقاله “مصر .. حوار ما قبل الزوال” يقول بمنتهى الوضوح إن “الاستثناء من بين مجاهدي التيار الشعبى العربى” حزب الله اللبناني والحوثي في اليمن، وحركة الشباب الصومالية والفصائل الفلسطينية التي تتلقى دعماً إيرانياً، أما الباقي فيخدمون مصالح إسرائيل!
وبالحديث عن الفصائل التي تتلقى الدعم من إيران، أجرت أخبار الآن مقابلة مع قوة دفاع شبوة بعد تطهيرهم محافظة شبوة النفطية من تنظيم القاعدة الإرهابي ومليشيات الحوثي وناقشت معهم جهود مكافحة الإرهاب في محافظة شبوة.
وبثت المقابلة على أخبار الآن بالتزامن مع إخماد الانقلاب العسكري ضد السلطة المحلية وقرارات مجلس القيادة الرئاسي في اليمن الذي نفذته قيادات عسكرية وأمنية تابعة لتنظيم الإخوان في محور عتق في شبوة والقوات الخاصة وقوات النجدة طيلة 3 أيام من الاشتباكات الدامية ظل المدنيون خلالها محاصرين داخل منازلهم التي تعرض الكثير منها لقصف عشوائي ما خلف عددًا من الضحايا بما فيهم الأطفال، حيث أطلق مجلس القيادة الرئاسي عملية عسكرية لإنهاء تمرد الإخوان ليتم فرض الأمن والاستقرار في المدينة المطلة على بحر العرب، وبعد السيطرة على معسكراتهم تم ضبط مشاركتهم في القتال مع الحوثيين الذين سلموا محافظة شبوة لتنظيم القاعدة في عدة مناطق ضد قوات الحكومة اليمنية الشرعية المعترف بها دوليًا لتحقيق أجندات طهران في اليمن وتقديمهم الدعم المالي والعسكري واللوجستي للحوثيين والقاعدة.
وأكد جلال حسن، القائد في دفاع شبوة، تعرض تنظيم القاعدة الارهابي الى انشقاقات عميقة في صفوفه باليمن بعد اكتشاف العناصر التي كانت تنضم إليه عمله لصالح جهات سياسية، وشدد على أن العمل على اخترق التنظيم بالجواسيس واستخدامه سياسيًا كان سببًا في القضاء عليه وأن ما يمر به التنظيم اليوم من اختراقات من أطراف عديدة يعني انتهاء التنظيم وضعفه وتفككه من الداخل، وأشار الى أن أبناء شبوة حاربوا التنظيم الارهابي بعد ان استهدفهم بشكل مباشر رغم اعلانه إنه يحارب جهات دولية خارجية، فكان بالنسبة لهم تنظيمًا أفعاله تخالف أقواله ولا يمت للدين بصلة .
ولا يكف حامد عن مهاجمة القاعدة بشتى السبل، ويُحمل قيادة التنظيم مسؤولية الفشل، ليَظهر سيف العدل في المقابل منافحًا عن منظمته بحمية وغيرة في وجه أبي الوليد، مع أن الأخير هو الذي ينشر كل هذه الردود والردود المضادة على موقعه الشخصي، وهو يروج لفكرة أن الولايات المتحدة توظف تنظيم القاعدة لخدمة أهدافها لأن قادته لا يفقهون كيف تدار السياسة الدولية، وبالتالي فإن التنظيم بحاجة لقائد مستنير يملك عقلاً استراتيجياً، وبالطبع لا يبدو في القاعدة من هو أكثر اهتماماً بهذا الجانب من سيف العدل الشهير بكتاباته في الأمور الاستراتيجية، فيظهر بصورة البطل الذي ترنو إليه الأبصار لإنقاذ التنظيم الذي مات دوره منذ أحداث 11 سبتمبر وأصبح “من الجثث التنظيمية الهائمة فى الحياة بلا فعالية، أو حتى بفاعلية سلبية على المسلمين أنفسهم” على حد وصف حامد في مقال “نحن ولعبة الشطرنج ـ النقلة الأولى“، وقد كتبه للرد على مقال سيف العدل “لسنا .. على رقعة الشطرنج ولسنا أحجار”، الذي كان يرد فيه على مقالات سابقة لخصمه المفترض، ويخاطبه فيها بلفظ “شيخي الحبيب”، ضمن مبارزات لغوية مثيرة تستقطب الأضواء ناحية هذا الثنائي المحترف.
التآمر ضد بن لادن
رغم ارتقاء مكانة سيف العدل في القاعدة إلا أن مؤسس التنظيم، أسامة بن لادن، كان يرى أنه لا يصلح لتولي القيادة العامة ولا أن يكون نائباً له، وصرح بذلك في رسالة وجهها لأحد مرؤوسيه عام 2010، نُشرت ضمن وثائق أبوت آباد التي عُثر عليها بحوزته عند اغتياله عام 2011.
ولم يكن رفض بن لادن لترقية سيف العدل بلا سبب، فبالرجوع إلى مراسلات الأخير مع أبي الوليد يتضح أنه كان يتخذه مرجعاً روحيًا واستراتيجيًا له، بدلًا من بن لادن، الذي كان عُرضة لتآمر هذا الثنائي، ومن الجدير بالاهتمام أن هذه العلاقة تم اكتشافها بسبب خطأ قاتل ارتكبه سيف العدل بنفسه.
