لم يتخيل يوماً أن ينتابه ذلك الشعور تجاه وطنه، ويصبح بين ليلة وضحاها لاجئاً يبحث هنا وهناك عن مأوى يحميه… ياسر فايز شاب فى الثلاثينات من عمره عاش طيلة حياته مطمئناً فى موطنه السودان، قبل أن تُحول ويلات الحرب التي اندلعت شرارتها في 15 أبريل الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أمنه إلى خوف، ليقرر الخروج من بلاده من دون حتى أن يودع أباه وأمه.
- أيام متواصلة يقضيها السودانيون فى الطرق والممرات للخروج من موطنهم إلى دول الجوار
- الأهالي يشكون سوء أوضاع المعابر وغياب الخدمات وانعدام المرافق الحيوية
- حالات وفاة وإصابات نتيجة تكدس المواطنين فى المعابر واستغاثات لتحسين الأوضاع تخفيفاً للمعاناة
“شعرنا جميعاً بعدم الآمان وبدأت العائلات مغادرة البلاد، اضطررنا للتحرّك من منطقة الصحافة زلط غرباً ومنها إلى موقف الميناء البري، ومنه إلى ود مدني لمدّة ليلة ثمّ انتقلنا إلى منطقة بورتسودان لمدّة ليلتين، ومنها إلى معبر الحدود المصرية”… بتلك الكلمات بدأ فايز حديثه لـ“أخبار الآن” سارداً تفاصيل رحلة لجوءه إلى مصر، ومستذكراً أصعب التفاصيل التي ستبقى عالقة في ذهنه إلى الأبد.
طريق الهروب المضنية..
يقول فايز: “للأسف السودانيون لا يغادرون إلى أيّ من الدول الحدودية من دون تأشيرة دخول، حتّى في مصر فلا يُسمح لهم بالدخول سوى للنساء والأطفال، وذلك بخلاف مشكلة المعابر نفسها فالمعبر المصري السوداني مُرهق كثيراً، بسبب الاجراءات التي تتم بشكل تقليدي من جانب الدولتين، ناهيك عن طريقة التعاطي مع تلك المسألة والتباطؤ في تنفيذ الإجراءات التي من المفترض أن تسير بسلاسة وبوتيرة سريعة، والقدرة الاستيعابية المحدودة لتلك المعابر وخدماتها الضعيفة فلا طعام ولا شراب ولا حتى وحدات صحية وهذا كله يزيد من أعباءنا وأوجاعنا”.
عائلة ركابي خرجت من الخرطوم على وقع القصف .. إضغط هنا
على الرغم من صعوبة قرار الخروج، إلّا أنّ فايز لم يجد مفرّاً سواه لينجو بنفسه ويفي بالتزاماته تجاه عائلته الصغيرة، وعلى الرغم من اختلاف الأسماء والشخصيات إلّا أنّ الجميع يتشارك الأوجاع والهموم نفسها، فحال فايز كحال مئات الآلآف غيره ممن قرروا النزوح إلى دول الجوار، وفي مقدمتهم مصر، حيث تشير إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أنّه من المتوقع أن تستقبل مصر العدد الأكبر من اللاجئين السودانيين، ومن المتوقع وصول العدد إلى 350 ألفاً ووصل إجمالي العدد الذي نزح إلى مصر حتى الآن 50 ألفاً غالبيتهم من ذوي الاحتياجات الخاصة.
وتتمّ عملية النزوح عبر طرق وممرات يستغرق التنقل بينها ساعات وأحياناً أيّاماً متواصلة، تبدأ من الخرطوم مروراً بمنطقة دنقلا وصولاً إلى ميناء أركين ومنه إلى أسوان داخل الحدود المصرية.
دعوة لتسهيل الإجراءات عند المعابر
يضيف فايز: “في المعابر كان يتمّ توفير المياه بشكل تجاري استغلالاً للأزمة، وذلك يشكل خطراً كبيراً على المجموعات الموجودة هناك، والتي وصل عددها لمئات الآلاف، وقضينا أكثر من 15 ساعة داخل الأتوبيسات في انتظار فتح المعبر السوداني، والذي كان متوقفاً عن العمل، وذلك بالطبع معاناة كبيرة وصعبة”.
ساعات انتظار طويلة قضاها فايز فى طريق رحلة اللجوء وصلت إلى 36 ساعة للمرور من المعابر فقط، منهم 18 ساعة داخل الحانب السوداني وبقية الوقت داخل الحدود المصرية. يقول فايز: “كانت هناك فوضى عارمة فى كلّ شيء، المواطنون كانوا يفترشون الطرق ليناموا، والمشاهد كانت صعبة للغاية من شدّة الإرهاق والإعياء، ناهيك عن حالات الوفاة التي حصلت وتمّ التعتيم عليها لكي لا يتم نشر الهلع والفزع بين الناس”. ويختم فايز حديثه قائلاً: “أتمنّى أن يتمّ تسهيل الإجراءات على الناس في المعابر، لنخفف عنهم حجم الخسائر فيكفيهم أوجاع وتباعات الحرب فى بلادهم فلا نزيد أوجاعهم”.
وحتّى الآن، أدّت المعاركُ إلى مقتلِ نحوِ ثماني مئة شخصٍ وجرحِ الآلاف… ففي لعبة الحروب، هؤلاء جميعاً مجردُ أرقام، لكنْ ما أن نفتربَ من المشهد أكثر، حتّى نرى في تفاصيله، المأساةَ تبتسمُ أينما كان، في الداخل وعلى طريق الهروب، وعند المعابر وحتى في أماكن اللجوء. وبالنسبة لقادةِ الحرب، لا فرق مَنْ فر وهاجر ونزح، ومَنْ قُتل وجُرح وشُرد، كل ذلك لا يهم، الهمّ الوحيد بالنسبة لهم مَنْ ينتصر، ومَنْ هو الأقوى. للأسف ذلك هو قدر شعوب دولٍ عديدة في المنطقة العربية، التي تنتظر الحلول والفرج التي عادةُ ما تكونُ قصيرةَ الأجل، كما حالِ السودان اليوم.
عدسة هناء شاهدة على مآسي حرب السودان.. “سيّدة توفيت على طريق اللجوء”