كيف يمكن تفسير ظهور سعد العولقي المفاجئ
بعد شهور من التوتر بين زعيم تنظيم القاعدة باليمن خالد باطرفي وأبناء الجنوب اليمني بزعامة سعد عاطف العولقي، ظهر الرجلان في مقطع دعائي لنفي الخلافات والصراعات التي أكدها ظهورهم هذا من حيث لم يحتسبا، فجاء هذا اللقاء الاستثنائي ليؤكد القاعدة ويبين أن تنظيم القاعدة يتفتت حتى أن اجتماع أكبر رأسين للجماعة بات في حد ذاته حدثًا مهمًا يستحق إبرازه وتصويره ونشره، فهل يمكن اعتبار ذلك بداية للنهاية لزعيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية خالد باطرفي؟
العولقي .. لماذا الآن؟!
في 13 فبراير الجاري، نشر القيادي سعد العولقي رسالة مفاجئة بالفيديو يطلب فيها دعم القبائل الجنوبية للتنظيم، فيما بدت ظاهريًا أنها محاولة منه لمساعدة رئيسه على استعادة نفوذه المفقود، فقد جاء هذا اللقاء كوسيلة لإظهار التضامن بين الرجلين بعد تعمق الخلافات بينهما في العام الماضي.
في هذا الفيديو الذي تبلغ مدته 11 دقيقة، يمتدح العولقي بمهارة خالد ويصفه ب”قائدنا”، ويتضمن لقطات له وهو جالس بجواره، وينتهي الإصدار بلقطات مدتها ثواني يبدو فيها وكأن العولقي يلبي طلب باطرفي للجلوس إلى جواره في جلسة التصوير وهما يبتسمان.
لكن إذا تعمقنا قليلاً في الحدث، سيتضح لنا أن هذا الفيديو يشير إلى بداية انطلاق العولقي كزعيم للجماعة بعيدًا عن باطرفي ومقربيه الذين تلاحقهم الاتهامات والشكوك من أبناء التنظيم قبل غيرهم.
ويعد هذا اللقاء استثنائيًا بامتياز؛ فهذه هي أول مرة يتحدث فيها العولقي في فيديو، على ما يبدو، فقد نُشر له فقط مقطعان صوتيان في ٢٠١٥ و ٢٠١٦، ويمكن اعتبار هذا الإصدار الأخير أهم إصدارات فرع القاعدة في اليمن عبر سنوات مضت، لاعتبارات عديدة.
بدايةً فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا هو: من الذي قرر عمل هذا الإصدار؟
فإذا كان صاحب الفكرة هو زعيم التنظيم، خالد باطرفي، فإن ذلك يمثل اعترافًا عمليًا بعجزه وعدم قدرته على إقناع الجنوبيين بدون دعم واضح من سعد العولقي.
أما إذا كان سعد العولقي هو من قرر تصوير هذا الفيديو، فإن ذلك يُظهر أنه الآن بات يمتلك قوة ونفوذًا أكبر من باطرفي.
وبعيدًا عن ذلك فإن الملحوظة الأكثر جدارة بالتوقف عندها، هي إشارات العولقي خلال حديثه إلى إيران وضرورة هزيمتها هي ومن يساندها.
ويقول العولقي هذا في الوقت الذي يُتهم فيه باطرفي بمساعدة طهران بتوجيهات من سيف العدل، أرفع قيادي في تنظيم القاعدة على مستوى العالم، والمصاب بمتلازمة طهران، لا يمكن اعتبار هذه الإشارة من قبل العولقي صدفة أو زلة لسان، فقد أعطى إشارة لكل من يعارض الحوثي مفادها أنه هو وأتباعه ضد مشروع إيران في اليمن على عكس سيف العدل وباطرفي.
بالطبع من المستحيل التكهن بما سيعقب هذا اللقاء من تطورات وأحداث داخل التنظيم، لكن من الواضح أن العولقي قرر تحديد موقفه وبالتالي سيكون من المنطقي أن يُتبع هذا البيان بخطوات عملية ضد عملاء وأنصار المشروع الإيراني الذي يستخدم القاعدة كأداة لتنفيذ أغراضه عبر اختراقها وتوجيهها لضرب أهل السنة وإضعاف وتفتيت القبائل وتوريطها في مواجهات مع القوى السنية الأخرى في معارك لا طائل من ورائها، ولا يُقصد منها إلا تفكيك المعسكر المقاوم لميليشيات الحوثي الإرهابية التابعة لطهران.
عنقاء جزيرة العرب
يأتي هذا في وقت تواجه فيه قاعدة اليمن أزمة وجودية بعدما فقدت في ظل قيادة باطرفي معظم ما لديها، وصارت نهايتها مسألة وقت لا أكثر على ما يبدو.
لذا تحاول الإيحاء بإمكانية بعث التنظيم من جديد من وسط الحطام على مثال أسطورة العنقاء قديمًا، التي تحكي عن طائر خيالي كان كل فترة يجدد نفسه فيرفرف حتى يحترق وتلتهمه النار وتخرج من رماده نسخة أخرى منه.
