هتافات ضد الحرس الثوري الإيراني وخامنئي
- المرشد الأعلى للثورة في إيران هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الإيرانية بفرعيها
- شهد عام 1999 أول تدخل علني للحرس الثوري في السياسة في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي
في خضم أحداث الاحتجاج الشعبي ضد النظام الإيراني عقب مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني، هتف المتظاهرون ضد قوات الحرس الثوري وهاجموا مقراته، فيما ترددت دعوات ومناشدات لقوات الجيش “الأرتش” بالانحياز إلى الحركة الاحتجاجية ونصرة جانب المتظاهرين، وجاء أبرز هذه الدعوات على لسان ولي عهد إيران السابق، رضا بهلوي، في 24 سبتمبر/أيلول، حين طالب الجيش الإيراني بالتخلي عن النظام، قائلاً: “الذين أقسموا بالدفاع عن الأرض والشعب يجب أن يلتزموا بهذا القسم”، مردفًا “عدونا الداخلي يطلق النار على المواطنين.. أنتم عليكم- وانطلاقا من وظيفتكم- أن تكونوا درعًا للشعب الإيراني الأعزل”.
وبالرغم من إصدار الأرتش بيانًا ضد الاحتجاجات وصفها فيه بأنها جزء من “استراتيجية خبيثة للعدو هدفها إضعاف النظام الإسلامي”، لكنه ظل الجهة التي يعول عليها قطاع من الشعب لتغيير النظام على عكس موقفهم من قوات الحرس الثوري برغم كون الجهتين يعملان معاً ضمن هيكل القوات المسلحة.
ولا يمكن فهم هذا الموقف من دون إدراك تكوين ودور كل من الجهتين وفهم طبيعة العلاقة بينهما، ففي أي بلد يعد الجيش هو الجهة المكلفة بالدفاع عن الدولة والتي تحتكر السلاح الثقيل، أما في إيران فهناك جيشان أحدهما تقليدي والآخر عقائدي.
وفي العقد الخامس من عمر الجمهورية، لا يزال الجيشان الإيرانيان في حالة من المنافسة، طبقاً لما أراده مهندسو النظام الذي يتكون من هيكل معقد يقوم على إبقاء مكامن القوة في يد المرشد ومنع أي جهة من امتلاك قوة تستطيع أن تخلخل توازن النظام، وإبقاء الاختلالات بين القوى المختلفة وجعل درجة قوة الولاء للنظام هي معيار التفاضل والترجيح بينها.
حراس الثورة
قرر مؤسس الجمهورية الإيرانية، روح الله الخميني، تأسيس قوات الحرس الثوري الإسلامي (IRGC) في أبريل/نيسان 1979 بموجب مرسوم وكلفه بحماية النظام الجديد بعد الثورة، على الرغم من أن القوات المسلحة الإيرانية أعلنت حيادها في فبراير/شباط، لكن الثوار خافوا من وقوع انقلاب مضاد كما حدث عام 1953، حين شارك قادة عسكريون في مؤامرة أمريكية أطاحت برئيس الوزراء، محمد مصدق، وأعادت الشاه، محمد رضا بهلوي، إلى الحكم.
وقاوم الحرس الثوري الإيراني محاولات إدخاله في حظيرة الجيش النظامي، ولذا توترت العلاقة بينه وبين أول رئيس للجمهورية، أبو الحسن بني صدر، مما أدى إلى عزل الأخير وفراره عام 1981، وعلى عكس نهجه سار خليفتاه، الرئيسان محمد علي رجائي، وعلي خامنئي.
و أدت مشاركة الحرس الثوري الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) إلى توسع دوره وقوته، وفي عام 1985، أنشأ الخميني سلاحي القوات الجوية، والبحرية، وبعد تولي علي خامنئي منصب المرشد الأعلى عام 1989، تزايدت قوة الحرس وتوسع نفوذه في كافة المجالات فمثلاً كان جميع وزراء الدفاع من 1979 إلى 1989، جنرالات بالجيش، ولكن في عهد خامنئي تغير الوضع وأصبح الحرس يتولون هذا المنصب.
