عصر الانشقاق 4: باطرفي يواصل فقد السيطرة
بينما يستمر خالد باطرفي في فقدان السيطرة على القاعدة في شبه الجزيرة العربية، تظهر أخطر أسراره، إذ تم الكشف عن شاب مصري في اليمن يعمل على تنسيق اتصالات القاعدة في شبه الجزيرة العربية مع مشغليها الإيرانيين ودميتهم، سيف العدل، المصاب بمتلازمة طهران، وقد وجه هذا الكشف ضربة جديدة مؤلمة لسمعة خالد باطرفي المتداعية أصلًا نتيجة الأخطاء الفادحة التي ارتكبها وتم الكشف عنها للجميع.
بعد الضربات الموجعة التي تلقاها تنظيم القاعدة في اليمن فقد سيطرته على معظم المناطق التي كانت بحوزته سابقًا، وفاقت خسائره الحدود حتى أن زعيم التنظيم في جزيرة العرب خالد باطرفي اعترف في أول ظهور له منذ أكثر من عام، بأن أتباعه يقاتلون بأقل الإمكانيات، وشكر عناصره التي تقاتل في محافظة البيضاء، مشيراً إلى أنهم واجهوا أعدائهم بالرغم من صعوبة أوضاعهم، داعيًا كل من يُناصر القاعدة في اليمن للعمل على دعمها بأي طريقة.
واعترف باطرفي أن التنظيم في أبين وشبوة والبيضاء، يعاني من قلة المؤونة، في الوقت الذي يواجه حملات متواصلة من قبل القوات اليمنية خصوصًا في أبين وشبوة، حيث تشتعل المعارك في وادي عمران بأبين ومنطقة المصينعة بشبوة في مواجهة قوات الحزام الأمني وقوات الطوارئ وغيرها من القوات الجنوبية.
وقد لجأ التنظيم إلى تكثيف استخدام العبوات الناسفة والشراك الخداعية في مواجهة تقدم القوات الجنوبية، وذلك بسبب ضعفه وعدم قدرته على الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة مع القوات المهاجمة لمعاقله.
إفلاس القاعدة
عصفت الأزمات المالية بالقاعدة في اليمن بشكل كبير، مما جعل التنظيم عاجزا عن الحفاظ على ولاء أتباعه واستمرارهم في العمل تحت رايته بدون أي مقابل مادي، فمع وقف صرف العطاءات الشهرية، وترك الأعضاء بدون أي مصادر دخل، قرر البعض مغادرة التنظيم والبحث عن مصادر دخل أخرى لتأمين دخل لهم ولأسرهم لتأمين متطلبات الحياة اليومية التي كانوا يعتمدون على التنظيم في توفيرها، خاصة مع توارد تقارير عن انضمام البعض للتنظيم من أجل الراتب دون قناعة ومعرفة عميقة بأفكاره.
ولم يقتصر الأمر على وقف صرف الرواتب للعناصر العاملة في صفوف الجماعة بل أيضًا تم وقف الأعطيات التي كانت تُمنح لعائلات قتلى الجماعة، خاصة في محافظة شبوة مما أشعل روح التذمر والغضب بين أبناء المحافظة، الذين رأوا أن التنظيم تخلى عنهم تمامًا بعدما قدم أبناؤهم أرواحهم خلال القتال في صفوفه.
قطاع الطريق
لجأ تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى قطع الطريق وخطف الأبرياء كسبيل للتغلب على أزمته المالية؛ ففي 11 فبراير 2022، أقدمت بعض العناصر على اختطاف موظفين تابعين لمنظمة الأمم المتحدة أحدهم مواطن بلغاري، في محافظة أبين جنوب اليمن، بالإضافة إلى طاقم تابع للشرطة العسكرية كان يرافقهم، وبعد أقل من شهر، في الخامس من مارس نفذ التنظيم عملية خطف شخصين آخرين يعملان بمنظمة “أطباء بلا حدود” أحدهما ألماني والآخر مكسيكي.