لكن هذه “الأسطورة” يصعب تحقيقها في واقع تنظيم القاعدة في اليمن، لأنه من الواضح أن القوات اليمنية الجنوبية المدعومة من الإمارات تمضي بخطى قوية ضد التنظيم في شبوة وأبين، مما يُضعف بقوة أي احتمال لاستعادة تنظيم القاعدة لنفوذه الضائع، بل الأكثر احتمالا أن نرى محاولات القفز من سفينة القاعدة الموشكة على الغرق.
لذا جاء هذا اللقاء بين باطرفي والعولقي بعدما بدا أن التنظيم يقترب من نهايته بالفعل، وأصبح مجرد بقائه هدفًا في حد ذاته، أو بالأحرى اقتربت نهاية تجربة باطرفي ويبدو أنه اقتنع بضرورة إفساح المجال للعولقي كحل أخير قبل الانهيار.
ويمكن اعتبار هذا اللقاء المصور إيذانًا بزعامة العولقي وتهيئة الظروف لذلك، فهو زعيم القاعدة في موطنه بشبوة، والوجه القاعدي الأكثر قبولا وسط القبائل السنية في محافظات الجنوب على عكس باطرفي وحاشيته الغرباء على الجنوب.
وأتى ظهور العولقي ليؤكد على استمرار أزمة التنظيم رغم محاولات نفيها، فدعوته لأبناء شبوة لدعم التنظيم في محافظة أبين تؤكد بأن أزمة أبناء شبوة مع قيادة التنظيم مازالت قائمة، ولم يستطع باطرفي حلها حتى الآن.
فتنظيم القاعدة في اليمن بحاجة ماسة إلى العولقي، وليس العكس، فباطرفي لا يستطيع الاستمرار بالتنظيم من دون هذا القيادي الجنوبي المؤثر، سواء في شبوة أو في الجنوب بصفة عامة أما العولقي فهو لا يحتاج القاعدة أو باطرفي واجندته الإيرانية.
ويبدو التنظيم وهو في هذه الحالة مهدَّد الوجود، بما يوحي بأنه قد يكون على استعداد لأن يُفرغ كل ما بجعبته من سهام لتلافي أو بالأحرى تأخير نهايته المحتومة، فسلوك التنظيم على مدى السنوات القليلة الماضية كان مريبًا بشكل كبير، فخطواتهم كانت تخدم الحوثيين حتى خسروا مديرية الصومعة وقيفة لصالح الحوثيين مما مهد الطريق للميليشيات التابعة لطهران للسيطرة على شبوة.
وكادت المحافظة أن تسقط لولا أن تحرك العمالقة الجنوبيين في كانون الأول (ديسمبر) 2021 كان سببًا رئيسيًا في حرمان الحوثي من الاستيلاء على كل شبوة، الأمر الذي كان سيمنحهم فرصة تاريخية لشق الجنوب إلى نصفين؛ لأن شبوة تقع بين حضرموت والمهرة في الشرق، و أبين وعدن في الغرب.
كما كانت مأرب أيضًا عرضة لهذا المصير لولا هزيمة القاعدة في المحافظة، فوقفت القبائل والتحالف العربي والحكومة الشرعية في وجه الحوثيين.
وبعد تكرار هزائم التنظيم وانسحابه أمام تقدم قوات الحوثي، ثبت بالدليل القاطع لأهالي الجنوب عدم جدوى الشعارات المذهبية التي كانت القاعدة تجهر بها بينما كانت على أرض الواقع تتخادم مع الميليشيات الإيرانية وتُفسح لها الطريق في مناطق عديدة.
وفقد التنظيم مصداقيته بين قبائل الجنوب، وفقد كذلك نفوذه ومناطق سيطرته، وبات أعضاؤه ضيوفًا دائمين لدى ميليشيات الحوثي، في ظل إقامة سيف العدل أرفع قيادي في القاعدة داخل إيران لأكثر من عقدين.
وبالتأكيد لا يريد العولقي أن يغرق مع باطرفي ومجموعته، لذا ليس من المستغرب أن يعد العدة لإنقاذ نفسه هو وأتباعه تحسبا لغرق السفينة بسبب عدم كفاءة إدارة باطرفي وارتباطها المريب بإيران.
ولا عجب أن نشهد خلال الفترة القليلة المقبلة تغيرات داخل التنظيم، وربما نشهد تغييرا في القيادة، أو تصعيدًا لنفوذ سعد العولقي على حساب نفوذ باطرفي المتضائل بعد أن وصل التنظيم على يديه إلى شفير الانهيار، أو حتى استقلال العولقي عن التنظيم وانشقاقه هو وأبناء الجنوب بعد أن تبينوا أن التنظيم صار عبئًا عليهم بلا أي جدوى، بالإضافة إلى علاقة باطرفي الغامضة بالحوثيين.
ولعل الأيام القادمة تكون وحدها كفيلة باختيار وترجيح أي من السيناريوهات المتوقعة، لكن من الواضح لدينا اليوم أن باطرفي تأكد بنفسه من أن العولقي رقم صعب لا يستطيع تجاوزه، وأن عجز باطرفي أصبح أساس قوة العولقي، ويمكن اعتبار هذه الحقيقة الأساس الذي قد تنبني عليه أحداث الفترة المقبلة.