فقد أرسل رسالة إلى أبي الوليد تحت عنوان “توقف تكتيكي (سياسي) ثم العودة إلى الصراع”، يطرح عليه فيها تساؤلات كثيرة عن عواقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، والتطورات المتوقعة في الساحة الدولية، ويقترح عليه تأليف كتاب للإجابة على هذه التساؤلات… ومن ضمنها سؤال عن وضع إيران على الساحة الدولية، وهل الخلاف بينها وبين والدول العربية طائفي بحت أم أنها أعدت خطة لمواجهة “التحدي الصليبي”، مما يؤكد إعجابه بالنموذج الإيراني واهتمامه الشديد به، وهو الشعور الذي أظهره أيضاً في كتابه السابق ذكره حيث أبدى انبهاره بالثورة الإيرانية، وقدم وصفاً مفصلاً لها ليس فقط كأحد نماذج الثورات، بل كتجربة شديدة المثالية و”حالة فريدة غافلت العالم ويصعب تكرارها”.
ما لم يخطط له سيف العدل ولا مصطفى حامد أن تنتشر الرسالة بالكامل للعلن بعد أن قام موقع النداء التابع للقاعدة على شبكة الإنترنت نشر الرسالة بكامل تفاصيلها في أبريل/نيسان 2002، وفي خاتمتها عبارة “لا تنس إبلاغ سلامي وقبلاتي لزوجتي وابنتك أسماء وأبنائي صفية ورقية وخالد وإيناس وعبد الله وقد اتخذت قراراً بمنحك فرصة نادرة وعظيمة بتقبيلهم نيابة عني“..
مما شكل صدمة للرجل “سيف العدل” حين عُثر عليها بالصدفة بعد ذلك على الموقع تحت تصنيف “البيانات”، فأرسل خطابًا في يونيو/حزيران 2002، إلى شخص يُدعى “مختار البلوشي” أو خالد شيخ محمد باعتباره القيادي الوحيد في القاعدة آنذاك الذي يتمتع بحرية الحركة ويوجه الهجمات الإرهابية في أنحاء العالم، موضحًا أنه كان يقصد إرسال رسالته السابقة إلى والد زوجته لتُسلم إلى يده مباشرةً وليس لتُنشر على الملأ بكل تفاصيلها ضمن بيانات التنظيم، وطلب حذفها فوراً من الموقع قائلاً بحزن وأسَى “أظن أن الأمة كلها الآن تعرف عدد أبنائي وأسمائهم ولا حول ولا قوة إلا بالله”، وقال لمختار “قف عن العمل الخارجي، وقف عن إرسال الناس إلى الأسر، وقف عن استحداث عمليات جديدة، سواء وصل بها أمر من أبي عبد الله (أي بن لادن) أم لم يصل”، في تحدى واضح لأوامر زعيم القاعدة.
وانتقد في الرسالة أسلوب إدارة أسامة بن لادن بلهجة تطفح بالحنق والمرارة لأنه تخطاه بسبب خلافه معه وأوكل تنفيذ العديد من الهجمات إلى “مختار البلوشي” أو خالد شيخ محمد قائلاً “المُعلم يراسلك مباشرةً -وهي للأسف عادته المطلقة التي لا يستطيع التخلي عنها إذا عارضه أحد مباشرةً يدفع آخر بكل قواه ليجتهد له متشبثا برأيه ضاربًا عرض الحائط بما حوله فلا شورى ولا يحزنون!! وما النتائج التي تراها إلا من هذا الباب المتعجل، وللأسف الشديد لو تكلمتُ قبل أن تحدث المصائب -وقد تكلمت- لعددت من الحاسدين، أما وقد أصبح الأمر واقعاً فإني قد أبرأتُ الذمة-“، ثم يصف سلوك قائد التنظيم بالاندفاع “بلا روية أو هوادة وكأنه لا يسمع الأخبار ولا يدرك الأحداث”، ويقول “إني مسطر رسالة لأبي عبد الله أنصحه فيها بأكثر مما قلت لك حتى تقف اندفاعته أيضاً في العمل الخارجي ولبحث الأمر بالشكل المناسب”.
وخلافاً لما يُظهره سيف العدل في مقالاته من دفاع عن منهج القاعدة في وجه الانتقادات، فإنه يُظهر في هذه الرسالة رأيه الحقيقي -الذي يتفق معه فيه أبو الوليد بالطبع- ويشير بوضوح تام إلى أن التنظيم يمضي “من منحدر إلى آخر ومن مصيبة إلى كارثة”، وأن مسار الجماعة سيجعلها “أضحوكة لكل أجهزة المخابرات في العالم”، وأن الأحداث تستدعي التوقف وإعادة تقييم الأمور بعد هجمات 11 سبتمبر واحتلال أفغانستان ويقول”يجب أن تتوقف عن العمل الخارجي تمامًا حتى نجلس وننظر أي كارثة فعلنا”.
وينتهز الفرصة فيلفت إلى أن “كثير من الإخوة أتقياء أنقياء.. لكنهم غير موفقين ..فليرضوا بقضاء الله ويكونوا عوناً لإخوانهم” أي أنه يطالب بتنحية القيادات المسؤولة عن تراجع التنظيم وسحب صلاحياتهم الإدارية، ثم يذكر أسماء بعض من يثق بهم لتولي مسؤولية مواقع هامة داخل التنظيم بدلاً من مسؤوليها الموجودين دون الرجوع إلى بن لادن وأخذ رأيه، مما يكشف عن شخصية متمردة واستعداد وتحفز لتحدي سلطة الأمير العام.
التآمر على الظواهري
بعد مقتل مؤسس القاعدة أسامة بن لادن في مايو/ أيار 2011، تولى سيف العدل قيادة التنظيم بصورة مؤقتة ثم تولى أيمن الظواهري، القيادة حتى اغتياله في يوليو/ تموز 2021، وطوال الأحد عشر عاماً لم يكف موقع “مافا السياسي” عن اغتيال شخصية الظواهري بطريقة عنيفة، واستمرت هذه الحرب المعنوية حتى حادثة مقتله، وحينها فقط تغيرت اللهجة في الحديث عن أمير القاعدة الراحل وتحسنت صورته في كتابات حامد؛ فلم يعد غَرضًا لهجماته البلاغية بعد أن رحل وترك مقعد القيادة شاغراً أمام سيف العدل، وتوقف الهجوم الحاد على الرجل.
