خنجر الخيانة – الجزء الأول: إعادة هيكلة القاعدة في اليمن
في الوقت الذي يطلب فيه باطرفي دعم القبائل وتوفير الأموال للتنظيم، يأتي تقرير “أنباء جاسم” الحصري ليفضح حجم الفساد المالي والرفاهية التي ينعم بها أبناء قادة القاعدة في اليمن مقابل معاناة باقي أفراد التنظيم تحت قيادة خالد باطرفي الزعيم الحالي.
ضعف باطرفي فتح الطريق أمام سيف العدل للتدخل مباشرة في أعمال تنظيم القاعدة في اليمن، وفي بداية هذا العام كشفت “أخبار الآن” عن قيام سيف العدل، الزعيم الفعلي لتنظيم القاعدة، بإرسال نجله إلى اليمن في العام 2016 تحت حجة إدارة التواصل بين باطرفي وطهران، ولكن خطط سيف لابنه كانت أكبر مما يبدو.
ورغم أهمية هذه المعلومة؛ إلا أن السؤال الأهم كان يتعلق بالأسباب التي دفعت القيادي الجهادي المقيم في إيران لاتخاذ هذه المخاطرة؟
ومن خلال التدقيق في تاريخ الرجل الجهادي وفي حساباته الراهنة لتبوء موقع القيادة؛ استنتجنا أن ذلك الإجراء كان جزءً من سياسته لتعزيز نفوذه في كافة أفرع القاعدة، وأكثر من ذلك فقد جازفنا بالقول أن سيف العدل يطمح إلى تكرار سيناريو “حمزة بن لادن”، والعمل على تجهيز نجله المعروف بكنية “ابن المدني” ليلعب دور القيادة الجهادية مستقبلا.
وقد كانت الأيام القليلة الماضية كفيلة بتأكيد صحة توقعاتنا؛ حيث كشفت مصادرنا الخاصة عن سلسلة من النقاشات والترتيبات الجهادية الداعية الى إعادة الهيكلة التنظيمية لتنظيم القاعدة في اليمن.
وبحسب المصادر فإن الهدف من هذه العملية هو تسليم زمام القيادة بشكل كامل للشخصيات المحسوبة على سيف العدل، وتحديداً “الزمرة المصرية” بقيادة نجله الشاب “ابن المدني” والجهادي المخضرم إبراهيم البنا.
ويحاول سيف العدل تمرير مخططاته مستغلا ما يمر به التنظيم من أزمات مالية وخلافات بينية، ومستثمراً حالة الفراغ القيادي الناجم من نزيف رموز الرعيل الأول من الجهاديين، وكذلك تصفية النخبة القيادة الشابة من شباب الجيل الثالث من الجهاديين وكان آخرهم حمد بن حمود التميمي “زعيم الظل” في قاعدة اليمن، وهو المنصب الذي بات يراود طموحات نجل سيف العدل.
وقد بدا مفاجئا للمراقبين مدى العجلة التي يتحرك بها سيف العدل في تحقيق مخططاته وفي تنصيب ابنه زعيما فعليا لتنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب، وهو ما يمكن تفسيره بأن الرجل بات يضع اللمسات الأخيرة لاستيفاء شروط تنصيبه رسميا زعيما لتنظيم القاعدة العالمي، خصوصا بعد ما رشح من رسائل ضمنية في أعلام القاعدة تؤكد هذا التوجه.
تطور نفوذ سيف العدل في اليمن: من التأثير إلى الهيمنة
لقد ظل سيف العدل، حتى خلال إقامته الجبرية في ايران، محافظاً على تواصله مع قيادة القاعدة في جزيرة العرب، وقد سبق لناصر الوحيشي ان استشاره للاستفادة من خبراته في تخطيط العمليات الخارجية الكبرى.
وفي العام 2015 كان فرع اليمن هو من فاوض الإيرانيين للإفراج عن القيادات الجهادية المعتقلة في طهران، وفي مقدمتها سيف العدل الذي فضل البقاء في ايران.
وخلال فترة قاسم الريمي بدأ نفوذ سيف العدل يتنامى وذلك بالتوازي مع ضعف التواصل ما بين فرع اليمن وبين القيادة العامة في أفغانستان، واستطاع الجهادي المصري أن يقنع قاسم الريمي باتخاذ سياسة جديدة في هيكلة التنظيم وتحصينه من الاختراقات الاستخباراتية عبر حملة تطهير عنيفة.