وفجرت هذه العمليات أزمة داخل التنظيم الذي يعيش أسوأ فتراته؛ ففي السابق كان التنظيم يخشى من تنفيذ مثل تلك العمليات ضد موظفي المنظمات الدولية، لما لها من آثار سلبية على الحاضنة الشعبية المحلية له، وذلك في وقت القائد المؤسس أبو بصير ناصر الوحيشي، الذي كان يتشدد في محاسبة من ينفذ عمليات اختطاف بشكل فردي، وكانت أغلب حوادث الاختطاف التي تُنفذ تستهدف سيارات تتبع منظمات ولا يتم احتجاز موظفيها، لكن في ظل قيادة قاسم الريمي زادت عمليات الاختطاف لموظفي المنظمات الدولية من جانب عناصر القاعدة دون رادع ولا محاسبة، وظل التنظيم يكتفي بالتنصل من هذه العمليات والقول إنها تصرفات فردية لا تمثله، أما اليوم في عهد باطرفي فالجماعة تتبنى خطف الموظفين الأمميين بهدف الحصول على الأموال.
ولما بدأ الوسطاء في التدخل كان المفترض أن تسلم القاعدة المختطفين وتعلن استنكار عملية الخطف، لكن ممثل التنظيم أبلغهم أن العملية مدعومة من قيادته، رغم أنها لم تنفذ بتوجيهاتها، وطلب دفع فدية قدرها عشرة ملايين دولار مقابل الإفراج عنهم، وبعد أخذ ورد تم تخفيض المبلغ إلى النصف.
وأصدرت القاعدة في سبتمبر الماضي مقطع فيديو عن الرهائن ظهر فيه أحد موظفي الأمم المتحدة يناشد منظمته تلبية مطالب خاطفيه للإفراج عنه، لكن التنظيم أغفل حقيقة أساسية ومخزية، وهي أنه تحول في نظر المنخدعين به إلى عصابة تقتات من قطع الطريق، بعد أن كان يرفع شعارات دينية مؤثرة ها هو اليوم يخطف المدنيين ويحاول تبرير هذه الجريمة بمهاجمة الأمم المتحدة، وفي الحقيقة فإن ما يفعله لا يختلف كثيرا عما تفعله أي عصابة قطاع طريق إلا فيما يتعلق بتبرير الجرائم، فالقاعدة ما زالت ترى أنها لم ترتكب إثمًا شرعيًا بتورطها في تلك الأعمال.
ولم تنطل دعاية القاعدة على جمهورها هذه المرة بعد أن تجاوزت فجاجتها هذا الحد، وبدأ عناصر التنظيم يشعرون بالخزي من التورط في أعمال اللصوص مما أساء ليس للقاعدة فقط، بل حتى إلى سمعة القبائل المحلية وحرمها من العمل الإنساني والإغاثي الشحيح الذي كان يقدم لها، وضاعف من النفور الشعبي من الجماعة.
الانشقاق عن العصابة
وانشق بعض عناصر القاعدة بسبب هذه الأعمال؛ فقد هدد أبو صالح الأبيني قيادته، بالانشقاق هو ومن معه، في حال عدم الافراج عن المختطفين، ونفذ تهديده بالفعل بسبب عدم الاستجابة له فغادر منطقته وتبعه العشرات من العناصر، كما أن الرجل الثاني في التنظيم، سعد عاطف العولقي، استاء من باطرفي لرفضه الاستجابة إلى جهود الوساطة الخاصة بالإفراج عن الرهائن، بالإضافة إلى استيائه من منع صرف أعطيات الأعضاء وعائلات القتلى، ولم يستجب باطرفي للعولقي بحجة ضعف الموقف المالي للجماعة، وهو ما يبدو غير مقنع للعديد من أبناء القاعدة الذين تكاثرت لديهم الدوافع لعدم الثقة بالقيادة.
من جهته أكد الدكتور سعيد الجمحي، رئيس مركز دعم صناعة القرار بالمجلس الانتقالي الجنوبي والخبير في قضايا الإرهاب، أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب كان يحظى بمصادر تمويل متنوعة، ومن أبرزها السطو على البنوك، وبلغ حصول التنظيم ذروته في الحصول على الأموال حين استطاع السيطرة على أجزاء من محافظة حضرموت، فجنى ملايين الدولارات من عوائد بيع النفط وميناء المكلا بالإضافة إلى خطف السياح الأجانب والحصول على الفدية مقابل إطلاقهم وغير ذلك.
