فانية وتتدهور ( 7): مخيم الهول أم دار الجولاني؟ أسرار الولاية الأهم لـ”قادة داعش”

أطلقت قوات الأمن الداخلي التابعة لقوات سوريا الديمقراطية عملية أمنية جديدة داخل مخيم الهول، في أعقاب هروب 5 من نساء داعش اللائي كنّ محتجزات بالمخيم، أوائل مايو/ آيار الجاري، وشملت العملية إلقاء القبض على عدد من الشباب السوري والعراقي بجانب نساء من قسم المهاجرات في مخيم الهول الذي يُعد أكبر تجمع يضم من تبقى من أنصار داعش بعد انهيار خلافته المكانية.

وفي هذا السياق، ذكر أحدث تقرير صادر عن المفتش العام لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” حول عمليات التحالف الدولي والولايات المتحدة ضد تنظيم داعش، أن التنظيم ما زال يحتفظ بوجود في مخيم الهول وله خلايا تنشط داخل المخيم وحوله، كاشفًا أن أنصار داعش داخل المخيم يتلقون حوالات مالية تصل لـ200 ألف دولار شهريًا عن طريق “نظام الحوالة” غير الرسمي.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

تقرير المفتش العام للبنتاجون يتحدث عن تلقي أنصار داعش في مخيم الهول 200 ألف دولار شهريا عبر نظام الحوالة غير الرسمي

وتُبين كل تلك المعطيات أن مخيم الهول صار مركزًا هامًا لنشاط تنظيم داعش إذ يحوي آلاف من عناصر وأسر مقاتلي داعش، مما يعني أنه صار أشبه بـ”ولاية داعشية” أخرى، بينما يبقى قادة التنظيم طُلقاء ومتخفين في مناطق أخرى أهمها إدلب ومناطق شمال سوريا والتي تواجد بها كبار قادة التنظيم و3 من خلفائه الذين أعلن مقتلهم وهم أبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم القرشي وأخيرًا أبو الحسين الحسيني القرشي، الذي أُعلن مقتله دون تأكيد من التنظيم، حتى الآن.

وفي الواقع فإن إدلب ربما تكون الملاذ الآمن الأكبر لقادة داعش، وخصوصًا المسؤولين عن القيادة العليا والإدارة العامة للولايات التي تُعد العقل المُسير للتنظيم، ولعل مقتل أمير الإدارة العامة للولايات ونائبه في نطاق المدينة وريفها، خلال الفترة الأخيرة يعد دليل على ذلك.

فبعد نحو شهر على مقتل أبو سارة العراقي/ عبد الرؤوف المهاجر، أمير الإدارة العامة للولايات في داعش وأهم قادة التنظيم، أواخر فبراير/ شباط الماضي، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية  ” USCENTCOM” وجهاز المخابرات الوطني العراقي، كلًا على حدة، في أبريل/ نيسان الجاري، نجاحهما في قتل إياد الجبوري/ خالد الجبوري والذي عُرف أيضًا بـ”يعقوب المهاجر”، المسؤول عن عمليات تنظيم داعش في تركيا وأوروبا وأحد رفاق أبو سارة العراقي، بغارة استهدفته في ريف إدلب، شمال غربي سوريا.

وتمت العملية، حسب مصدر مقرب من المخابرات العراقية رفض الإفصاح عن اسمه لحساسية منصبه، بتنسيق بين المخابرات العراقية والقيادة المركزية الأمريكية إذ قامت الأولى باستدراج إياد الجبوري من دير الزور إلى إدلب، وجرى استهدافه من قبل الطائرات التابعة للقيادة المركزية أثناء جراءه مكالمة هاتفية أثناء توقفه على طريق بلدة كفتين قرب بلدة كللي بريف إدلب الشمالي.

ولم يكد يمضي وقت طويل على مقتل إياد الجبوري حتى أعلن الرئيس التركي مقتل خليفة داعش المفترض أبو الحسين الحسيني القرشي في منطقة عفرين بشمال غربي سوريا، وهو ما شكل صدمة أخرى للتنظيم وأنصاره، وعزز الشكوك حول وجود اختراق في قلب التنظيم.