وشهد عام 1999 أول تدخل علني للحرس في السياسة في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997-2005)، حين اندلعت مظاهرات الطلبة ضد النظام، فأصدر 24 قائدًا في الحرس على عريضة إنذار للرئيس، حذروه فيها من أنهم سيقمعوا المتظاهرين إذا لم تقم الحكومة بالتدخل وطالبوه بعدم المضي قدمًا في طريقه الإصلاحي، وسادت حينها الخشية من انقلاب محتمل يقوده الحرس.
وخلال فترة رئاسة الحرسي السابق، محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، تضخم نفوذ الحرس وحصل على عقود حكومية بمليارات الدولارات، وعُيِّن قادته المتقاعدين في مناصب حكومية عليا، وعند تجديد انتخاب نجاد لولاية ثانية عام 2009، اندلعت احتجاجات الحركة الخضراء ضد مزاعم وقوع تزوير في نتائج التصويت، وتم إطلاق أيدي الحرس في قمع الحركة، وقد أصدر خامنئي قراراً بإنشاء وكالة استخبارات تابعة للحرس الثوري لتقوية نفوذه.
وعلى عكس الحكومة السابقة برئاسة حسن روحاني (2013-2021)، الذي حاول إبعاد الحرس الثوري عن السياسة قدر الإمكان دون جدوى، يقبع اليوم قادة الحرس السابقون في مناصب حساسة، فنظرا إلى أن رئيس الجمهورية الحالي، إبراهيم رئيسي، رجل قضاء لم يبن لنفسه تياراً مواليًا داخل السلطة، فإنه يعتمد على الحرس ويَعدُّهم عشيرته المقربين، ففي حكومته الحالية يتولى رجال الحرس أهم المناصب؛ مثل محسن رضائي، نائب الرئيس للشؤون الاقتصادية، وكذلك إسماعيل الخطيب، وزير المخابرات، ورستم قاسمي، وزير الطرق والتنمية العمرانية، وأحمد وحيدي، وزير الداخلية، وعزت الله ضرغامي، وزير السياحة والتراث الثقافي.
ولا تقتصر مؤسسة الحرس الثوري على القوات العسكرية فقط، بل تضم أفرعًا وشبكات مصالح ونفوذ، فهناك قوات الباسيج، المعنية بالتعبئة الشعبية وقمع المظاهرات، ومنها يأتي أعضاء شرطة الأخلاق المتهمون بقتل مهسا أميني، وهناك أيضاً فيلق القدس الذراع الخارجية للحرس، والمسؤول عن متابعة عمل الميليشيات الشيعية في سوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها، كما أن للحرس إمبراطوريته الاقتصادية والإعلامية الضخمة، وتتبع له معاهد تعليمية ومؤسسات كثيرة موزعة على أفرعه المختلفة؛ فقد تم رصد 54 شركة تتبع مباشرة لـقوات الباسيج.
وتشرف وحدة خاتم الأنبياء على القطاع الاقتصادي للحرس، وقد بدأ العمل في هذا المجال في أواخر الثمانينيات، في مرحلة إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وقد أشاد إبراهيم رئيسي بتدخل الحرس في الأمور غير العسكرية قبل أن يصبح رئيساً، ففي آذار / مارس 2021 ، عندما كان رئيس القضاء الوطني، قال “برع الحرس الثوري الإيراني في كل المجالات التي دخلها، بما في ذلك الأمن والدفاع والخدمات والبناء على الصعيدين الدولي والمحلي”.
ويتحكم فيلق القدس بالسياسة الخارجية الإيرانية بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فوزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، كان يشكو من خضوع النشاط الدبلوماسي لخدمة أهداف الحرس.