وكان سيف العدل يستغل عملية الهيكلة كي يقوم بتزكية القيادات الجهادية القريبة منه شخصيا لتتولى المهام الحساسة والمواقع الحيوية، مثل: إبراهيم البنا الذي امسك بالملف الأمني وبعملية تطهير التنظيم، وعمار الصنعاني الذي أمسك بالجناح العسكري، وحمد التميمي الذي كان شخصية متعددة المواهب.
وفي خضم هذه العملية دفع سيف العدل بابنه كي يصعد أكثر في الهرم القيادي للتنظيم ويكتسب مزيدا من الخبرة.
وبعد صعود خالد باطرفي أميرا للتنظيم، أصبح سيف العدل صاحب النفوذ الأقوى على فرع القاعدة في اليمن، وقام بقطع التواصل بشكل شبه تام بين قيادة اليمن والقيادة العامة في أفغانستان وقد ازدادت القطيعة تجذرا بعد مقتل الظواهري.
تمكن سيف العدل من فرض هيمنته على تنظيم القاعدة في اليمن من خلال أربعة مداخل:
أولا: سيطرته على مفاصل التنظيم بعد عملية الهيكلة التي افضت الى تعيين الموالين لسيف العدل في كل المواقع الحيوية.
ثانيا: تأثيره المباشر على خالد باطرفي والذي كان صاحب الفضل في تنصيبه أميرا للتنظيم.
ثالثا: تبني التنظيم لإستراتيجية سيف العدل ومقاربته الايدلوجية القائمة على مواجهة الغرب وتقديمهم على إيران ووكلائها في المنطقة.
رابعاً: تنامي نفوذ ابنه في التنظيم وتحوله الى قناة اتصال آمنة وفعالة لنقل المعلومات والأوامر والتوجيهات.
من الهيمنة النسبية إلى السيطرة المطلقة
مع بداية العام 2023، بدأ الحديث عن سيف العدل يختلف في جميع الأوساط الرسمية والإعلامية والبحثية المهتمة بالشؤون الجهادية.
لم يعد سيف العدل مجرد مرشح قوي لزعامة القاعدة بل صار يوصف بالزعيم الفعلي للتنظيم، وفي هذا الإطار بدأ القيادي المصري بمصارحة الأوساط الجهادية بهذه الحقيقة والتمهيد بشكل أكثر جرأة الى احتمالية تنصيبه زعيما للقاعدة من خلال مقاله الشهير الذي نشر باسم “حازم المدني”.
وفي إطار استكمال الشروط المثلى لتنصيبه رسميا زعيما للقاعدة، ذهب سيف العدل الى تحويل هيمنته على تنظيم القاعدة في اليمن إلى سيطرة مطلقة.
وهو يدرك ان من يمتلك فرع اليمن يكون الزعيم الفعلي لتنظيم القاعدة، وهذه الحقيقة تؤكدها تجربة ناصر الوحيشي الذي كان المرشح الأبرز لوراثة الظواهري لولا أنه قتل في العام 2015.
وحتى خالد باطرفي فقد وضع اسمه كمرشح محتمل لأيمن الظواهري رغم ضعفه القيادي وتواضع مسيرته التاريخية، وذلك فقط لأنه أمير التنظيم في جزيرة العرب: اخطر فروع القاعدة على الإطلاق.
ومؤخرا قال تقرير للاستخبارات الأمريكية بان سيف العدل مازال متمسك برؤيته بأن تنظيم اليمن هو الأصلح للعب دور استراتيجي في تهديد واستهداف المصالح الغربية، وهي نفس الرؤية الاستراتيجية التي اعتنقها أسامة بن لادن حينما كان يخطط لنقل مركز العمل الجهادي الى اليمن و معتبرا انها “أفغانستان مطلة على البحر”، ومحاولا استدراج الامريكان إليها من خلال عملية المدمرة كول عام 2000.
وفي هذا السياق بدأت القيادات المحسوبة على سيف العدل في اليمن تطرح ضرورة الشروع في عملية هيكلة تنظيمية جديدة وشاملة، بحيث لا تقتصر هذه الإجراءات على الهياكل التنفيذية (الأمني والعسكري والإعلامي) بل تشمل أيضا مجلس شورى التنظيم.