ويتضح من المعلومات والتفاصيل التي ظهرت بعد مقتل قادة داعش، وجود اختراق في قيادة داعش العليا، وهو ما أشارت له “أخبار الآن” في سلسلة “فانية وتتدهور“، ومعاونة بعض قادة داعش لأجهزة الاستخبارات التي تعمل ضد التنظيم في الإيقاع برفاقهم داخل التنظيم، كما تُبرز وجود حرب وصراع سري بين قادة داعش العراقيين ونظرائهم السوريين الذين يبدو بعضهم منزعجًا من سيطرة العراقيين على التنظيم وساعيًا للتخلص من المشكلات التي سببوها لهم، وهو ما تحدث عنه منشقون عن التنظيم خلال الفترة الأخيرة.

ويعني مقتل أبو الحسين الحسيني وإياد الجبوري في ريف إدلب، في غضون وقت قصير من مقتل أبو سارة العراقي في نفس المنطقة، أن داعش ينظر إلى إدلب التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني على أنها ملاذ آمن لقيادتها في حين يبقى عناصر داعش وأسرهم قابعين في السجون وفي المخيمات كمخيم الهول وغيره، بعد أن تركهم داعش ليلاقوا مصيرهم المحتوم، وهو ما تتناوله القصة التالية:

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

لماذا لن ينقذ تنظيم داعش أبدًا أسر أفراده “الغير المهمين”

ولاية الهول أم إدلب؟

إلى ذلك، كشف منشقون عن تنظيم داعش وجود كتيبة خاصة تابعة لقيادة التنظيم تُعرف بـ”أنصار العفيفات” مهمتها تنفيذ عمليات حرق وذبح لأسرى وسجناء التنظيم في مخيم الهول، بحجة اختلافهم مع القيادة، مضيفين أن تلك الكتيبة نفذت هجمات عدة لم يتم التطرق لها في إعلام التنظيم.

وذكر المنشقون ومن بينهم قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي” أن تلك الكتيبة نفذت الهجمات بتوجيه وإيعاز من قيادة التنظيم في العراق وبعلم والي داعش، أبو خديجة العراقي، مردفين أن الكتيبة جرى نقل تبعيتها الإدارية، مؤخرًا، من ولاية العراق إلى ولاية الشام، على حد قولهم.

وتُشير تلك المعلومات إلى النهج الداعشي في التعامل مع الأسرى والسجناء الذين خدعهم داعش عندما أعلن خلافته المكانية ودعاهم إلى السفر إليها، ثم تركهم ليلقوا المعاناة في السجون ومخيمات الاحتجاز، بينما أمن التنظيم خروج قادته وأمراءه وأسرهم إلى ملاذات آمنة بديلة من بينها إدلب السورية التي تُسيطر عليها هيئة تحرير الشام، والتي أصبحت تُوصف، أحيانًا، بـ”الولاية الخفية والأهم لداعش”.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

ففي الـ24 من فبراير/ شباط الماضي، استهدفت طائرات التحالف الدولي (عملية العزم الصلب)، قياديًا جهاديًا بريف إدلب، وبعد جدل حول هوية القيادي الذي قُتل في هذه الغارة، أعلنت مصادر جهادية أنه أبو سارة العراقي، أمير الإدارة العامة للولايات في تنظيم داعش، والموصوف بأنه القيادي الأبرز في التنظيم.

مثل الإعلان عن مقتل أبو سارة العراقي مفاجأة بالنسبة لأنصار داعش فعلاوة على أنه شغل منصبًا بارزًا في القيادة العليا لداعش وكانت تحت يديه إدارة المكاتب والأفرع الخارجية للتنظيم في إفريقيا وآسيا، جاء مقتل القيادي الداعشي في ريف إدلب ليثير تساؤلات حول الملاذ الآمن أو الولاية الخفية لداعش في إدلب السورية التي تُسيطر عليها هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني.