عصر الانشقاق.. الجزء الأول
وأضاف الجمحي في تصريحاته لـ”أخبار الآن” أن هذا الازدهار المالي اعقبته فترة ركود وضعف شديد حيث بات التنظيم يعاني من أزمات داخلية عديدة، وفي مقدمتها فقدانه لقياداته وكبار عناصره على مدى الأعوام الماضية، كما شهد حالة اختراق في صفوفه، وهذا الاختراق اعترف به التنظيم من خلال إصداراته التي يكشف فيها عن إعدامات لبعض عناصره الذين وصفهم بالجواسيس، وهذه الأزمات أثرت على التنظيم وعلى مستوى عملياته الميدانية التي باتت لا تتجاوز ضربات خاطفة بهجمات على نقاط أمنية أو زرع عبوات متفجرة، وبعد أن كان التنظيم قد تمدد إلى مساحات أوسع وانتشر في عدة محافظات، توقف تمدده الجغرافي، وتوارى وعاود التمركز في المناطق الجبلية النائية والوعرة.
وأردف الخبير في قضايا الإرهاب، أن خطف الرهائن كوسيلة للحصول على الأموال باتت عملية صعبة بالنسبة للتنظيم، فلم يعد يملك القدرة على الاحتفاظ بالرهائن، لافتًا إلى أن علاقة القبائل اليمنية مع القاعدة تكاد تكون مفقودة نتيجة الضربات التي تلقاها التنظيم من القوات الجنوبية المدعومة من دول التحالف، ولاسيما دولة الإمارات، والجدية التي تم التعامل بها معه، فبات التنظيم يدرك أنه ليس بمقدوره الاستمرار في عمليات الخطف، وربما تكون سبباً لخسارته، وتؤدي إلى زيادة انكشافه وانحساره.
وأعرب الجمحي عن اعتقاده أن تنظيم القاعدة في اليمن صار في أضعف حالاته، ولو استمرت الجدية في محاربته وكذلك تحقيق مستوى جيد من الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد، لشهدنا القاعدة في أسوأ حالاتها.
هل باطرفي هو المشكلة؟
تُوجه إلى خالد باطرفي، قائد التنظيم، أصابع الاتهام بالتسبب في تلك المشاكل المالية للقاعدة في اليمن؛ ففي عهد القائد المؤسس، ناصر الوحيشي عاشت الجماعة مرحلة رخاء مالي خاصة في العام 2015 بعد أن سيطر على مدينة المكلا الساحلية في محافظة حضرموت جنوب شرق البلاد، وتحكموا في إيرادات ميناء الحاويات في محافظة عدن، لكن هذا الرخاء لم يدم طويلا إذ واجه التنظيم أزمة مالية خانقة بدأت بعد مقتل الوحيشي، مما دعا لتوجيه الاتهام للمقربين منه بنهب مبالغ طائلة من خزائن الجماعة وأموال أفرع البنوك في المكلا.
وبالفعل اتهم التنظيم مسؤوله المالي أبو تراب السوداني بالاختلاس وحاكمه وأعدمه، ووُجهت أصابع الاتهام للبعض بشكل غير رسمي بنهب الأموال دون محاسبة والتهرب من تبعات ذلك استغلالا لتحمل أبو تراب وحده مسؤولية تبديد الأموال.
بعد إفلاس التنظيم بدأت بعض القيادات تطالب بالامتيازات المالية التي اعتادت عليها، ورفض البعض القيام بأي مهام ميدانية إن لم يتقاض مبالغ مالية مقدما، وأفادت التقارير بأن إجراءات التقشف الشديد أدت إلى أزمة حادة بين قادة الصف الأول لاسيما بين سعد عاطف العولقي وباطرفي لأن الأول لاحظ وجود توجه عدائي ضد أبناء محافظة شبوة من الجهاديين.
ويبدو أن إمارة باطرفي وما ارتبط بها من إخفاقات وانتهاكات أدت إلى تقويض الدعم الشعبي للقاعدة في شبه الجزيرة العرب؛ فاستهداف المنظمات الدولية وخاصة منظمات الإغاثة من شأنه أن يجعل المزيد من القبائل تدير ظهورها للقاعدة وهو الأمر الذي ينعكس بقوة في الميدان مسببًا المزيد من الهزائم للتنظيم فيخسر المزيد من مصادر تمويله نتيجة طرده من أهم المواقع التي كانت تدر عليه موارد هائلة كمدينة المكلا في حضرموت ومدينتي جعار وزنجبار في أبين، فتتقلص العطاءات ويتورط في انتهاكات جديدة لجلب المال بأي طريقة، فيخسر المزيد من مؤيديه، وهكذا يبدو أن نهاية التنظيم صارت وشيكة على يد باطرفي.
