تنظيم القاعدة يواجه “الموت الإكلينيكي”
حينما كان تنظيم القاعدة يُعاني لإيجاد ملاذ آمن له بعد طرده من أفغانستان في أعقاب الغزو الأمريكي عام 2001، نفذت الجماعة الإسلامية في إندونيسيا المرتبطة به، هجماتٍ إرهابيةٍ داميةٍ في جزيرة بالي السياحية، موقعةً مئات القتلى والجرحى، بيد أن الهجمات التي حاول التنظيم استغلال زخمها لم تخدم مصالحه، في نهاية المطاف، بل عمقت الهوة التي سقط فيها التنظيم والذي بات يُعاني “الموت الإكلينيكي” في الذكرى العشرين لهجمات بالي.
ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2002، شن أعضاء بالجماعة الإسلامية الإندونيسية المرتبطة بتنظيم القاعدة هجمات إرهابية ضد ملهى ليلى في منطقة كوتا السياحية بجزيرة بالي، كما فجرت العناصر المحسوبة على القاعدة عبوةً ناسفةً أمام القنصلية الأمريكية بالجزيرة دون وقوع إصابات.
وجاءت تلك الهجمات، استجابة لدعوات وتوجيهات تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن بشن هجمات ضد مصالح ومواطني الولايات المتحدة والدول الغربية وغيرها التي انخرطت في حرب القاعدة، خصوصًا بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، إذ تبنى التنظيم نظرية انقسام العالم إلى معسكرين (فسطاطين بتعبير بن لادن)، أحدهما يضم التنظيم وأتباعه المرتبطين به والآخر يضم الدول والجهات التي تُشارك في حربه.
واندفع التنظيم نحو تنفيذ أي هجمات إرهابية، كهجمات بالي وغيرها، ليحاول إثبات أنه ما زال موجودًا ولم ينهزم متجاهلًا أن تلك الهجمات أدت إلى سقوط العديد من الشبكات التنظيمية له وتلقي التنظيم ضربات قوية للغاية، لكنه مع ذلك ظل يتظاهر أمام أنصاره وفي الإعلام بأنه قادر على شن هجمات كبرى على غرار 11 سبتمبر، وأن الأجهزة التنظيمية العسكرية والأمنية والإعلامية للقاعدة تعمل وفق خطط سرية دقيقة لا يمكن كشفها لاستهداف المصالح الأمريكية والغربية، على حد تعبير سليمان أبو غيث، المتحدث باسم التنظيم وصهر زعيمه أسامة بن لادن، في تصريحات له قبل أقل من أسبوع على تنفيذ هجمات بالي عام 2002.
وأتت تلك التصريحات في وقت عانى التنظيم فيه من الانكسار وعجز عن القيام بهجمات كبرى ضد المصالح الأمريكية وتسرب اليأس إلى صفوف قادته وعناصره، وفق تعبير قيادي بارز بالقاعدة يحمل الاسم الحركي “أسد”، في رسالة لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن قبل شهر واحد من هجمات بالي 2002، مردفًا أن القاعدة تسبب في إنهاء برامج العديد من الجماعات الإسلامية حول العالم وتفريق صفوفها، كما أدى إلى القبض على العديد من كوادر التنظيم وأصبح أمراء القاعدة يتبادلون الاتهامات بينهم حول أسباب الفشل محاولين التبرؤ من أخطائهم التي أودت بأتباعهم.
وتكشف رسالة أخرى أرسلها سيف العدل (محمد صلاح الدين زيدان)، رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة سابقًا ونائب أمير التنظيم حاليًا، إلى خالد شيخ محمد، رئيس اللجنة العسكرية قبل سيف العدل ورئيس اللجنة الإعلامية بالتنظيم سابقًا، أن توجيهات أسامة بن لادن بشن أي هجمات خارجية ليتظاهر التنظيم من خلالها أنه بقي قادرًا على شن هجمات إرهابية والتي لم تراعِ واقع التنظيم الخارجي أدت إلى سقوط وانكشاف مجموعات شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا.. إلخ)، ثم أوروبا، ثم أمريكا، ثم القرن الإفريقي وغيرها، مضيفًا أن حتى الأفراد الذين تحركوا من تلقاء أنفسهم لشن هجمات استجابةً لدعوات القاعدة جرى القبض عليهم، وبالتالي فيجب وقف العمليات الخارجية تمامًا لأنها تضر التنظيم أكثر مما تنفعه، على حد قوله.