وفي أعقاب الإعلان عن مقتل أبو سارة العراقي، أصدرت قيادة داعش العليا تعميمًا جديدًا يحظر على عناصره استخدام الهواتف المحمولة، وشددت على منع تواصل أي من أفراد التنظيم مع سجناء وأسرى داعش في السجون العراقية والسورية لا سيما في مخيم الهول ومقرات الاحتجاز التي تُديرها القوات الكردية في شمال العراق بسبب الاختراقات الأمنية التي حدثت داخل التنظيم، قاصرة التواصل مع هؤلاء الأسرى على عناصر ما يُعرف بمكاتب الأسرى الداعشية.

وكشفت التطورات الأخيرة عن جزء من المشاكل المحورية التي يُعاني منها داعش، منذ الفترة التي سبقت انهيار خلافته المكانية في مارس/ آذار 2019، والتي تتعلق بالمعاملة التميزية بين الأمراء الذين يحظون بملاذات آمنة في خارج مناطق النشاط العملياتي للتنظيم، وبين الأفراد العاديين وأسرهم والذين تُركوا يواجهون مصيرهم المحتوم ليساقوا، في نهاية المطاف، إلى السجون والمخيمات في الهول وغيره.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

دار الجولاني.. وبراجماتية داعش

وعلى نفس الصعيد، تُلمح تلك التطورات إلى التناقضات التي وقع فيها تنظيم داعش الذي يتسم ببراجماتية في مواقفه المختلفة، فرغم أن التنظيم يعتبر إدلب أو “دار الجولاني” بمثابة دار كفر لأنها لا تُحكم من قبل التنظيم إلا أن قادة وأمراء داعش البارزين بما في ذلك 2 من خلفائه السابقين هما أبو بكر البغدادي، وأبو إبراهيم القرشي/ حجي عبد الله قرداش، أقاموا في إدلب مع أن الفقه الحركي الذي يتبناه داعش يحرم الإقامة في دار الكفر.

وسبق للتنظيم أن انتقد على لسان متحدثيه الرسميين وفي مقدمتهم أبو محمد العدناني، المتحدث الأسبق باسم داعش، الفرار أو الإقامة في ديار الكفر، كما يسميها، وانتقد “العدناني” في كلمته المعنونة بـ”قل للذين كفروا ستُغلبون” والتي نشرتها مؤسسة الفرقان الإعلامية في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، عناصر التنظيم الذين يهربون من مناطق سيطرته إلى ديار الكفر، كما يسميها، معتبرًا أنهم “يبتغون العزة عند القوم الحقراء”، وفق تعبيره.

وتوعد أبو محمد العدناني في كلمته المذكورة بأن يُحرر داعش الأراضي السورية المحررة من سيطرة نظام الرئيس السوري بشار الأسد في إشارة إلى إدلب ومناطق سيطرة الفصائل السورية المسلحة، مضيفًا أن التنظيم سيقاتل كل الجماعات والفصائل التي لا تدين له بالولاء وسيطردها من مناطق سيطرتها.

وصرح أمير هيئة الهجرة، إحدى أهم الهيئات الداعشية، في حوار أجرته معه صحيفة النبأ، الصادرة عن ديوان الإعلام المركزي لتنظيم داعش، في عددها الـ49 بأن الهيئة التابعة للتنظيم تقبل هجرة المقاتلين والأفراد إلى مناطق نشاطه ومعاقله وتمنع الراغبين في الخروج منها إلى مناطق أخرى لأنها “دار الكافرين”، حسب تعبيره.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

وبناءً على الرؤية السابقة، أقدم مقاتلو التنظيم على إعدام المدنيين الذين حاولوا الخروج من المدن في العراق وسوريا التي سيطر عليها داعش، حينما حوصرت تلك المدن، بدعوى الخوف من وقعهم في الكفر والردة على حد تعبيرهم، وهو ما وثقه الأمني السابق بالتنظيم أبو مسلم العراقي في شهادته التي نشرتها مؤسسات منشقة عن داعش بعنوان: “شهادة أمني تائب”.