لم تكن شخصية الظواهري تملأ عين سيف العدل، برغم أنه هو الذي سلمه القيادة بنفسه عام 2011 بصفته نائب بن لادن، لكن سيف العدل رأى نفسه قريباً جداً من احتمال تولي قيادة القاعدة، فهو رئيس استخبارات التنظيم، كما تم تخفيف القيود على حركته في إيران في عام 2010، بعد احتجاز دام لسنوات، وكأنه كان يتم تجهيزه حينها لمهمة ما، لكن القواعد التنظيمية لم تسمح له بتخطي الظواهري، فسلم له الراية، لكنه عمل في السنوات اللاحقة على توطيد نفوذه الشخصي وأدار كثيراً من الأمور دون الرجوع إلى القيادة العامة مستغلاً ضعف وضعها وصعوبة التواصل معها بسبب المحاذير الأمنية، وكثيرا ما تصرف كقائد فعلي للتنظيم.
وبحسب الدكتور كمال حبيب، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، فإن سيف العدل يعتبر آخر الجيل التاريخي لتنظيم القاعدة، لذلك يحظى بمكانة مهمة ويتم الحديث عن ترشيحه ليكون خليفة للظواهري، وبالرغم من أن تاريخ ميلاده لا يزال محل غموض سواء كان مواليد سنة 1960 أم 1963، لكن سواء كان ذلك أم لا فهو آخر ما أطلق عليه “الجيل الأول من تنظيم القاعدة” جيل الخمسينات وأوائل الستينات.
وقد قوي موقف سيف العدل بعد أن نال حريته الكاملة عام 2015، ورغم ذلك ظل في إيران ومن هناك أشرف على توجيه فروع القاعدة في الخارج، بينما كان الظواهري هائمًا على وجهه يسير متخفيًا بين القبائل في الدروب والأودية النائية، أما أبو الوليد فمنذ عاد إلى إيران عام 2016، وأعاد تنشيط موقعه الإلكتروني، سخّر وقته للحط من الظواهري وانتقاد أوضاع التنظيم في ظل قيادته، فظهر من بعيد وكأنه يعادي القاعدة، لكن اتضح أن ذلك تبسيط مُخل يفتقر للدقة والتمحيص، وأن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.
وبحكم تجربته وفترته في إيران، كشف مفتي القاعدة السابق أبو حفص الموريتاني في مقابلة حصرية لأخبار الآن تم عرضها في ديسمبر ٢٠١٣ عن أسباب حرص إيران على استضافة قيادات القاعدة على أراضيها.
تعليق مفتى القاعدة السابق أبو حفص الموريتاني في لقاء حصري سابق مع أخبار الآن في ديسمبر ٢٠١٣
ففي مقابل مهاجمة القاعدة وذم الظواهري يشيد أبو الوليد باستمرار في كتاباته بسيف العدل ويُظهره وكأنه الأمل الوحيد المتبقي للقاعدة، مما يعزز صورته ومكانته، ففي القصص التي يسردها أبو الوليد على موقعه في سلسلة “ذات يوم” التوثيقية، نجد بطلاً رئيسياً واحداً هو سيف العدل بينما ينال الآخرين الغمز واللمز والازدراء بداية من بن لادن وحتى القادة الآخرين.
وبحسب الدكتورة دلال محمود، الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى جامعة القاهرة، في تصريحاتها ل”أخبار الآن” فإن أبو الوليد يرى أن ضعف تنظيم القاعدة يأتي من ضعف قيادته، وبالتالي فإنه يساند سيف العدل عبر موقع مافا السياسي لأنه يرى فيه الرجل المنشود لتطبيق أفكاره، وذلك لقناعته الشخصية به وبقدرته على إحياء القاعدة من جديد.
وفي سياق مسلسل التلميع المتبادل، يستشهد سيف العدل في كتاباته بكتب صهره كمرجع له، فمثلا خلال تعريفه لأحد المصطلحات يورد تعريفات المفكرين العالميين له ويضع بجانبهم وجهة نظر صهره في هذا المصطلح، وكأنه أحد أقطاب الفكر العالمي، وهكذا.
وكما اتضح في واقعة الرسالة المسربة التي نُشرت بالخطأ على موقع النداء، فإن سيف العدل قد يطلب من صهره الكتابة في موضوع معين لدعم موقفه وتقوية حجته في مواجهة كبار قادة القاعدة، فحين كان يطالب بوقف شن الهجمات في أعقاب أحداث 11 سبتمبر وغزو أفغانستان من أجل إعادة تقييم الأمور في ظل ذلك الوضع، طلب من أبي الوليد تأليف كتاب لتقييم الوضع آنذاك، وتبعاً لعملية التمرير هذه يستطيع سيف العدل استخدام موقع مافا لتمرير أفكاره التي لا يريد دفع ضريبة الجهر بها داخل التنظيم، ولم يجد أبو الوليد غضاضة في ذلك بل عمل جاهداً لتمكين زوج ابنته من الاستيلاء على إرث أسامة بن لادن، واغتيال سمعة الآخرين، وعلى رأسهم الظواهري.
ويمكننا الاستشهاد على ذلك بالمقال الذي نشره على موقعه في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2021 ، بعنوان “موقف السلفية العربية.. من الإمارة الإسلامية“، وفيه وجه أقوى ضرباته للجناح المؤيد لأيمن الظواهري داخل القاعدة، تحت مسمى “السلفية العربية” معتبراً أنهم يمثلون مدرسة الإسلام الصهيوني الذي ابتدعه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز، وأنهم تحالفوا مع الأنظمة العربية وحلف الناتو وإسرائيل ضد إيران، بدليل أنه منذ الإعلان عن عقيدة بيريز لم يفترق مسار النشاط الجهادي السلفي بعيدا عن مصالح إسرائيل، وأن الجهاد السلفي في سوريا تحت شعار إقامة دولة السنة لم يؤد إلا إلى الخراب، وكذلك فشلت القاعدة تحت قيادة الظواهري في كل مكان وهُزمت نتيجة تخلي الشعوب الإسلامية عنها وتحالفها مع اليهود.
