زحف صيني واستغلال لموارد واقتصاد العراق
منذ أواخر عام 2011، سعى العراق إلى استئناف استخراج وتصدير النفط، لتعويض الخسائر المادية والاقتصادية التي لحقت بالبلاد جراء الغزو الأمريكي (2003-2011)، يأتي ذلك بعد مغادرة القوات الأمريكية للأراضي العراقية، حينها فتحت الحكومة العراقية المجال أمام الشركات النفطية العالمية للاستثمار في قطاع النفط والطاقة، إلا أن الوضع الأمني في العراق لم يكن مهيئًا لعودة المستثمرين، خاصةً مع سيطرة المليشيات المسلحة التابعة لإيران على مناطق حقول النفط والغاز في البلاد، بالإضافة إلى سيطرة تنظيم داعش على معظم الأراضي العراقية في وقت لاحق.
وفي مطلع 2018، عقب القضاء على داعش، كان لزامًا على بغداد توفير البيئة الآمنة لعودة الإستثمار تحديدًا في المجال النفطي، حيث تُشكل عائدات النفط 85% من الموازنة العامة للبلد، حينها كانت الحكومة العراقية أمام تحدي إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وفي أوقات متفاوتة من العام ذاته، بدأت بعض الشركات تستأنف أعمالها في العراق، خصوصًا بعض الشركات العالمية التي عادت من جديد للعمل في القطاعات النفطية.
ومع عودة الاستثمارات الأجنبية في مجال النفط والطاقة إلى العراق، استغلت الشركات النفطية المملوكة للحكومة الصينية التسهيلات التي قدمتها بغداد للمستثمرين، خاصة أن الصين تُعد أكبر مشتر للنفط العراقي، الأمر الذي جعل الحكومة العراقية تقدم الكثير من التسهيلات لدخول شركات صينية للعمل على تطوير الحقول، إضافةً إلى استخراج وتصدير النفط، حيث استحوذت شركة سينوبك على معظم عقود تطوير حقول النفط والغاز في البلاد.
حيث سلمت وزارة النفط العراقية حقل المنصورية الغازي إلى شركة سينوبك الصينية، بعقد مشاركة لمدة 25 عامًا قابلًا للتمديد، يتيح للشركة الصينية تحصيل 49% من أرباح الحقل، وهو ما يراه نبيل المرسومي هيمنة صينية على حقول النفط والغاز.
لم تمر إلا أشهر قليلة حتى أصبحت الشركات الصينية هي المتحكم الأول بقطاع إنتاج النفط في العراق، بعد أن بدأت بشراء حصص شركات النفط الأخرى، مستغلةً التعقيدات والإجراءات الحكومية التي كانت تواجه الشركات الغربية، بالإضافة إلى الظروف الأمنية والتهديدات التي جعلت بعض الشركات تُجلي موظفيها من العراق، وتبحث عن مشتر لحصتها، وقد بلغت عدد الشركات الصينية العاملة في القطاع النفطي بالعراق 20 شركة حتى مطلع 2022.
إزاحة وإحلال
خلال عامي 2019 – 2020، وُجهت تهديدات أمنية للمهندسين الأجانب، وتعرضت مقرات شركات النفط الغربية لأكثر من حادثة إعتداء مسلح، كان أولها في منتصف مايو/آيار 2019، عندما أجلت شركة النفط الأمريكية إكسون موبيل 30 مهندسا من مكاتبها في مدينة البصرة العراقية، ونقلتهم إلى دبي، كـ”إجراء احترازي مؤقت” وفقا لما ذكرته شركة البصرة الحكومية للنفط.
وفي جلسة مسائلة لوزير النفط العراقي – إحسان عبد الجبار من قبل البرلمان، قال عضو لجنة النزاهة النيابية يوسف الكلبي إن السفير الصيني في بغداد يتدخل بشكل صارخ في عمل وزارة النفط وقضايا لا تتعلق بالدبلوماسية او حماية مواطني بلاده، واصفًا ما يقوم به السفير الصيني في العراق بالتدخل السافر الذي لا يستند إلى أي عمل دبلوماسي.
حديث عضو لجنة النزاهة عن تخل السفير الصيني في عمل وزارة النفط.. مقطع من تسجيل لمجلس النواب العراقي – الجلسة الثانية – الثلاثاء 29 يونيو 2021
وفي الجلسة ذاتها تحدث الكلبي عن سيطرة الشركات الصينية على قطاع النفط والغاز في العراق، مشيرًا إلى مشروع “سي بي اف” (محطة معالجة النفط الخام)، والذي تقدر قيمته ب 145 مليون دولار، موضحًا أن هناك العديد من الشركات تقدمت بطلب للاستحواذ على هذا المشروع ولكن المناقشة استقرت على شركة عراقية واخرى صينية لينتهي به لصالح الشركة الصينية، متهما أشخاصًا ومسؤولين داخل وزارة النفط العراقية بمحاربة الشركات الوطنية لصالح الشركات الصينية.
