في صباح السبت الموافق 17 يونيو الجاري، قضى ما لا يقل عن 41 شخصًا معظمهم تلاميذ في هجوم إرهابي على مدرسة ثانوية في غرب أوغندا، وهو الهجوم الأسوأ من نوعه في البلد منذ سنوات. وأفاد ناطق باسم الشرطة الأوغندية أن الهجوم نفذه عناصر من ميليشيا القوات الديموقراطية المتحالفة مع تنظيم داعش الإرهابي.
ويأتي الهجوم في وقت يعمل فيه التنظيم الإرهابي على الترويج لفكرة أنه يتمدد في القارة السمراء، مكثفًا دعايته للهجمات التي يتبناها في مناطق متفرقة من إفريقيا.
لكن مزاعم النجاح في إفريقيا تثير العديد من التساؤلات خاصة بعد مقتل أبو سارة العراقي، فما هو دور قيادة داعش المركزية على الفرع الإفريقي؟ وإذا أصبحت الأفرع الإفريقية هي قصة النجاح الرئيسية لداعش، فلماذا يستمرون في الولاء لخلفاء مجهولين؟ ولماذا يهتم الأفارقة بما يقوله البعثيون العراقيون؟ بالطبع يستحيل على إعلام داعش الإجابة على مثل هذه التساؤلات، لأنها تكشف مدى الغيبوبة التي يعاني منها التنظيم.
وتكشف وثائق وشهادات من داخل داعش بالإضافة إلى إحصائيات العمليات الصادرة عن التنظيم وجود تراجع عام يضرب أركانه الداخلية وينذر بأن حالة التمدد المفرط وغير المخطط التي دفع داعش نفسه لها في إفريقيا وخارجها تنذر بتشظي واسع داخله، بصورة ينقلب معها شعاره وعلامته الجهادية من “باقية وتتمدد” إلى “فانية وتتدهور”.
وتتناول هذه القصة وضع داعش في إفريقيا انطلاقًا من سؤال هل يتمدد داعش في القارة السمراء أم أنه يتدهور وقد يتبدد؟ وهو ما تركز عليه السطور التالية:
في افتتاحية العدد 394 من صحيفة النبأ الأسبوعية الصادرة عن داعش دعا التنظيم الإثيوبيين إلى الانضمام له والوقوف في وجه ما وصفه بـ”الحملة الصليبية” ضد المسلمين في إثيوبيا، محاولًا استغلال الصدامات الأخيرة التي وقعت في العاصمة أديس أبابا بين محتجين مسلمين وقوات الأمن على خلفية مشروع “شيغر سيتي” لتطوير مناطق حول العاصمة.
وجاءت الدعوة الجديدة للانضمام لداعش وسط حالة من الزخم الذي اكتسبه في القارة السمراء، في الفترة الأخيرة، حيث أصبحت مناطق غرب ووسط إفريقيا وبدرجة أقل مناطق الساحل الإفريقي ساحة العمليات المركزية للتنظيم الذي تراجع نشاطه في العراق وسوريا إلى أقل مستوى له خلال أكثر من 10 سنوات.
ففي ظل حالة الانكماش العملياتي التي أصابت التنظيم بفعل سلسلة من العوامل، منها تقويض قيادته العليا والخسائر التي مُني بها مؤخرًا، علاوة على محاولته التقوقع على ذاته وإعادة البناء وجه التنظيم دفته صوب القارة الإفريقية والتي كانت في الماضي ساحة عمليات ثانوية مقارنة بنشاطه في المركز (العراق وسوريا).
وظهرت آثار هذا التوجه بوضوح، على مدار الأسابيع والأشهر الماضية، التي شهدت تكثيف للعمليات في أقاليم مختلفة من القارة الإفريقية في مقابل انحسار وتراجع حاد في العمليات داخل العراق وسوريا وحتى أفغانستان التي عُدّ فرع داعش المحلي فيها “ولاية خراسان” واحدًا من أنشط ولايات التنظيم على الإطلاق قبل أن يُقوض الجزء الأكبر من فاعليته في ظل الحرب التي يخوضها غريمته التقليدية “حركة طالبان”.
ووفقًا لإحصائيات العمليات الصادرة عن التنظيم والمنشورة في صحيفة النبأ ضمن تبويب “حصاد الأجناد”، فإن مفارز التنظيم نفذت 97 هجومًا، في الفترة من 11 مايو/ آيار الماضي وحتى 8 يونيو/ حزيران الجاري، ، وهذا يعني أن الهجمات انخفضت بصورة حادة وبنسبة تبلغ 63.78 مقارنة بالعام السابقة (2022).