وبحسب مصادر جهادية تحدثت لـ”أخبار الآن” فان هذا الحراك انطلق بشكل صريح منذ أكثر من شهر بقيادة البنا وابن المدني، وقد ترتب عليه عدد من الاجتماعات الرسمية بين قيادات التنظيم لمناقشة الموضوع بشكل جدي.
وقد بررت القيادات المصرية تحركاتها بالاستجابة الى متغيرات الساحة الجهادية اليمنية خصوصا مع تنامي الخلافات بين قيادات الصف الأول وما أنذر به الوضع من اقتراب الانقسام بين باطرفي ومجموعته، وبين سعد العولقي والعناصر المؤيدة له.
وقال قيادي جهادي لـ”أخبار الآن” ان ما منح دعوات الهيكلة ثقلا حقيقيا كان تبنيها من قبل إبراهيم البنا، وهو القيادي الذي حاول مرارا اظهار نوع من الحياد تجاه الدور المتنامي لسيف العدل في اليمن، وكان يقول أن مهمته الحصرية هي إدارة الشأن الأمني الداخلي دون التدخل بالقرارات التنظيمية او الاستراتيجية.
وخلال المرحلة الأخيرة برز إبراهيم البناء كحليف موثوق لخالد باطرفي واظهر انحيازا له في صراعه مع سعد العولقي. لذا لم يخفي القيادي الجهادي تفاجئه من تحول موقف البنا باتجاه المطالبة بإجراءات تقوض من باطرفي وتنحاز إلى مطالب معارضيه.
وقد يكون هذا التحول مرتبطا مع التسرع الكبير الذي يظهره سيف العدل لإتمام هذه الهيكلة.
يرى مصدر جهادي آخر أن تحركات إعادة الهيكلة لا تتصل بحسابات سيف العدل فقط، بل هي تعكس اختلال التوازن الداخلي في التنظيم وذلك من خلال تقويض الجماعات الرئيسية النافذة في صناعة القرار لمصلحة “الزمرة المصرية”.
ويضيف المصدر ان مقتل الريمي وعمار الصنعاني واقصاء سعد العولقي أدى الى اضعاف المجموعة اليمنية ذات الامتداد والعمق المحلي، وكذلك فإن مقتل حمد التميمي كان يعني ضربة مزدوجة للسعوديين أولاً، و لخالد باطرفي ومجموعة “الحضارم” ثانيا.
وكل هذا أفسح الطريق أمام إعادة صياغة التوازنات الداخلية في التنظيم لمصلحة النخبة المصرية.
ولعل هذا السيناريو يتشابه مع ما حدث في سوريا منذ تسلم سيف العدل قيادة العمل الجهادي بعد العام 2015.
خطة الهيكلة
بحسب مصدران جهاديان رفيعان تحدث لـ”أخبار الآن” الأول شارك بشكل مباشر والجلسات النقاشية، والأخر كان على صلة بالقيادات المشاركة بالنقاشات؛ فإن ما يطرح من خطة الهيكلة ينقسم إلى ثلاثة محاور:
الأول: يتعلق بموقع خالد باطرفي، و لم يطرح حتى الآن فكرة الاستغناء عنه، لكن يتم الحديث عن ضرورة تقليص صلاحياته نظرا لتنامي اخطائه القيادية وتزايد المعارضة الداخلية لشخصه وسياساته.
ثانيا: إعادة هيكلة أجهزة التنظيم (العسكري ، الأمني ، الإعلامي ، الشرعي)، وذلك تحت مبررين : الاول: اغتيال النخبة القيادة النوعية التي كانت مستسلمة لهذه الاجهزة، والثاني : اختيار شخصيات جديدة موضع تفاهمات اشمل مع عموم قيادات القاعدة وتحديدا سعد العولقي.
ولكن الأهم هو أن فكرة هيكلة الأجهزة يترافق مع مقترح بتنصيب “ابن المدني” كمشرف عام عليها، ما يعني تحوله الى الزعيم فعلي للقاعدة، وهو بذلك يحاول ملئ الفراغ الذي تسبب فيه رحيل حمد التميمي.