وبدوره، ذكر الباحث التونسي هادي يحمد في كتابه “كنت في الرقة.. هارب من الدولة الإسلامية“، نقلًا عن محمد الفاهم أحد عناصر داعش المنشقين، أن التنظيم خطط في 2015، وقبل أيام من كلمة أبو محمد العدناني المذكورة، لإطلاق غزوة للسيطرة على مدينة إدلب السورية وإعلان “ولاية إدلب”، وذلك بعد سيطرة جبهة النصرة- نواة هيئة تحرير الشام- عليها في نفس العام، لكن تلك الغزوة أُلغيت في الساعات الأخيرة بطرييقة غامضة دون تقديم مبرر من قيادة داعش لمقاتليه الذين جرى حشدهم من مناطق مختلفة للمشاركة في معركة إدلب، ولعل السبب الحقيقي كان عدم رغبة قيادة داعش في خسارة إدلب التي عولوا عليها لتكون ملاذا آمنًا يمكن إيواء قادة التنظيم فيه بعد سقوط الخلافة المكانية.

ومع أن التنظيم ظل يعتبر إدلب دار كفر وحرم على عناصره الإقامة فيها، خلال السنوات التالية، إلا أن عدد القادة والأمراء الذين جرى الكشف عن إقامتهم في تلك البقعة من شمال سوريا، يؤكد أن تنظيم داعش تلاعب بأعضاءه وسمح لقادته وأسرهم- وآخرهم أبو سارة العراقي/ عبد الرؤوف المهاجر- بالتواجد في “دار الجولاني” من أجل تأمينهم وإبعادهم عن ساحات المعارك المشتعلة في مناطق أخرى كالبادية السورية والعراقية، وهو ما لفت إليه “أبو مسلم العراقي” في شهادته.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

أبو مسلم العراقي يروي تفاصيل إخراج عائلات أمراء داعش من مناطق القتال- المصدر شهادة أمني تائب الجزء الثاني

لغز إدلب والعلاقة بين رجال الجولاني وقادة داعش

وفي سياق متصل، راجت عدد من الشائعات التي تقول إن لجوء قادة داعش البارزين إلى إدلب أو دار الجولاني ارتبط بتنسيق سري بين قيادة التنظيم العليا وأمراء فصائل مسلحة في شمال سوريا منهم قادة بارزين في هيئة تحرير الشام وتنظيم حراس الدين، الفرع السوري للقاعدة.

فوفقًا لتقرير سابق نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” فإن داعش دفع أموالًا تُقدر بآلاف الدولارات لتنظيم حراس الدين من أجل إيواء قادة بارزين بالتنظيم الأول من بينهم خليفة داعش (الأسبق)، أبو بكر البغدادي، وجرى الكشف عن هذا الأمر بعد العثور على وثائق من أرشيف داعش حول المدفوعات التي خُصصت لإيجاد ملاذ آمن لقادة داعش.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

وثيقة من أرشيف داعش تُثبت دفع التنظيم أموالا لإيواء قادة داعش في إدلب

كما أشارت مصادر مقربة من الفصائل السورية المسلحة في شمال سوريا، أواخر فبراير/ شباط 2023، إلى أن أبو سارة العراقي والذي عُرف باسم مستعار آخر هو “أبو عبادة العراقي” كان مقررًا أن يجتمع بالقيادي البارز بهيئة تحرير الشام، أبو مارية القحطاني، في سرمدا قبل استهداف الأول من قبل طائرات التحالف على طريق “قاح- دير حسان”.

ومن الجدير بالذكر أن عدد من كبار قادة هيئة تحرير الشام عملوا سابقًا كقادة في تنظيم داعش ونسخته الأسبق تنظيم دولة العراق الإسلامية، بما في ذلك أبو مارية القحطاني، والقيادي أبو أحمد حدود المسؤول عن إدارة المعابر والمناطق الحدودية في “تحرير الشام”، والذي كان مسؤولًا عن إدارة ملف الحدود والتهريب في داعش قبل التمدد لسوريا وتأسيس جبهة النصرة كفرع للتنظيم هناك، عام 2013، قبل أن تنشق الأخيرة عن التنظيم.