ورد عليه القيادي المقرب من التنظيم، هاني السباعي، مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن، في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2021، بكلمة صوتية نارية، اتهمه فيها بأنه “كذاب مجروح لا يجوز الاستماع إليه ولا كرامة له من الناحية العلمية.. وإن مات على ذلك فهو مفتري كذاب وموال لأعداء الإسلام”، وأنه يختار جماعة معينة ويشيطنها لكنه في الحقيقة يعادي جميع الجماعات والدول السنية، قائلاً إنه “من خلال المجاورة مع الروافض (الشيعة) وفي إيران وعلاقاته مع الإيرانيين واطلاعه عليهم عن قرب، واضح أنه أصابته لوثة الرفض والترفض وأصابته لوثة العجب بحزب اللات وبالحوثيين وصار يدافع عنهم” وهذا الكلام يمس سيف العدل أيضاً نظراً لإقامته مع أبي الوليد في طهران طويلاً.
“مزور كذاب” هجوم حاد من هاني السباعي على مصطفى حامد بسبب كتاباته ضد السنة كما يرى السباعي
والملاحظ هنا أنه كما ينفي أبو الوليد ارتباطه بالقاعدة فإن السباعي ينفي عن نفسه هذا الارتباط أيضاً، ولذلك بدا هذا الاشتباك بين الرجلين بمثابة مواجهة غير رسمية بين جناحي القاعدة، دون أن يظهر أي من رموز الجناحين بشكل مباشر في الصورة، فالسباعي يؤكد عدم انتمائه للتنظيم ولكنه يدافع عن الظواهري بشراسة ويهاجم بقوة دعاة التقارب مع إيران المقربين من سيف العدل، ويدرك خطورة كتابات أبي الوليد على مستقبل القاعدة، معتبراً أنه يخلط بين آرائه وبين الحقائق التاريخية.
ويقول السباعي إن مصطفى حامد “يروي الرواية حسب هواه هو وحسب ما يريد هو فطبعا بسبب معاصرتنا لهذه الأحداث نستطيع أن نميز ولكن من يأتي ربما من الشبيبة أو الأجيال قد تختلط عليه الأمور .. عندما تقرأ كلامه في كتاباته المتعددة تجد أنها عبارة عن تشويه متعمد لهذا التيار الإسلامي والحركات الإسلامية السنية بصفة خاصة دائما يقلل منها ودائما يشيطنها دائما يسفه منها، أما الآخرون فهم أصحاب الفكر وأصحاب حروب العصابات والاستراتيجيات ويقصد بهم حزب اللات والجماعات الشيعية وإيران وهي المشروع الحقيقي، وكل هؤلاء هم ضد هذه البلد التي تكافح الصهيوصليبية وكل هذه الأسطوانة المشروخة يرددها كما تشعر وكأنك تستمع إلى آية من آيات ملالي قُم وليس لصحفي مسلم سني”.
وفي سياق رده على تهمة تحالف أهل السنة مع إسرائيل ضد الشيعة، استشهد السباعي بمذكرات دافيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء لإسرائيل، الذي رأى الاستعانة بالأقليات الدينية كالشيعة لحماية دولة الاحتلال، كما أشار السباعي إلى أن حزب الله اللبناني المرتبط بإيران يحمي شمال إسرائيل من المقاومة ويعتقل أي شخص يحاول أن يطلق رصاصة على الاحتلال، بينما تعيث ميليشيات إيران فسادا وقتلا في سوريا وقتلت وشردت ملايين البشر، وأنها هي التي تسببت فى خراب سوريا وليست القاعدة.
ويمكن اعتبار كلام هاني السباعي الرد غير الرسمي لجماعة الظواهري على أبي الوليد وصهره أيضاً، لذا كان من المفيد عرضه بشئ من التفصيل، وإلقاء الضوء على مدى عمق الانقسامات داخل التنظيم، ومعرفة موقف قطاع مهم من القاعدة من التوجه الإيراني لمصطفى حامد، ومن ورائه سيف العدل.
ومن جانبه يؤكد الدكتور عمرو عبد المنعم الباحث المتخصص فى شئون الحركات الإسلامية والجماعات المتشددة، في تصريحاته لـ”أخبار الآن” أن وجود سيف العدل في إيران طيلة الفترة الطويلة الماضية يعكس وجود توافق بينه وبين الإيرانيين بدرجة كبيرة، وهم لا مانع لديهم من توظيف المختلفين معهم عقائديًا لخدمة مشروعهم”.
وكان مفتي القاعدة الأسبق أبو حفص الموريتاني، في لقاء حصري لأخبار الآن عرض في ديسمبر 2013، قد أوضح طبيعة الإقامة في إيران تحت رقابة الأجهزة الأمنية والعلاقة المباشرة مع كبار المسؤولين.
لقاء حصري سابق لأخبار الآن في ديسمبر ٢٠١٣ مع مفتي القاعدة السابق أبو حفص الموريتاني يوضح كيف يكون الوضع في إيران تحت رقابة الدولة والمسؤولين الأمنيين
ويشير الدكتور عمرو عبد المنعم إلى أنه بخلاف سيف العدل فإن أغلب رموز تنظيم الجهاد الذين انضموا إلى القاعدة فيما بعد حددوا موقفهم مبكراً من طهران، واتخذوا منها موقفاً سلبياً منذ الثمانينات حين زار محمد الصاوي القيادي في التنظيم إيران في حدود عام 1987 تقريباً والتقى بعلي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة حاليا، وكان رئيساً للجمهورية وقتها، وشمل برنامج الرحلة زيارة الحوزة العلمية والمراقد المقدسة في المذهب الشيعي، بالإضافة إلى جلسات للمناقشة في المسائل المذهبية وسبل التقريب بين السنة والشيعة، ولما عاد رفع تقريرا إلى تنظيم الجهاد يحذر فيه من أن الإيرانيين يسعون إلى تصدير المذهب وليس فقط تصدير الثورة، ويشكلون تهديداً لهوية التنظيمات الإسلامية الجهادية، وأوصى بعدم التعاون مع إيران حتى ولو سبيل قضية عادلة مثل تحرير فلسطين.