ثالثا: إعادة تشكيل مجلس شورى تنظيم القاعدة، وذلك بإشراف إبراهيم البنا.
وتضيف المصادر بانه خلال النقاشات التي مازالت مستمرة حتى اللحظة، طرحت قضيتان رئيسيتان: الأولى أن هذه الهيكلة سوف يترتب عليها حل للمشكلات المالية العويصة، وتلك رسالة صريحة من سيف العدل مفادها “المال مقابل السيطرة”.
أما القضية الأخرى والأكثر أهمية، فهي ان قيادات القاعدة من الزمرة المصرية طرحت أهمية رفد التنظيم بعناصر قيادية ذات خبرة وكفاءة لتجاوز مشكلات القاعدة الحالية.
ووفق المصادر التي تحدثت لـ”أخبار الآن” فإن هذا يعني أن هذه الهيكلة تشتمل على رغبة سيف العدل بإرسال عدد من القيادات الجهادية الأجنبية الى اليمن خلال الأيام القادمة وتسكينها في مواقع حيوية.
ردود الفعل وفرص النجاح
مصدر جهادي اكد لـ” أخبار الآن” أن امير التنظيم خالد باطرفي يحاول التحرك استباقيا لإفشال هذا التوجه، وذلك من خلال خطوتين:
الأولى: استغلال ما يملكه من ثقل تنظيمي ومن مؤيدي كي يقنعه بعدم صلاحية الهيكلة الشاملة في هذه اللحظة.
والثانية: من خلال تنصيب بعض القيادات الموالية له في مواقع حيوية، أي أن يحول الهيكلة الى فرصة لزيادة نفوذه بدلا من اضعافه، وفي مقدمة هذه القيادات أبو أسامة الدياني العولقي الذي يريده ان يكون بديلا لحمد التميمي، وان يستفيد من ارتباطه بالقبائل.
لكن مناورات باطرفي ليست مضمونة النجاح خصوصا وان من يدعم مساع الهيكلة هو إبراهيم البناء، أثقل شخصية تنظيمية في القاعدة وهو القيادي الذي أمن صعود باطرفي زعيما للقاعدة، رغم ان الريمي لم يعينه نائبا و لم يوصي به كخليفة.
ويقول مصدر جهادي أن القيادة المصرية ممثلة بسيف العدل وإبراهيم البنا قد اختاروا باطرفي تحديدا لاعتقادهم أنه ضعيف ويمكن توجيهه، ولكن الرجل استطاع أن يصنع لنفسه نفوذا خاصا، إلا أن نفوذه مهما بلغ فإنه قد لا يستطيع الوقوف حاليا أمام إرادة الزمرة المصرية.
وما يزيد موقف باطرفي تعقيدا، هو موافقة سعد بن عاطف العولقي على مقترح الهيكلة الشاملة، ورغم أن العولقي ظل معترضا على سياسات سيف العدل التي تهادن الحوثيين وتركز على الحكومة الشرعية وحلفائها الدوليين، إلا أن خلافه الحاد مع باطرفي قد أوصله الى نقطة حرجة جعلته لا يفكر الا بضرورة ازاحته لكن دون أن يؤدي ذلك الى انقسام القاعدة.
ويعلق أحد القيادات الجهادية على موقف سعد العولقي قائلا: “ما زال سعد يرى أن نفوذ سيف العدل يمثل تهديدا لتوجهات التنظيم، لكنه بات على يقين بأن بقاء باطرفي يمثل تهديدا وجوديا على القاعدة”.
وفي المحصلة فإن ثمة تغيرا عميقا في مواقف الأقطاب الرئيسية داخل تنظيم القاعدة في اليمن.
فقد تخلى البنا على حياده الظاهري وبات يعمل صراحة على تعزيز نفوذه، أما سيف العدل فقد تراجعت علاقته الحميمة مع باطرفي رغم توافقهما في الأفكار والسياسات، وقد ظهر الان تحالف تكتيكي بين سعد العولقي وبين سيف العدل وبين إبراهيم البنا لجهة تقويض باطرفي.
وفي الأخير فإن سيف العدل يحاول ان يدير كل هذه التناقضات بما يصب باتجاه غاية واحدة : تعزيز دور نجله القيادي في اليمن.