وما بين الفينة والأخرى تُثار شكوك حول وجود علاقة بين بعض قادة هيئة تحرير الشام، ونظرائهم في تنظيم داعش، ومن المحتمل أن يكون بعض قادة وأمنيي الهيئة يتعاملون ببراجماتية مع داعش فيوفرون ملاذًا آمنًا لقادة داعش مقابل الحصول على أموال أو منافع، ويقومون في نفس الوقت بالتعامل مع التحالف الدولي والوشاية بهم بحيث يبدو أن الهيئة حليف من حلفاء التحالف الدولي والولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، كما يحاول أبو محمد الجولاني أن يصورها.

وعلى كل الأحوال، يؤكد لجوء قادة داعش إلى إدلب أو دار الجولاني أن هناك نوع من التفاهمات أو العلاقات السرية التي انتقل بموجبها قادة داعش إلى تلك المنطقة من أجل الإقامة وإيجاد ملاذ بديل في ظل اشتداد حملة مكافحة الإرهاب واستهداف قادة التنظيم بالعراق وسوريا وخارجهما، وهو ما يعني أن دار الجولاني قد تكون “الولاية الخفية والأهم” لداعش، وهذا يُشكك أيضًا في دعاوى أبو محمد الجولاني وهيئة تحرير الشام بشأن انخراط الهيئة في محاربة التنظيمات الجهادية المعولمة وعلى رأسها داعش، ويجعل من دار “الجولاني” دارًا للكذب العابر للحدود.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

عناصر داعش والشتات الجهادي

وفي المقابل، تسلط وثائق مسربة من أرشيف داعش بجانب شهادات عديدة من مقاتلين ومنشقين عنه عدم اكتراثه بعناصره وأفراده العاديين فضلًا عن أسرهم، ففي الوقت الذي تنعم فيه القادة بملاذات آمنة نسبيا ونقلوا أسرهم خارج معاقل التنظيم، عانى بقية أفراده من نقص في الحاجات الأساسية وأجبروا على الانتقال من منطقة إلى أخرى حينما كانت خلافة داعش المكانية تنهار، إلى أن استقر الأمر بغالبيتهم أسرى في السجون ومحتجزين في مخيمات مثل مخيم الهول وغيره، وهو ما يُجسد الشتات الجهادي الذي تتحمل قيادة داعش العليا مسؤوليته.

وذكرت وثيقة صادرة عن ديوان الجند بداعش، سُربت من أرشيف التنظيم، أن الأمراء والقادة أهملوا تجهيز الجبهات والمقاتلين في مناطق مختلفة مما عُرف بالخلافة المكانية، فضلًا عن ولاة التنظيم رفضوا صرف أي أموال لتحصين القرى والمناطق التي يتواجد بها عناصر داعش، وهو ما أدى لسقوط تلك المناطق في قبضة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والقبض على المئات من أتباع التنظيم وأسرهم والذين استسلموا لـ”قسد”، وسيقوا إلى المخيمات ومقرات الاحتجاز.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

تقرير من ديوان الجند بداعش يكشف إهمال التنظيم في تحصين المناطق التي تواجد فيه عناصره وأسرهم وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الخلافة المكانية

وتُجيب الوثائق المسربة من أرشيف داعش عن جزء من السؤال الذي لطالما طرحه مناصرون للتنظيم والذي يتعلق بأسباب الهزيمة والانهيار الذي ضربه وأدى لانهيار خلافته المكانية، كما أنها توضح وجود نوع من الخيانة في صفوف الأمراء والقادة الذين لم يعبئوا بمصير أتباعهم، وهو نفس ما ردده أبو بكر البغدادي، الخليفة الأسبق، الذي اعتبر أن هناك خيانة وتخاذل في قلب قيادة داعش العليا أودت به إلى مصيره الحالي، حسبما روى عديله محمد علي ساجت، والذي يُعد أيضًا من قادة التنظيم.