وكان القيادي بالقاعدة أبو الخير المصري أرسل إلى مصطفى حامد عام 2009 رسالة طويلة تصل إلى 22 صفحة -عُثر عليها في وثائق أبوت آباد-، اتهمه فيها بأنه بوق للتسويق لآراء الحرس الثوري الإيراني، وأبدى فيها استنكاره لهجومه العنيف المتواصل على القاعدة، ووصف كيف رأى مجلس شورى التنظيم أن كتاباته تضم تفاصيل ليس لها أي صلة لها بالواقع، وأنهم قد “هالهم حجم التزوير وقلب الحقائق وتبني النظرية الإيرانية في تفسير الأحداث” بشكل جعل أبا الخير يستفسر في رسالته عمن يكتب هذا الكلام الذي يُنشر باسم حامد قائلاً “كان من الصعب علي وبقية الإخوة أن نقف صامتين بينما تذبح الحقيقة ويزور التاريخ .. أشك في نسبة الكتاب إليك”.
وأضاف “لقد تبنى الكتاب وجهة نظر المخابرات الإيرانية تماما”، وشرح له تناقضاته تفصيلياً وذكر مواضعها في كتبه بأرقام الصفحات، وذكر أمثلة لآراءه المختلفة في الموضوع الواحد حسب ذكره في كل موضع؛ فمثلاً عند ذكره لهجمات 11 سبتمبر، تارة يشكك في تورط القاعدة بها، وتارة يؤكد أنها نفذتها باستدراج وتخطيط من الولايات المتحدة، وتارة يذكر أن الدور الأمريكي تمثل في تسهيل عمل المهاجمين لمركز التجارة العالمي، كما أنه تارة يقول إن واشنطن كانت تحرص على عدم المساس ببن لادن وتتجنب استهداف الأماكن التي يوجد بها، ثم يرجع فيقول في موضع آخر إن الأمريكيين حاولوا قتله مراراً وفشلوا، وضرب أبو الخير أمثلة على عدم دقة وقائع ميدانية ذكرها أبو الوليد في كتبه، ، مبيناً أنه اكتفى بترديد الروايات الإيرانية بترديد الروايات الإيرانية للوقائع حتى لو كانت غير منطقية، كما اتهمه باختلاق قصص مأساوية مؤثرة عن أهوال الجهاد في أفغانستان وهي لم تحدث بتاتًا، ووصف وقائع مُحرفة تخص قادة القاعدة ولقاءاته معهم.
واعتبر أبو الخير أن الهدف النهائي لتلك الأكاذيب اغتيال قادة القاعدة معنوياً وتلميع الجهات المرتبطة بطهران وخدمة المشروع الإيراني، وقال له إن جوهر الكتاب هو الهجوم على “القاعدة وأميرها الشيخ أسامة ومن على شاكلتهم من المجاهدين.. ولم يسلم من هذا الهجوم الكاسح إلا قلة من الإخوة الأوزبك والطاجيك الذين شفعت لهم علاقتهم بك وبالجمهورية الإسلامية على ما يبدو فسلموا من هذا الهجوم الكاسح بل نالوا نصيباً وافراً من الإطراء والمديح!! وما تضمنه الكتاب أمور أخرى هي في الحقيقة سيقت لخدمة هذا الهدف”.
ومع ذلك فإن حامد رد على أبي الخير رداً لم يسلم منه مجلس شورى القاعدة وانتقد كامل التنظيم بعنف، ولما تسربت الرسالة لاحقاً نشر رده عليها على موقعه في سلسلة مقالات تتكون من سبع حلقات بعنوان “الرد المفقود من تسريبات أبوت آباد”، عدد فيها أخطاء بن لادن وكرر المطالبة بمحاكمته هو ومن معه من القادة وتوقيع الجزاء عليهم، وأصر على اتهاماته السابقة بحقهم، وقال إن أول موضوع رئيسي يتمحور كلامه حوله هو مسؤولية بن لادن عن “إشعال حرب أدت إلى سقوط الإمارة الإسلامية واحتلال أفغانستان“، وبأنه كان “يقرر لنفسه ما يريد، ولا يبالى بأي مشورة تأتيه من داخل أو خارج التنظيم أو الجماعة إلا بمقدار أن يجد منها ما يؤيد قراراته. ولذلك كان يكثر من المشورة عسى أن يجد شيئا يؤيد رأيه وليس من أجل تصويب ذلك الرأي أو تعديله. وأنه حتى ولو قبِل مشورة ما فإنه يطبقها بمفهومة الخاص ورؤيته الذاتية التى غالبا ما تأخذها بعيدا جدا عن المحتوى الأصلي للنصيحة أو الاقتراح“.