فعلى الرغم من أن قرارات التقشف بدأت منذ أيام الريمي، إلا أنها ازدادت حدة بشكل كبير على يد باطرفي، وتحديدا في محافظة شبوة، مما زاد الشقاق بين العولقي وباطرفي الذي يتذرع بالعجز المالي، لكن هناك اعتقاد شائع مفاده أن هناك أموال كبيرة مع باطرفي وإدارته المقربة، ولا يثق العديد من عناصر التنظيم بقيادتهم وهم يرون الأوضاع تتدهور من كل اتجاه وباطرفي لا يتخذ أي خطوة تمنع هذا التدهور بل يتخذ قرارات تزيد الأمور سوءًا، مع تضاؤل دور المسؤولين الشرعيين واتخاذ القيادات قرارات تتناقض بشكل جلي مع الشرع واعتذارهم لاحقًا، كالإفراط في سفك الدماء دون بينة، مما دفع بالعديد من القيادات وللعناصر للانشقاق بشكل فردي أو جماعي.
عصر الانشقاق.. الجزء الثاني
من المستفيد من تمويل القاعدة؟
مع ازدياد تأزم الوضع المالي لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية فإنه تجدر الإشارة إلى أن جانب من الأزمة يرجع إلى انكشاف أمر خدمة التنظيم لمصالح إيران وميليشياتها الحوثية في اليمن، فأدرك ممولو القاعدة أن إعطاء الأموال لها هو أسرع طريقة لضمان سيطرة الحوثيين على الجنوب؛ فعلاقة التخادم بينهما فُضحت ولم تعد خافية على الناس، خاصة منذ أن انسحب عناصر القاعدة وتركوا الحوثيين يتقدمون في محافظة شبوة دون مقاومة ويسيطرون على بعض مديرياتها، الأمر الذي وصم التنظيم بالخيانة وقوض مصداقيته أمام قواعده المحلية، ودفع العديد منهم إلى تركه.
وتواترت الشواهد على هذا التعاون بين الجماعتين والذي شمل تبادل المعلومات وخفض التصعيد الميداني بينهما للتركيز على الخصوم المشتركين الممثلين في معسكر الشرعية بأطيافه المختلفة، بالإضافة إلى تبادل الأسلحة والخبرات، وتبادل المحتجزين من خلال المفاوضات الثنائية السرية المستمرة بين الطرفين.
ومؤخرًا كشفت تقارير إعلامية، عن تفاصيل تلك المفاوضات الخاصة بتبادل الأسرى في شهر يناير الجاري، وسط تكتم شديد، والتي أسفرت عن إطلاق ميليشيا الحوثي سراح أكثر من 11 عنصرا من القاعدة من سجون الأمن السياسي بصنعاء، مقابل 9 من أسرى الميليشيا لدى القاعدة، في واقعة هي الرابعة التي يتم خلالها إطلاق عناصر إرهابية مقابل أسرى من ميليشيات الحوثي.
والأدهى أنه في ظل إقامة سيف العدل، أرفع قيادات التنظيم المركزي للقاعدة، في إيران، تم الكشف عن وقوع مفاوضات شارك فيها باطرفي والحرس الثوري الإيراني لتنسيق القيام بعمليات عسكرية تخدم مصالح الطرفين، يتولى تنظيم القاعدة تنفيذها بمقابل مالي، ومنذ عام 2020 تولى أحد المقربين لباطرفي والمتداول عنه أنه شاب مصري مقرب من سيف العدل تم إرساله لليمن من سنوات، مهمة المشاركة في تلك المفاوضات بالتنسيق مع سيف العدل، على أن يكون مسرح العمليات في المهرة وحضرموت شرق اليمن لاستهداف المصالح الغربية وقوات التحالف العربي هناك، وطُرحت مسألة دور إيران في دفع الحوثيين لعدم استهداف القاعدة بهجماتها.
عصر الانشقاق – الجزء الثالث
للاطلاع أكثر على الأزمة المالية لتنظيم القاعدة في اليمن وتداعياتها.. التقارير والمواد الحصرية التالية تحكي القصة:
- تابع كيف دفعت الأزمة المالية تنظيم القاعدة لعرض خدماته مقابل المال.
- كيف تحولت شبوة إلى نقطة ضعف تنظيم القاعدة في اليمن؟
- لمعرفة تفاصيل أكثر عن اختطاف تنظيم القاعدة باليمن لموظفي الأمم المتحدة يمكن قراءة هذا التقرير.
- لمعرفة كيف أشعل باطرفي الصراع داخل قاعدة اليمن في ٢٠٢٢ يمكن الرجوع لهذا التقرير.
- تابع كيف اعترف التنظيم بضعف موقفه في الآونة الأخيرة.