ولعل من أبرز مظاهر هذه الخيانة، قيام قادة وأمراء داعش بإنقاذ أنفسهم وأسرهم والهرب إلى مناطق خارج دائرة العمليات العسكرية سواء في العراق أو سوريا أو خارج الدولتين إلى تركيا أو غيرها، وتضحيتهم بجنود وعناصر داعش، وهو ما اعترف به أبو حمزة الكردي، أمير هيئة الحرب بالتنظيم سابقًا، الذي رفض نقل أسرته من بغداد إلى معاقل الخلافة المكانية حينما كانت موجودة.

وفر “الكردي” عندما انهارت خلافة داعش إلى دولة مجاورة للعراق ثم عاد واستقر لدى أسرته بالعاصمة العراقية قبل أن يتم إلقاء القبض عليه وفق ما أفاد في حوار سابق، وهو ما ذكره أيضًا الأمني المنشق أبو مسلم العراقي في شهادته على التنظيم.

وأوضح أبو مسلم العراقي في الجزء الثاني من شهادته على داعش، أن قيادة داعش العليا أوقفت صرف العطايا المالية الشهرية “الكفالات” لمقاتليه الأجانب (المهاجرين) الذين عانوا من فقر وعوز شديدين قبيل انهيار الخلافة المكانية في مقابل إرسال الأموال للقادة العراقيين وأسرهم علاوة على دفنهم أطنان من الذهب والأموال ليستخرجها القادة بعد هزيمة التنظيم، وهي الأموال التي وجد الرعاة المتنقلون في الصحراء جزءًا منها، على حد قوله.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

أبو مسلم العراقي يوضح كيف تمتع قادة داعش بالأموال والرفاهية وتركوا الجنود وأسرهم يعانون

آلاف من الأسرى والسجناء

وأفضت تلك الممارسات، بجانب أسباب وعوامل أخرى، إلى القبض على الآلاف من مقاتلي داعش وأسرهم والذين سجنوا في مخيمات وسجون عديدة بين العراق وسوريا، أشهرها مخيم الهول الذي يضم وحده نحو 56 ألف من عناصر التنظيم وأسرهم.

ولطالما حاول داعش أن يمتص غضب وسخط السجناء ومن خلفهم أتباعه ومناصريه بشكل عام الذين تشغلهم قضية الأسرى، وذلك عن طريق مغازلتهم بالحديث عن حملة هدم أسوار جديدة تستهدف إطلاق سراحهم من السجون والمخيمات، وهو ما شدد عليه المتحدث الحالي باسم داعش أبو عمر المهاجر في أكثر من مناسبة منها كلمته الصوتية الأخيرة، الصادرة في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، عن مؤسسة الفرقان الإعلامية التي قال فيها إن خليفة التنظيم أبو الحسين الحسيني تعهد بالعمل على فكاك الأسرى، وفق تعبيره.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

المتحدث باسم داعش أبو عمر المهاجر يقول إن أمير داعش الحالي أبو الحسين الحسيني تعهد بالعمل على إطلاق سراح سجناء التنظيم

ويلعب داعش، بين الفينة والأخرى، على وتر العمل على إطلاق سراح السجناء باعتباره أداة لكسب الزخم والحصول على الشرعية التنظيمية والتأييد في صفوف عناصر وأتباع داعش، ولذا فإن متحدثي داعش ينقلون عن كل خليفة أو زعيم من خلفاء التنظيم قوله بأنه لم ينسْ السجناء والأسرى وأنه يعمل على فكاكهم، حسبما يقول.