وقال حامد إنه بايع أمير طالبان، الملا عمر حتى يقنع بن لادن ومن حوله بأن ذلك ممكنا، لأنهم كانوا يشكون فى قبول البيعة من غير الأفغان، ووصف بن لادن بأنه كان فى غاية التردد في المبايعة، وبعد محاولات طويلة مضنية أوكل مصطفى حامد ليبايع الملا عمر نيابة عنه، ثم لم يلتزم بهذه البيعة، فاتخذ قرار شن هجمات 11 سبتمبر في مخالفة صريحة لأمر الملا عمر، مما أدى إلى إشعال حرب ضروس كان لها أوخم العواقب على المسلمين وبالأخص شعب أفغانستان، وبالتالي يتحمل مسؤولية عن “سقوط الإمارة الإسلامية، وتحكم الكافرين والمنافقين فى أفغانستان. ومصرع عشرات الألوف من الأفغان. ومآسى لا تحصى للعرب والمسلمين الذين لجأوا لتلك الإمارة الإسلامية”، بينما كان ترخيص الملا عمر لبن لادن يقتصر على ضرب إسرائيل فقط وليس الولايات المتحدة لأن ذلك خارج قدرته.
واتهم مؤسس القاعدة بأنه أشعل حرباً لتحرير السعودية بدماء الأفغان، وأن الشعب الأفغاني تحمل ضريبة هجمات القاعدة بينما كان الشعب السعودى ينعم برغد العيش، جازماً بأن “الأرضية السلفية النجدية.. غير مناسبة لتوجيه عمل جهادى حقيقى فإن الإنتكاسات الكبرى توالت فى كل الميادين التى اقتحمها هؤلاء. وذلك أمر مشهود ولا يحتاج إلى دليل.
وعلى قمة الفشل والكوارث كانت تجربة الأخ أبوعبد الله (بن لادن) فى أفغانستان حيث أدى عمله إلى ما هو معروف من انهيار الإمارة الإسلامية وضياع أفغانستان، ومن قبل كانت تجربة الأخ خطاب فى الشيشان التى أدت إلى سقوط الشيشان مرة أخرى تحت الإحتلال الروسي المباشر”، واستدل حامد من ذلك على صحة ثاني القضايا الرئيسية التي ركز عليها في سلسلة مقالاته، وهي أن “المنهج السلفى أثبت عجزه وخطورته فى آن واحد إذا ما تصدى لقيادة العمل الجهادى”، و”أن طبيعة أتباع المنهج السلفى تجعلهم غير قادرين على ترتيب الأولويات بالنسبة لأى مشكلة أو صراع”، أي أنه يرى بصراحة ووضوح أن الحل في تخليهم عن مذهبهم، أو على الأقل التخلي عن الالتزام بثوابته.
وفي نفس المقال يمتدح حزب الله اللبناني المدعوم من طهران ويعتبره نموذجاً يُحتذى، وذلك من أجل التوصل إلى استنتاج نهائي مفاده ضرورة العمل مع إيران وميليشياتها وخدمة مشروعها بحجة توحيد جناحي الأمة، رغم أنه يعترف بمشاركة إيران في التآمر ضد حركة طالبان بأفغانستان إلا أنه يقول إن ذلك كان خطأ من محمد خاتمي، الرئيس الإيراني وقتها !! ويصف “تعاونه على ضرب أفغانستان والعراق” مع جيوش الولايات المتحدة بأنه خيانة “أقل ضرراً” من أخطاء القاعدة، أما بن لادن فلا يصلح لأي مواقع قيادية من أي نوع، فهو مجرد ثري خليجي يملك الكثير من المال وطيبة القلب ولا يملك أي قدرة على فهم التخطيط الاستراتيجي.
كما حمل حامد في نفس المقال القاعدة وبن لادن مسؤولية ما حدث للعائلات العربية في أفغانستان حيث لم يقم بعملية إجلاء العائلات إلا في قلب الحرب وتحت جحيم القصف رغم علمه السابق بتوقيت الهجمات ونية واشنطن شن الحرب، فدفعت عائلات الجهاديين ثمن فشل قادة القاعدة في إجلاء النساء والأطفال قبل غزو الولايات المتحدة لأفغانستان عقب أحداث 11 سبتمبر.
هل ينصب حامد نفسه متحدثاً باسم طالبان؟
وبعكس موقفه من القاعدة، نصب حامد نفسه كمستشار لطالبان، ومتحدثاً غير رسمي باسم الحركة، فهو ينشر سلسلة مقالات في مجلة الصمود التابعة لها منذ سنوات طويلة، يؤرخ فيها لسيرة جلال الدين حقاني، والد وزير الداخلية الحالي في أفغانستان، سراج الدين حقاني، ويحكي فيها عن لقاءاته معه خلال فترة الغزو السوفيتي وما بعدها، ويستمد من هذه المشاركات غطاءً يسمح له بمهاجمة القاعدة بحجة الدفاع عن طالبان، التي يعمل معها ويستغل جريدتها كمنبر له، مما يعطي انطباعاً بأن الطالبان يوافقون ضمنيًا على مواقفه، وأنه يعلن صراحةً وبصوت عالٍ ما يُحجمون عن قوله، وهو رفض وجود القاعدة على أراضيهم، خاصةً وأن طالبان لم تستنكر أو تنتقد هجمات حامد الشرسة ضد القاعدة، ولم تظهر عناية بتبرئة ساحة القاعدة من وزر مخالفة أوامر الملا عمر في مسألة هجمات 11 سبتمبر.
لكن القيادي المقرب من القاعدة، هاني السباعي، ينكر تمثيل حامد لآراء حركة طالبان بالرغم من تحذيره من تأثير كتاباته بشكل سلبي على نظرة الحركة إلى القاعدة، ففي تسجيله الصوتي السابق ذكره يقول السباعي، إن حامد بأنه يتخذ من طالبان شماعة ليعلق عليها ويصفي حساباته مع السلفيين والجهاديين، فبزعم الدفاع عن الحركة يسعى للوقيعة بينها وبين حلفائها وأنصارها من جهاديي القاعدة، وإيغار صدور قادة الحركة عليهم.