كما أن قدامى المحاربين في الحرس يخدم الكثير منهم اليوم كبرلمانيين ومسؤولين مدنيين، في ظل تشكيك البعض أصلاً في إمكانية إطلاق وصف “حرسي سابق” على ضباط الحرس الثوري المتقاعدين، على اعتبار أن هذه القوات عقائدية تقوم على اختيار من يدينون بالولاء للنظام وأيديولوجيته، وبالتالي فإن من ينتقل منهم من المجال العسكري للمدني لا يعد خارجاً عن نطاق عمل هذه المؤسسة ولا يصح وصفه بأنه عضو “سابق” بالحرس الثوري.
وقد اتخذت واشنطن في عام 2019، إجراءً غير مسبوق ضد جيش أي دولة في العالم؛ إذ صنفت وزارة الخارجية الأمريكية، قوات الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، وكانت تلك إحدى عوائق عودة طهران إلى الاتفاق النووي.
لكن بسبب اعتماد الحرس على التجنيد الإجباري، قررت الولايات المتحدة في يونيو/حزيران من العام الجاري، إلغاء الحظر المفروض علی تأشيرات الدخول للمجندين “إجبارًا” في الحرس والذين لم يكن لديهم خيار بشأن الفرع العسكري الذي سينضمون إليه لأداء الخدمة العسكرية، وبذلك أتيح لهم من جديد فرصة السفر إلى الولايات المتحدة.
الأرتش المهمش
يعد المرشد الأعلى للثورة في إيران القائد الأعلى للقوات المسلحة الإيرانية بفرعيها: الجيش (artesh)، والحرس الثوري (IRGC)، ويقود الفرعين رئيس أركان القوات المسلحة، ويعينه المرشد الأعلى، ومنذ عام 2016، يشغل الجنرال محمد حسين باقري هذا المنصب، وهو حرسي متشدد، كان من بين 24 من قادة الحرس الذين بعثوا تحذيراً إلى خاتمي عام 1999.
ووفقًا للمادة 143 من الدستور الإيراني، فإن الجيش “مسؤول عن حراسة استقلال البلاد وسلامة أراضيها، فضلاً عن نظام الجمهورية الإسلامية”، بينما تنص المادة 150 على أن دور الحرس هو حراسة الثورة وإنجازاتها والتعاون الأخوي مع أفرع القوات المسلحة الأخرى، فمهمة الجيش الدفاع عن حدود البلاد، ويختص الحرس الثوري بحماية النظام باعتباره جيشاً عقائديًا، لكن هناك مساحة من التداخل المقصود بين عمل الجهتين.
ويتولى الجيش مهمة حراسة الحدود، بينما ينتشر الحرس في المناطق المحيطة بإيران ضمن تحالف يضم ميليشيات إرهابية تنشر الفوضى في المنطقة، وبناء على اختلاف طبيعة عمل الجهتين نجد أن البحرية النظامية تتابع عمل الدوريات في أعالي البحار، بينما تضايق زوارق البحرية السريعة التابعة للحرس، البحرية الأمريكية في الخليج العربي، وتتحرش بالملاحة الدولية، وتعمل القوات الجوية التقليدية في سماء إيران معتمدة على معدات قديمة بعضها يرجع إلى زمن الشاه، بينما تشارك القوة الجوفضائية للحرس الثوري في تطوير المشروع الصاروخي الذي يثير القلق حول العالم.
وفي ظل النظام السابق، كان الجيش الإمبراطوري الإيراني أحد أفضل الجيوش تجهيزًا في المنطقة، وعلى الرغم من إعلان الجيش في 11 فبراير 1979 الحياد تجاه الثورة، شك القادة الثوريون في بقائه على ولائه للملك المنفي، محمد رضا بهلوي، لذلك تعرض لعملية تطهير وحشية في أعقاب الثورة مباشرة، لكن الخميني عارض دعوات حل الجيش الذي أصبح مواليًا له، وسار في مسارين متوازيين: تهميش الجيش، ومحاولة أدلجته.