هجمات بالي وتآكل تنظيم القاعدة
وفي نفس السياق، أدى تنفيذ مجموعات تابعة للجماعة الإسلامية بإندونيسيا والمرتبطة بتنظيم القاعدة لهجمات بالي إلى انخراط الدول الإقليمية في حرب القاعدة بصورة أكبر وبدعم دولي، فإندونيسيا، على سبيل المثال، أنشأت “المفرزة الخاصة لمكافحة الإرهاب 88 (Detasemen Khusus 88 Antiteror) واضطلعت تلك الوحدة التي دعمتها الولايات المتحدة وإستراليا، (وكلاهما من الدول التي قُتل العشرات من مواطنيها في هجمات بالي 2001)، بمهام مواجهة الجماعة الإسلامية الإندونيسية وتفكيك الخلايا المرتبطة بالقاعدة، ونجحت بالفعل في تصفية قادة وعناصر بارزين بالجماعة والقبض على آخرين منهم المسؤول العسكري لها إبان هجمات بالي 2022، “أريس سومارسونو” والشهير بـ”ذو القرنين”
وواجهت الجماعة الإسلامية والمجموعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في شرق آسيا حملة ضغط كبيرة في إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة، بالتوازي مع حالة الضعف والانزواء التي اعترت التنظيم وقيادته العليا وعلى رأسها أسامة بن لادن الذي قبع في مخبأه بآبوت آباد الباكستانية واكتفى بإرسال ونشر رسائل لأتباع القاعدة حول الاستمرار في العمل الجهادي وشن الهجمات الإرهابية، على حد تعبيره.
وفشل التنظيم في إعادة بناء شبكاته في شرق آسيا، مع أنه واصل التحريض على شن هجمات إرهابية في تلك المنطقة، ونتيجة استمرار ملاحقة عناصره وأنصاره شرق آسيا، اضطر عمر باتيك صانع القنابل التي استُخدمت في هجمات بالي إلى الهرب من إندونيسيا والتوجه نحو جنوب آسيا حيث قُبض عليه، عام 2020، في بلدة آبوت آباد والتي كانت في ما مضى مقرًا لاختباء أسامة بن لادن.
وخلال السنوات العشرين التي تلت هجمات بالي، ألقت أجهزة الأمن الإندونيسية القبض على 2300 شخص (من أنصار القاعدة وغيره) بتهم تتعلق بالإرهاب، منهم 228 شخص في عام 2020 و370 آخرين في عام 2021، وفقًا لبيانات مركز دراسات التطرف واجتثاث التطرف، وأدى عمليات المواجهة إلى تحييد عدد كبير من نشطاء وأنصار القاعدة وغيره من التنظيمات الإرهابية كداعش ومن ثم تراجعت الهجمات الإرهابية التي شهدتها إندونيسيا.
وأثبتت الأحداث التي شهدتها منطقة شرق آسيا، خلال تلك الفترة، أن تنظيم القاعدة والذي ضعف بشكل واضح منذ 11 سبتمبر 2001، أصبح مجوفًا من الداخل وتآكل بفعل ضعفه الذاتي واستمرار عمليات مكافحة الإرهاب التي شنتها القوات الأمنية وفي مقدمتها المفرزة الخاصة Detasemen Khusus 88 Antiteror، علاوة على حدوث حالة من التشظي والانقسام في إطار الحالة الجهادية القديمة التي مثلها تنظيم القاعدة بعد بروز تنظيم داعش كمنافس وخصم لدود للتنظيم الأول في قيادة الحركة الجهادية المعولمة.