تواطؤ رسمي لتمكين التنين
الجدير بالذكر، أن سيطرة الشركات الصينية لم يقتصر على قطاع النفط والطاقة فحسب، بل طالت قطاع الإنشاءات والمقاولات، فمنذ أواخر 2018 أحالت الحكومة العراقية عشرات مشاريع البنية التحتية إلى شركات مقاولات صينية بمبالغ مضاعفة مقارنة بإحالة ذات المشاريع للشركات العراقية، الأمر الذي يؤكده نبيل المرسومي – أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة، “بعد أن أحالت الحكومة العراقية مشاريع بناء 1000 مدرسة للشركات الصينية، بمناقصات خيالية لصالح الشركات الصينية، أي بمتوسط 1,8 مليون دولار للمدرسة، بينما الشركات العراقية مستعدة للعمل على ذات المشاريع بمبلغ مليون دولار للمدرسة، وبينما يعتقد الجميع أن هذه الشركات الصينية، هي من ستقوم بعمل التصاميم والإشراف وتنفيذ هذه المشاريع، إلا أن الصادم أن من يقوم بتصميم وتنفيذ هذه المشاريع هي شركات عراقية، والشركة الصينية تعمل دور الوسيط فقط، أي أن التصميم عراقي والتنفيذ عراقي والمال عراقي والأرباح للصين”.
يشكَّل التعاون الصيني العراقي على صعيد النفط والطاقة حجر الأساس للعلاقة الثنائية بين بغداد وبكين منذ عام 1981، عندما بدأت الشركة الصينية للهندسة والإنشاءات البترولية (CPECC) عملياتها في البلاد. إلا أن الارتقاء بمستوى العلاقات إلى “شراكة استراتيجية” كان في 2015.
شاهد أيضًا هذا الفيديو للمزيد من المعلومات عن هيمنة الصين على اقتصاد العراق
من جهته يرى د.نوزاد رجب – أستاذ العلوم المالية والمصرفية، أن العراق بحاجة لبقاء الشركات النفطية الغربية، إلى جانب الشركات الصينية، موضحًا أن مغادرة الشركات النفطية الغربية للسوق العراقي، قد يتسبب في خسارة كبيرة للإقتصاد العراقي، خصوصًا أن إنسحاب مثل هذه الشركات من البلد قد يخلق نوعًا من عدم الثقة بالاقتصاد العراقي وتحديدًا القطاع النفطي.
يقول مسؤول حكومي رفض الكشف عن هويته، “يقوم الجانب الحكومي بالتضييق عن الشركات الأجنبية، تحت مبرر أن عقودها وتصاريح العمل الخاصة بها قديمة، وتحتاج إلى القيام بجولات تراخيص من جديد، وهو الأمر الذي تراه إدارة هذه الشركات بأنه تقييد لأعمالها فتضطر إلى بيع حصصها إلى شركات أخرى أو الإنسحاب من العراق دون مقابل كما فعلت شركتي ( Statoil ) النرويجية وشركة ( Oxydental) الأمريكية” مضيفًا أن الشركات الصينية تُقدم لها التسهيلات بشكل أكبر مقارنة بالشركات الغربية.
فراغ الانسحاب الأمريكي
بعد القضاء على داعش وانسحاب القوات الأمريكية من العراق، تركت الولايات المتحدة فراغًا كبيرًا في المنطقة ملأته الصين من خلال الدخول إلى البلاد من الجانب الإقتصادي، خصوصًا في ظل التقارب الإيراني الصيني، ففي منتصف مارس/آذار 2021، وقع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، اتفاقية تعاون مع الحكومة الإيرانية لمدة 25 عاماً، بمقتضاها تتعهد الصين باستثمار 400 مليار دولار في الاقتصاد الإيراني مقابل إمدادات النفط، وهي الإتفاقية التي تساعد على تعزيز الوجود الصيني في مناطق نفوذ إيران، ولا سيما داخل العراق والشرق الأوسط.
وبالرغم من الاضطرابات الإقليمية والعالمية، والأوضاع الأمنية التي تشهدها البلاد، لم توقف الصين استثماراتها في العراق. فقد كشف تقرير صادر عن جامعة فودان في شنغهاي حصول بكين على عقد تشييد وبناء في العراق مقابل 10.5 مليارات دولار في 2021، وهو مبلغ يشكل تقريباً سُدس استثمارات مبادرة الحزام والطريق الصينية لذلك العام.
وترى الصين أن للعراق أهمية جيوسياسية بالنسبة للطريق البري لمبادرة الحزام والطريق، الذي سوف يربط الصين بأوروبا عبر إيران والعراق وتركيا. وفي هذه النقطة، تولي الصين اهتماماً خاصاً لتواجدها في العراق نظراً إلى أنها تتوقع تعزيز مكانتها الإقتصادية عالميًا من خلال هذا الطريق.
جدير بالذكر، أن العراق يحتل المركز الخامس عالمياً باحتياطي نفط يبلغ 148 ملياراً و800 ألف برميل، وهو ثاني أكبر بلد منتج للنفط الخام في منظمة البلدان المصدرة للبترول “أوبك” بعد السعودية، بمتوسط إنتاج يبلغ 4.6 ملايين برميل يومياً في الظروف الطبيعية، وهو يعتمد على إيراداته لتمويل ما يصل إلى 95% من نفقات الدولة، وتخطط الحكومة العراقية للوصول إلى إنتاج 8 ملايين برميل يومياً خلال العقدين المقبلين.
كما يعد ثاني أكبر منتج للنفط الخام في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، ويصدر عادة حوالي 3,5 مليون برميل يومياً. وتعتمد على عائدات النفط أكثر من 90% من موازنة الدولة التي بلغت 112 مليار دولار في 2019.