ومنح النظامُ الحرسَ الثوري معاملة تفضيلية بسبب طابعه المسيس، على عكس الجيش المحترف الأكبر عددًا، وبسبب اعتماد النخبة الحاكمة في طهران على دعم الحرس في مواجهة المعارضة السياسية، فإنها تستجيب لرغباته، ومن ناحية أخرى يحظى الجيش -البعيد عن السياسة- باهتمام أقل.
ظل الجيشين في حالة تنافس دائم، وتشي التصريحات المتكررة عن التعاون بين الطرفين، بأن هناك محاولة للتغطية على الخلافات بينهما، فليس من المعتاد مثلاً أن تصدر تصريحات تؤكد وجود تعاون وتناغم وعدم وجود خلافات بين أفرع الجيش التقليدي لأن ذلك بديهي، بينما تسود حالة من التذمر المكتوم لدى الجيش بسبب تهميشه.
وكان مساعد قائد الجيش الإيراني للشؤون التنسيقية، الأدميرال حبيب الله سياري، وجه خلال مقابلة أجريت معه في 31 مايو / أيار 2020، انتقادات غير مسبوقة للحرس الثوري لتدخله في الشؤون السياسية والاقتصادية، وأعرب عن استيائه من تجاهل أنشطة الجيش، في وسائل الإعلام الرسمية.
وقال سياري إن الجيش يحترم القانون ولا يتدخل في السياسة ولا الاقتصاد، مضيفًا “هل يعني هذا أننا لا نفهم في السياسة؟ لا أبدًا، نحن نفهم السياسة جيدًا ونحللها جيدًا، لكننا لا نتدخل فيها لأن التسييس ضار ومدمر للقوات المسلحة”.
وتساءل عن سبب تركيز الدعاية الحكومية على إبراز تضحيات الحرس الثوري خلال الحرب العراقية-الإيرانية، وتجاهلها لتضحيات الجيش الذي يظهر ضباطه في السينما الإيرانية الخاضعة للرقابة الحكومية، بصورة متعالية وكوميدية على عكس الحرس.
وقد أجريت المقابلة بناء على طلب الجيش وتم تسجيلها في استوديو تابع له وتحت إشرافه، لكن بعد ساعات قليلة، حذفت وكالة الأنباء الحكومية الإيرانية “إرنا”، المقابلة، وتحدثت تقارير صحافية عن استجواب صحفيي الوكالة من جانب مخابرات الحرس الثوري، ونفى المتحدث باسم الحرس، وقوع ذلك.
وأثارت المقابلة جدلا كبيرا أظهر تعاطف الرأي العام مع الجيش، فاضطر إلى إصدار بيان في 2 يونيو / حزيران، يزعم أن المقابلة مجتزأة ومنتزعة من سياقها، مشدداً على وحدة الجيش والحرس وأن العلاقة بينهما غير قابلة للكسر، لكن حسابات مقربة من الحرس الثوري على تطبيق تيليجرام وموقع تويتر، شنت حملة على السياري تتهمه بالخيانة وتلقي تمويلاً أجنبياً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن وسائل الإعلام الإيرانية غالبًا ما تصور الحرس على أنه المنتصر في الحرب ضد العراق، في تجاهل تام للجيش، وتتفنن سينما الدفاع المقدس -مكتب الدعاية الحربية سابقًا- في تلميع صورة الحرس والتقليل من هيبة الجيش الذي لم يعد سوى ظل لما كان عليه قبل الثورة رغم كبر عدد قواته نسبيًا.
وبالنظر إلى تهميش الجيش، وأنه لم يتورط على نطاق واسع لقمع الاحتجاجات، فإن ذلك قد يجعله أكثر عرضة للانشقاق في حال نشره ضد المتظاهرين، إلا أن ذلك الاحتمال مازال يبدو غير مرجح، وعلى العكس من ذلك لا يبدو هذا السيناريو واردًا أصلاً بالنسبة للحرس الثوري الذي سيكون أكبر الخاسرين في حالة تغيير النظام بسبب ارتباط مصالحه به.