وينفي السباعي ولاء حامد لطالبان مشيراً إلى أنه تابع للنظام الإيراني ولو وقعت حرب بين الطرفين لانحاز للثانية بعد أن تشرب الولاء لطهران، مستدلا بأن الإيرانيين يحرضون على طالبان في الخفاء والعلن ويشتمونهم ويسيئون إليهم، ويحاولون الاعتداء عليهم عبر الحدود، ولا يحرك مصطفى حامد ساكناً أمام كل هذا ويتجاهله كأنه لا يراه تمامًا، لكنه لا يمل من تحميل القاعدة وزر مخالفة أمر زعيم طالبان منذ أكثر من عشرين عاماً.
والملاحظ في كتابات حامد عن القاعدة أنه يركز على إثارة نقاط الافتراق والاختلاف بينهما وبين طالبان باستمرار؛ فالطرفان اللذان تعاونا ضد عدو مشترك سابقاً، تفصل بينهما خلافات منهجية عديدة، فالبيئة الدينية التي نبعت منها الحركة هي بيئة المدارس الديوبندية في باكستان، حيث تتلمذ فيها عناصرها واكتسبوا تسميتهم منها؛ ف”طالبان” هم “طلبة” تلك المدارس الذين أصبحوا حكام أفغانستان اليوم، ودرسوا هناك المذهب الحنفي في الفقه، والمذهب الماتريدي في العقيدة، وتأثروا بدرجات متفاوتة بالطرق الصوفية المختلفة، على عكس الجهاديين القادمين من التيار الإسلامي في البلاد العربية، فأغلبهم جاء من بيئات سلفية العقيدة، ترفض الفكر الصوفي، وترجع لمدارس فقهية مختلفة أبرزها المذهب الحنبلي، وهو مذهب ارتبط تاريخياً بالسلفية منذ تأسيسه على يد الإمام أحمد بن حنبل.
وكان أبرز منظري القاعدة، أبو مصعب السوري، قد أوجز انتقادات التنظيم لطالبان في كتابه «أفغانستان وطالبان ومعركة الإسلام»، ومن أهم الاختلافات المنهجية التي ذكرها «انتشار الصوفية» بين أبناء الحركة، و«التعصب للمذهب الحنفي»، واعتقاد جانب من علماء الحركة بـ«تفسيق وتبديع (أبو الأعلى) المودودي، وكذلك سيد قطب وحسن البنا»، وهذا كله مما تخالفهم فيه السلفية الجهادية، لكن الطرفين قررا منذ البداية التغاضي عن هذه الخلافات والتعاون فيما اتفقوا فيه وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه، ولذا يثير مصطفى حامد مسألة عداء السلفية للمذاهب السنية التقليدية ويقصد بها تحديداً الخلافات الفقهية بين الجهاديين العرب وعناصر طالبان من قبائل البشتون أكبر المجموعات السكانية في أفغانستان ومنطقة القبائل في باكستان، لأنه يعلم أن هذه القضية تعد إحدى أهم نقاط ضعف العلاقة بين الطرفين، لذلك يستهدفها بشكل مقصود بهدف العمل على فك الارتباط بين الطرفين، وبذلك تصبح إيران الملجأ الأول والأخير للقاعدة.
كما أن حامد بطريقته الماكرة يُحمل القاعدة مسؤولية الهجمات الدامية لداعش خراسان في أفغانستان منذ تولي طالبان الحكم والتي استهدفت قادة الحركة، مستغلاً التشابه النسبي منهجيًا وحركيًا بين القاعدة وداعش، لتذكير حركة طالبان بأن أيديولوجية القاعدة أكثر شبهًا بداعش خراسان، منها لطالبان.
وفي هذه النقطة يقول عمرو فاروق، الكاتب والباحث فى شئون الإسلام السياسي، إن طالبان كحركة محلية ليس لها طموح جهادي عالمي تختلف تماماً عن كلا من القاعدة وداعش، فكلا منهما تنظيم عالمي عابر للجنسيات ولا تتقيد حركته بحدود الدول.
ويضيف في تصريحاته لـ”أخبار الآن” أن هناك رؤية داخل حركة طالبان ترى في وجود القاعدة في أفغانستان منافس محتمل على النفوذ داخل الدولة وترى ضرورة التخلص من القاعدة وداعش معًا، بينما هناك رأي آخر داخل الحركة يرى في عناصر القاعدة ظهيرا في مواجهة تحدي تنظيم داعش نظراً لمعرفتهم بهذا التنظيم عن قرب وما يملكونه من خبرات في التعامل معه، بالإضافة لتشابه طبيعة عمل التنظيمين، على عكس طالبان التي تتكون من أبناء القبائل المحلية.
وتمثل مسألة وجود القاعدة في أفغانستان إحدى أكثر القضايا حساسية بالنسبة لطالبان، فالحركة تدرك صعوبة حصولها على الاعتراف الدولي، والدعم الاقتصادي، في ظل تشكك العالم في مصداقية تخليها عن تنظيم القاعدة وفقاً لاتفاقية الدوحة المبرمة مع الولايات المتحدة، وفي هذا يقول الدكتور عمرو عبد المنعم الباحث المتخصص فى شئون الحركات الاسلامية والجماعات المتشددة، في تصريحاته لـ”أخبار الآن” إن هناك قطاعاً من حركة طالبان يرفض إيواء تنظيم القاعدة في أفغانستان تماماً، في مقابل أجنحة أخرى منها جناح حقاني لا تزال وفية للعلاقة القديمة مع التنظيم، وأن القطاع الرافض لوجود عناصر القاعدة يرى فيهم عبئا لا يجب على دولتهم تحمله في هذه المرحلة الحرجة، وقد تبلور هذا الموقف بعد أحداث 11 سبتمبر التي جرت الجيوش الأجنبية إلى أفغانستان، ومنذ ذلك الحين رأى الكثيرون داخل الحركة عدم وجود مبرر لاستضافة القاعدة وتحمل مسؤولية تصرفاتها.