وعلى الجهة الأخرى، تبين رسالة أرسلها أبو محمد العراقي، أحد قادة داعش، إلى والي العراق (السابق) أبو ياسر العيساوي- قُتل في يناير/ كانون الأول 2021- أن قيادة داعش العليا حلت ما عُرف بالمكتب المركزي لفكاك لأسرى والذي كان مسؤولًا عن أسرى التنظيم في العراق وسوريا، ونقل اختصاصاته إلى مكاتب أخرى موزعة على مناطق فرعية وبقيت تلك المكاتب شكلية فقط وليست حقيقية، واستند العمل فيها إلى العلاقات والمعارف التي تجمع أمراء المكاتب والمسؤولين عنها وغيرهم من العناصر، مما يعني أن ملف الأسرى/ السجناء المتواجدين في مخيم الهول وغيره، خضع أيضًا للتمييز الطبقي بين الأمراء والجنود.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

رسالة القيادي أبو محمد العراقي لوالي العراق بداعش عن سجناء التنظيم

وتُثبت مراسلة أخرى بين أبو سارة العراقي، أمير الإدارة العامة للولايات سابقًا، أن قيادة داعش العليا كلفت جميع أفرعها الخارجية بالعمل على اختطاف دبلوماسيين أتراك مع أفراد أسرهم، لاستخدامهم في الضغط على الحكومة التركية والتفاوض معها من أجل إطلاق سراح أمراء داعش وأسرهم وزوجاتهم الذين أُلقي القبض عليهم خلال الفترة الأخيرة من عمر الخلافة المكانية وما تلاها من سقوط قرية الباغوز في قبضة قوات سوريا الديمقراطية.

وتلفت الرسالة السابقة إلى أن تركيز قيادة داعش العليا انصب على تحرير أمراء التنظيم وأسرهم وزوجاتهم الذين جرى تهريبهم إلى تركيا قبل انهيار خلافة التنظيم من أجل تأمينهم وإبعادهم عن الخطر، مقابل التضحية بالأفراد والعناصر المنتمين للتنظيم وأسرهم الذين ما زال أغلبهم في مخيم الهول وغيره من المخيمات والسجون.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

وثيقة داعش عن اختطاف دبلوماسيين أتراك

وفي سياق متصل، أصدرت قيادة التنظيم في العراق وسوريا، بعد مقتل عدد من أمراءه في البلدين بما فيهم أبو سارة العراقي، قرارًا بحظر استخدام أعضاءه للهواتف المحمولة، ومنعهم من التواصل مع الأسرى/ السجناء، باستثناء مسؤولي مكاتب فكاك الأسرى، وقتل أي عنصر يُخالف هذه التعليمات بدعوى الردة.

وعللت قيادة داعش هذا القرار بوجود اختراقات وجاسوسية في صفوف التنظيم، وتعاون عدد من الأسرى مع القوات الأمنية في الإيقاع بقادة داعش، بحسب ما ذكرته قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي” التي يديرها منشقون عن التنظيم.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

داعش يمنع عناصره من التواصل مع أسراه في السجون والمخيمات- المصدر قناة فضح عُباد البغدادي والهاشمي

“أنصار العفيفات” وتصفية أسرى داعش بأيدي التنظيم

ولا يُعد الحديث عن اختيار أسرى وسجناء من داعش التعاون مع القوات الأمنية في العراق وسوريا أمرًا جديدًا، بيد أنه يعكس وجود حالة من الغضب لدى هؤلاء العناصر تجاه قيادة داعش الذين يحملونها مسؤولية المعاناة التي يعيشونها والشتات الجهادي الذي باتوا فيه.

لكن الأكثر إثارة للجدل في هذا الصدد، هو وجود كتيبة خاصة داخل داعش تتولى عمليات الحرق والتصفية والاغتيال داخل مخيم الهول، على وجه التحديد، وهذه الكتيبة كانت تتبع قيادة داعش في العراق، وتلقت تعليمات بحرق خيام بعض السجناء والسجينات وأسفر ذلك عن سقوط ضحايا من بينهم أطفال.

وتُعرف هذه الكتيبة باسم “أنصار العفيفات”، حسبما ذكرت قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي”، ونفذت العمليات داخل مخيم الهول بتكليف وتوجيهات من قيادة داعش في العراق وعلى رأسهم والي العراق، أبو خديجة العراقي، الذي راجت أنباء عن مقتله في فبراير/ شباط الماضي دون أن يتم تأكيدها حتى الآن.

