على مرّ التاريخ كانت الهجرة سمة الشعوب العربية التي تبحث عن مكان آمن، لا سيما من دول تمزقها الصراعات المسلّحة وتؤرقها الإضطرابات السياسية المستمرة. هي ظروف يحاول الشباب العربي القفز فوقها لتأمين مقومّات المستقبل الأفضل والجيّد، في إطار سعيهم لتغيير الواقع المرير في بلدانهم. أوروبا هي واحدة من تلك الوجهات التي يقصدها هؤلاء، ويعتبرونها مكاناً يمكن أن يسمح لهم تحقيق طموحات تقف في وجهها معوقات كثيرة في بلدانهم.
قصص العرب في اللجوء
والقصة اليوم في ليتوانيا، حيث كانت لـ”أخبار الآن” محطّة مهمّة في العاصمة فيلنيوس، تمكّنت فيها من اللقاء بعدد من الشبان العرب، من جنسيات مختلفة، سوريا، العراق، الأردن ولبنان. تختلف تفاصيل قصص هؤلاء بالتأكيد، لكنّها تتشابه في العمق نظراً لتماهي الأسباب. وفي السنوات الأخيرة، شهدت ليتوانيا تدفقاً متزايداً للاجئين العرب الباحثين عن فرص جديدة، وعن مكان يبدأون فيه حياة جديدة بعيداً من الحروب وضياع سنواتهم.
تحديات كثيرة تواجه الشباب العربي في الجوء
في مخبز يقع في أحد شوارع فيلنيوس، يعمل ياسر منذ ساعات الصّباح الأولى وحتّى وقت متأخّر، لكنّه رغم ذلك التعب فهو راضٍ وسعيد بما يقوم به، لاسيّما أيضاً بعدما حصل على الإقامة في ليتوانيا. هذا الشّاب السّوري كان ذهب إلى روسيا لكنّه لم يحصل من قبل السلطات هناك على أيّ أوراقٍ تساعده على البقاء أو الاستمرار في البلاد، فعاد أدراجه وانتهى به الأمر في ليتوانيا.
يقول ياسر: “غادرت سوريا منذ العام 2013 بسبب الحرب إلى موسكو وبقيت هناك 6 سنوات، لكن بعد ذلك جئت إلى ليتوانيا لأنّ السلطات الروسية لم تمنحني أيّ أوراق رسمية تساعدني على البقاء، ودائماً كانوا يقولون لي إنّ الوضع في سوريا طبيعي وعليك أن تعود إلى هناك، وذلك فقط من اجل أن يجرّونا إلى الحرب. أغلب أصدقائي هناك يواجهون الأمر نفسه. أتيت إلى ليتوانيا وواجهت صعوبات في البداية لكنّ أموري اليوم جيدة لاسيما بعدما حصلت على الإقامة”.
ثمّة الكثير من الصّعوبات تواجه ياسر وغيره، لكنّ هؤلاء يبذلون كلّ ما في وسعهم للتّكيّف مع محيطهم من خلال تعلّم اللّغة اللّيتوانيّة والاندماج في المجتمعِ هناك. وفي المقابل، تعمل حكومة ليتوانيا بالتّعاون مع المنظَّمات غير الحكوميَّة والمجتمعِ المحلّيّ على توفير الدّعم ومساعدة اللاجئين من أجل تسهيل عمليّة الاندماج.
“مستحيل أن أعود إلى سوريا مجدداً”
لإياد العليّ أيضاً قصّته، فقد هرب وعائلته من الحرب في سوريا متوجّهين إلى ليتوانيا، وهو اليوم يعمل كطاه في فرن المهاجر الأردني معتصم العزّام. يقول إيّاد لـ”أخبار الآن“: “وصلت برفقة زوجتي وأولادي إلى مخيم اللاجئين في ليتوانيا، وقد واجهنا الكثير من التحدّيات. كان من الصعب التكيّف مع البيئة الجديدة واللغة والثقافة. لكن بصمود وإصرار، دخلنا في برنامج الإندماج وحصلنا على الإقامة وحقّ اللجوء وأولادي حالياً في مدرسة يتعلمون اللغة وأتابع عملي كطاه في أحد أفران فيلنيوس، وبفضل الدعم والتعاون من المجتمع المحلي والمنظمات غير الحكومية، تمكّنا من بناء حياة مستقرّة هنا في ليتوانيا، فأصبح لدينا عمل مناسب وتمكنا من توفير احتياجاتنا الأساسية، وبعد كل ما تحقق أرى أنّه من المستحيل أن أعود إلى سوريا”.
معتصم العزّام مقيم في ليتوانيا منذ 20 عاماً، وقد أسّس مشروعاً صغيراً لتوفير فرص عملٍ للّاجئين العرب ومساعدتهم على الاندماج. فهو يدير فرناً في أحد شوارع العاصمة فيلنيوس وكلّ الموظّفين فيه من العرب. يقول: “وصلت كطالب إلى ليتوانيا وأعجبتني البلد فقررت أن أستقر فيها، ومنذ سنتين قمت بإطلاق مشروعي لفتح مطعم عربي تقليدي، حيث يعمل اللاجئون العرب كفريق. بدأت بالبحث عن مكان مناسب وأعددت خطة عمل شاملة لتشغيل المطعم، وقد بدأت بتوظيف اللاجئين العرب الذين يمتلكون مهارات في المطبخ العربي، وقمت بتدريبهم وتزويدهم بالمهارات اللازمة للعمل في المطعم بمهنية وجودة عالية”.