لقاء حصري سابق لأخبار الآن مع مفتي القاعدة السابق أبو حفص الموريتاني في ديسمبر ٢٠١٣
ويبدو أن الخيار العملي المتبقي أمام أعضاء القاعدة هو قبول حقيقة أن طالبان اليوم ليست كما كانت بالأمس؛ فالظروف تغيرت والتجارب السابقة علمتها دروساً مهمة حُفرت في ذاكرتها بالنار والدم؛ فقد تعهدت في مفاوضات الدوحة بأنها لن تسمح أبدًا باستخدام الأراضي الأفغانية كمنطلق للهجوم على أي دولة، وبالتالي فإن القاعدة لم يعد مرحباً بنشاطها في أفغانستان، فأي هجمات تتورط بها سترتد في نحر طالبان وتستعديها ضدها، كما أن توقف القاعدة عن شن الهجمات يعني انتهاء دور التنظيم وفقدانه مبرر وجوده، وأياً ما يكن الأمر فإن تجربة القاعدة الطويلة انتهت إلى فشل ذريع ولم تستطع أن تقدم نموذجاً يُحتذى لأتباعها ومتابعي تجربتها، بينما أدى نهج طالبان كحركة محلية اقتصرت طموحاتها على حدود دولتها إلى نجاح كبير يخصم من رصيد القاعدة وأشباهها.
يمكن رصد محاولات تَخفُّف طالبان من عبء القاعدة، في سلوكها في مسألة البيعة؛ فبعد بضعة أسابيع من تولّي هبة الله أخوند زاده زعامة طالبان بايعه الظواهري في رسالة نشرت في يونيو/ حزيران 2016، لكن الذي حدث هو أن أخوند زادة لم يعلن قبول هذه البيعة، ولم يصدر من طالبان ما يدل على قبولها بعد ذلك، بل صدر منها عكس ذلك على لسان الناطق باسم الحركة، سهيل شاهين، في إجابته على سؤال “أخبار الآن”، حول بيعة الظواهري لأخوند زاده، فقال بالحرف الواحد “كلا، لا وجود لأيّ بيعة، من قال إنّ هناك بيعة؟ ليس هناك من أيّ بيعة، هذه إحدى المزاعم التي يطلقونها ويستخدمونها لدعم أهدافهم، ولكن في الحقيقة ليس هناك من بيعة”.
وهذا الموقف المعلن يمثل صفعة لتنظيم القاعدة، وبغض النظر عن مدى مصداقية تخلي الحركة الأفغانية عن التنظيم فإنها فعلياً أعلنت رفع غطاء الشرعية عنه علناً، فطالبان المنشغلة بتحقيق طموحاتها السياسية الكبيرة تنظر بوضوح إلى القاعدة كمصدر للمتاعب.
وقد تطرقت “أخبار الآن” في تغطية سابقة لهذا الأمر وناقشت قضية البيعة مع “مزمجر الشام” صاحب الحساب الشهير على موقع “تويتر” الذي يُعرف نفسه بأنه “صوت شامي من التيار الجهادي” ويتخصص في كشف كواليس الجهاديين، حيث أكد أن اسم القاعدة صار عبئاً ثقيلاً على أي جماعة، وبعد إثارة القضية في هذه التغطية أجرى مزمجر الشام حوارا آخر مع موقع “جهاديكا”، وهو مدونة أمريكية تركز على الحركات الجهادية، في سبتمبر/أيلول 2021، أكد فيه على أن زعيم طالبان، هبة الله أخوند زاده، رفض قبول بيعة الظواهري، لكنه لم يقدم تفاصيل واضحة حول هذه المسألة ورفض الكشف عن مزيد من المعلومات.
ولا يَخفى مدى أهمية وخطورة هذا الأمر إذا تم تأكيده علنًا بشكل رسمي، فمن المنتظر أن يؤدي هذا إلى إنهاء حالة الضبابية المتعمدة التي تحيط بها حركة طالبان هذا الملف الحساس، فحتى الآن لم يؤكد أي مصدر جهادي آخر هذا الأمر بشكل واضح، لكن مزمجر الشام جزم منذ العام الماضي بأن أفغانستان لن تشهد نشاطاً ملموسًا للقاعدة، ولن تكون وجهة لتجمع عناصر التنظيم حول العالم كما كان في السابق، وهذا يعزز القول بأن أيام الالتزام الطالباني الصارم تجاه القاعدة قد ولت، ففي ضوء التهديد الكبير الذي يمثله وجود كل من تنظيمي القاعدة وداعش -مع الفارق بين الحالتين- على أفغانستان واستقرارها، فإن مستقبل وجود حركة طالبان في السلطة ومدى نجاحها في المحافظة عليها يظل مرهونًا بدرجة كبيرة بما تحرزه من تقدم في ملف التخلص من وجود هذه التنظيمات على أرضها، بينما تفتح طهران ذراعيها للتنظيم المطرود والمُطارد، والذي تُؤوي عدداً من قياداته منذ أكثر من عقدين من الزمان، ولم تغزها جيوش الغرب لتعقبهم، ولا وجدت نفسها يومًا مضطرة للتعهد للعالم بالتخلي عنهم.
وبذلك يتضح عمق المؤامرة التي يشترك فيها سيف العدل مع صهره بهدف اختطاف تنظيم القاعدة وتولية وجهه شطر طهران، وهي مؤامرة ترجع لعقدين من الزمان على الأقل كما اتضح من الوثائق والمراسلات المذكورة، يقوم فيها سيف العدل بدور البطولة ويضطلع أبو الوليد بدور المرشد الروحي والفكري له، ومما ساهم في تعبيد الطريق أمام هذا الثنائي، غياب القيادات التاريخية للتنظيم بعد أن تمت تصفيتهم تباعاً بينما بقي بطلا المؤامرة في أمن وأمان في ضيافة الحرس الثوري الإيراني لمتابعة مشروعهما بعيداً عن الملاحقة والترصد.