وركزت “أنصار العفيفات” على استهداف السجناء والسجينات الذين يختلفون في الرؤية مع قيادة التنظيم، وكذلك العناصر الذين يرغبون في الانشقاق عن داعش أو الذين رفضوا إعطاء البيعة لخليفة التنظيم.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

أنصار العفيفات كتيبة داعشية لاغتيال الأسرى داخل مخيم الهول

وقالت قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي” إن كتيبة “أنصار العفيفات” نقل اختصاصها، مؤخرًا، من ولاية العراق إلى ولاية الشام، بينما تم التكتم على العمليات التي نفذتها وتجنب إعلام داعش أي ذكر لها حتى لا تنفضح الهجمات التي نفذتها ضد أسرى وسجناء التنظيم.

ويؤكد نقل اختصاص وتبعية كتيبة “أنصار العفيفات” من ولاية العراق إلى ولاية الشام وجود ازدواج إداري بين قيادة داعش في العراق ونظيرتها في سوريا، وهو ما ركزت عليه “أخبار الآن” في تقرير سابق، وهذا الازدواج أدى إلى وقوع خلافات بين القيادة العراقية ونظيرتها السورية خصوصًا في ما يتعلق بتسيير العمل في مخيم الهول.

ونتيجة وجود الخلافات بين قيادة داعش في العراق وسوريا، نفذت مفارز أمنية تابعة لكل منهما عمليات قتل وذبح وحرق للمحسوبين على مخالفيهم، وتفرق دم أتباع داعش في الهول بين ولاية العراق، وولاية الشام، وهو ما يعطي دليلًا إضافيًا على تضحية داعش بأتباعه واستخفافه بدمائهم ووجود تمييز عنصري وطبقي بين الأمراء والقادة وبين الجنود والأنصار.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

السبب الحقيقي لفقدان داعش طريقه نحو دابق

الخلاصة:

تكشف التطورات التي مرت بداعش، خلال الفترات الأخيرة، أن التنظيم الذي يُقدم نفسه كقائد للحركة الجهادية المعولمة ليس إلا منظمة براجماتية تُفرق في التعامل بين قادتها وجنودها، ففي حين يتم تأمين القادة وزوجاتهم وأسرهم ونقلهم إلى ملاذات آمنة يتم التضحية بعناصر التنظيم وأسرهم ويتركون ليلقوا مصيرهم في سجون ومخيمات الاحتجاز في سوريا والعراق وغيرهما.

ومن الواضح أن قيادة داعش العليا أنشأت قواعد عملياتية كبيرة لها في شمال سوريا بصورة مكنتها من إيواء جل قادة داعش البارزين بما في ذلك 2 من خلفائه هما أبو بكر البغدادي، وأبو إبراهيم القرشي/ حجي عبد الله قرداش بجانب أمراء بارزين وفاعلين مثل أبو سارة العراقي الذي أدار التنظيم وأفرعه الخارجية أثناء إقامته في إدلب السورية، قبل مقتله في فبراير الماضي.

بين دار الجولاني ومخيم الهول.. كيف ضحى أمراء داعش بأنصارهم؟

غير أن هذا الوجود اللافت لكبار قادة داعش في إدلب التي تُسيطر عليها هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني، يسلط الضوء على وجود نوع من العلاقات غير المعلنة بين بعض قادة الهيئة ونظرائهم من أمراء التنظيم، وهو الأمر الذي راجت حوله شائعات كثيرة في فترات سابقة.

وليس ببعيد عن ذلك، يبقى سجناء وأسرى تنظيم داعش في السجون ومخيمات الاحتجاز يعانون في ظل ظروف استثنائية وقاسية، بينما لا تعبأ بهم قيادة داعش، والتي لم تكتفِ بالمصير الذي أوصلته لهم فأنشأت كتائب ومفارز أمنية لتنفيذ عمليات حرق واغتيال وذبح في قلب المخيمات وفي مقدمتها مخيم الهول الذي لا يزال يُشكل معضلة عصية على الحل، حتى الآن.