وتابع: “من خلال فتح المطعم، سعيت لتوفير فرص عمل مستدامة وكريمة للاجئين العرب، ما يساهم في تحسين حياتهم وظروفهم المعيشية، وأخطط في المستقبل إلى المزيد من المشاريع التي تدعم اللاجئين”.
رغم الدعم.. ثمّة قلق من الهجرة المتزايدة
تتعاون الحكومة الليتوانية مع المنظمات الدولية لتوفير الدعم اللازم للمهاجرين العرب، ومن ذلك الدعم الإسكان والرعاية الصحية والتعليم والتدريب المهني. وتسعى الحكومة أيضاً إلى تعزيز الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمهاجرين العرب في المجتمع المحلي. ومع ذلك، تشعر المجتمعات المحلية في ليتوانيا بالقلق بشأن تدفق اللاجئين العرب إلى البلاد، وذلك يعكس القلق العام الذي يشعر به المجتمع الأوروبي بشأن الهجرة غير الشرعية. ومع ذلك، يعمل العديد من الجهات على تعزيز التعايش والتضامن بين المجتمعات المحلية واللاجئين العرب في ليتوانيا، وتشجيع الاندماج الثقافي والاقتصادي للأجئين في المجتمع.
علي الجزيري لاجئ آخر من العراق غادر بلده بسبب الأوضاع السّياسيّة والأمنيّة ليجد في ليتوانيا مكاناً آمناً يؤمن له حياة هادئةً. واجه علي في البداية صعوباتٍ عديدة فخاض غمار التّحدّي وقد انخرط في برامجِ تدريبٍ وتعليمٍ لتحسين مهاراته اللّغويّة والمهنيّة. يقول الجزيري لـ”أخبار الآن: “أتيت إلى ليتوانيا منذ أكثر من سنة بسبب الظروف الأمنيه والسياسية في العراق. عندما وصلت، كان لديّ الرغبة الكبيرة في مواصلة تعليمي وتحقيق طموحاتي الأكاديمية. كانت بدايتي صعبة، حيث كان عليّ التكيّف مع الثقافة واللغة الجديدة، لكنّني لم أفقد الأمل، بل قرّرت أن أعتبر تلك التحديات فرصاً للنمو والتطور. بدأت بالتعلم الجاد للغة الليتوانية”.
يتابع: “كنت محظوظاً لأنّني وجدت دعماً رائعاً من المدرسة والمعلمين، الذين ساعدوني في تجاوز التحديات الأكاديمية والاندماج في البيئة التعليمية الجديدة. وقد قمت بتسجيل نفسي في مدرسة محلية، واليوم أستكمل دراستي في ليتوانيا بكل انتظام وتفانٍ، وأتطلع إلى تحقيق أحلامي والنجاح الأكاديمي في ذلك البلد الذي قدّم لي الأمان والفرصة”.
أندي محفوظ هو أيضاً كان يحلم بمواصلة تعليمه في مجال الطّب البيطري، لكنّ ذلك الحلم اصطدم بالظروف الصّعبة وانعدام الاستقرار السّياسي والاقتصادي في لبنان، فقرّر البحث عن فرصةٍ لتحقيقِ حلمه في الخارج.
يقول أندي لـ”أخبار الآن”: “أنا من لبنان أتيت إلى ليتوانيا منذ 5 سنوات كي أتابع دراستي في الطب البيطري بسبب الأوضاع الأمنية والإقتصادية في لبنان، ويوجد العديد من اللبنانيين أيضاً في الجامعة هنا حيث أدرس. ولحسن الحظ، وجدنا ترحيباً ودعماً من الأساتذة في التكيف مع الثقافة واللغة الجديدة، وأعتبر ذلك فرصة للتطور الشخصي وبناء مستقبلي، كما أتطلع إلى تحقيق أحلامي وتحقيق النجاح الأكاديمي في ذلك البلد الذي قدّم لي الأمان والفرصة”.
في ذلك التقرير إذاً، التقينا 5 شبّان عرب لاجئين من دول مختلفة، لنجمع من خلال ذلك وببساطةٍ تامّة، معاناةَ 4 شعوب لدول يوخز الفساد بعضها وينخر بعضها الآخر. يحاولون جميعاً بناء حياةٍ جديدةٍ بعيدةٍ من الحرب والفساد وانعدام مقوِّمات الحياة الكريمة قد يكونون سعداء في حاضرهم اليوم ومطمئنون لمستقبلهم لكن يتحسّرون على ماضيهم الذي يحتضن ذكرياتهم الجميلة والأليمة. والمؤلم أكثر أنّ البعض لم يعد يفكّر بالعودة إلى الوطن حتّى.
تلك مجرد أمثلة قليلة من العديد من قصص اللاجئين العرب في أوروبا. تلك القصص تبرز قدرة الإرادة والتحديات التي يواجهونها، وتعكس أيضاً إصرارهم على بناء حياة جديدة والمساهمة في المجتمعات التي يعيشون فيها.
شاهدوا أيضاً: عدد سكانها 500 نسمة.. ما لا تعرفونه عن قرية “قرق تتار” أو “الأربعين تتار” في ليتوانيا