فمع حدوث الشقاق الجهادي بين القاعدة وداعش، عام 2014، ثم انشقاق الأخير عن القاعدة وإعلانه للخلافة المكانية في مناطق سيطر عليها داخل سوريا والعراق، تحولت غالبية المجموعات الجهادية المرتبطة بالقاعدة في شرق آسيا إلى تأييد داعش، خاصةً أن الأخير نجح في اجتذاب مجموعات جهادية كبيرة في المنطقة وأعلن ولاية مكانية في مدينة مراوي (جزيرة ميندناو بالفلبين)، عام 2017، واجتذبت تلك الولاية المئات من المقاتليين المحليين في شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا والفلبين.. إلخ)، والعشرات من المقاتلين الأجانب، قبل أن ينهزم داعش أيضًا ويُطرد من المدينة بعد أشهر من القتال.
وجاء التمدد الداعشي إلى شرق آسيا على حساب تنظيم القاعدة الذي عانى بشكل من التراجع والانحسار في شرق آسيا، منذ هجمات بالي 2002، وحاول أمير القاعدة (السابق) أيمن الظواهري، قبيل مقتله، أن يعيد تنظيمه إلى الواجهة من جديد واجتذاب أنصار له في شرق آسيا وخارجها عن طريق إعادة تقديم مشروع القاعدة في صورة جديدة ضمن ما سماه “معركة الدعوة” غير أن محاولات أمير القاعدة الراحل برهنت على أن التنظيم أصبح خارج الزمن ومنفصلًا عن الواقع وغير قادر على أن يُفارق حالة الموت الإكلنيكي إلى حالة الفاعلية من جديد.
باحث: تهديد القاعدة في شرق آسيا تراجع
ومن جهته، يقول علي رجب، الصحفي والباحث المصري المتخصص في التطرف، إن نشاط تنظيم القاعدة والجماعة الإسلامية المرتبطة به تراجع بشكل واضح، منذ هجمات بالي عام 2002، ولم يبق منه سوى خلايا متناثرة تحاول البقاء والتكييف في ظل حملة مكافحة الإرهاب التي تقوم بها المفرزة 88 لمكافحة الإرهاب في إندونيسيا، وبالتالي فإن عودتها إلى حالتها السابقة تبقى أمرًا بعيدًا في الوقت الحالي.
ويُعلل “رجب” تراجع تنظيم القاعدة والجماعة الإسلامية الإندونيسية إلى جملة من الأسباب منها تراجع جاذبية النموذج الذي يروجانه حول الخلافة العالمية في ظل الانتكاسات التي عانيا منها، بجانب نجاح عمليات نزع التطرف والراديكالية والتي أطلقتها إندونيسيا وغيرها من دول شرق آسيا ضمن برامج متخصصة لإعادة تأهيل ودمج المتطرفين.
ويضيف الصحفي والباحث المصري المتخصص في التطرف أنه من الأسباب الهامة التي أدت إلى تراجع الجماعة الإسلامية في إندونيسيا وتنظيم القاعدة في شرق آسيا ككل، هو حدوث سلسلة من الانشقاقات في صفوفهما لصالح تنظيم داعش الذي اجتذب المئات من أنصار القاعدة في المنطقة، وقدم نموذجًا عمليًا على فكرة الولاية أو الإمارة المكانية التي كان يحلم بها الجهاديون.
وأضاف علي رجب قائلا أن نموذج داعش فشل أيضًا وطُرد التنظيم من معاقله الرئيسية التي سيطر عليها في الفلبين لكنه استمر في نشاطه الإرهابي بعد الهزائم التي تلقاها هناك، وأعلن قبل أشهر تأسيس ما سماه بـ”ولاية شرق آسيا” والتي هي في الحقيقة مجرد تسمية دعائية يُغازل بها أنصاره ليجتذب مقاتلين جدد كما كان يفعل القاعدة ليُغطي على فشله وهزائمه.