وتركزت غالبية الهجمات في القارة الإفريقية، في الفترة المذكورة في عام 2023 والتي شهدت 71 عملية من أصل 97 بمعدل 73.1 % منها 41 عملية في غرب إفريقيا (42.2%)، و24 عملية في وسط إفريقيا (24.7%)، في مقابل 12 عملية فقط في العراق (12.3%)، و7 هجمات في سوريا (7.2%)، و5 هجمات فقط في أفغانستان بمعدل (5.1%).
وعلى الناحية الأخرى، شن داعش في الفترة من 12 مايو/ آيار، وحتى 8 يونيو/ حزيران 2022، 196 هجومًا إرهابيًا في مختلف المناطق، من بينها 73 هجومًا في القارة الإفريقية- 48 منها في غرب القارة -، بمعدل هجمات 37.24%، وهذا يعني أن إجمالي هجمات التنظيم انخفضت بحوالي الثلثين تقريبًا.
كما تراجعت الهجمات في القارة الإفريقية وجاء التراجع الأبرز في غرب إفريقيا (من 48 هجوم في الفترة المذكورة من العام الماضي إلى 41 في العام الجاري) ثم في موزمبيق (من 8 هجمات إلى 2) والصومال التي لم تشهد أي هجمات في الفترة المذكورة هذا العام.
السعي الداعشي نحو “أرض الخلافة” الإفريقية البديلة
ورغم أن الهجمات الداعشية في القارة السمراء تتناقص ولا ترتفع بعكس ما يدعيه التنظيم، ركزت العمليات الإعلامية لداعش على ترويج أنشطته في إفريقيا بنفس الطريقة التي روجت بها لخلافته في العراق وسوريا من قبل، فسلطت الضوء على قتاله ضد القوات الإفريقية بجانب حربه ضد تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة به مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في الساحل الإفريقي.
وهدف داعش من وراء هذا الأسلوب إلى إثبات أن خلافته وجدت أرضًا بديلة لها في إفريقيا وأنها ما زالت “باقية وتتمدد”، وهو الشعار الذي قام عليه التنظيم، منذ سنوات، واعتبره جزءًا من كينونته الجهادية.
وبدورها، استعرضت صحيفة النبأ في عددها (394) ما وصفته بخسائر القوات الإفريقية في مواجهاتها مع فرع داعش بغرب إفريقيا، خلال الأسابيع الماضية، قائلةً إن 33 اشتباكًا بين الطرفين حدثا خلال الفترة المذكورة وخلفت تلك الاشتباكات نحو 113 قتيلًا وجريحًا من القوات الإفريقية، والتي تضم القوة متعددة المهام المشتركة لمكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا، وجيوش نيجيريا والنيجر والكاميرون.
على أن تلك الاشتباكات أكدت أن فرع داعش في غرب القارة يمر بفترة صعبة تتهدد فيها معاقله الأساسية ويكافح من أجل أن يظل موجودًا في مواجهة حملة عسكرية مضادة ومكثفة، بالتوازي مع استمرار معاناته مع التنافس الجهادي الذي تقوم به المجموعات المحسوبة على غريمه التقليدي تنظيم القاعدة، والتي تتنافس مع داعش على تمثيل الجهادية العالمية في القارة.
العلاقة الملتبسة بين داعش وأفرعه الإفريقية
ومن جهته، اعتبر الباحث المتخصص في الحركات الجهادية أيمن جواد التميمي أن شعار البقاء والتمدد الذي يتمسك داعش به لا يُدلل في الوقت الحالي، الذي يتراجع فيه التنظيم، إلا على تمدده في إفريقيا جنوب الصحراء بعد أن أصبح له أفرع في غرب ووسط القارة، فضلًا عن فرعه في الصومال (شرق القارة)، وموزمبيق (جنوب شرق إفريقيا).
وألمح “التميمي” في مقال له بمعهد هوفر للدراسات السياسية والإستراتيجية والتابع لجامعة ستانفورد إلى أن التركيز الدعائي لداعش على غرب إفريقيا ليس أمرًا مستغربًا بالنظر إلى أن نشاط أفرع داعش الإفريقية وانحسار فرعيه في المركز (العراق وسوريا).
وأضاف الباحث المتخصص في الحركات الجهادية أن المجموعات المحسوبة على داعش في القارة الإفريقية طورت اتصالاتها مع القيادة المركزية للتنظيم وأن العلاقة بينهما تقوم على التقارب الأيديولوجي والولاء للقيادة المركزية.
وذكر “التميمي” أن المؤشرات على وجود خلافات بين داعش المركزي وأفرعه الإفريقية شحيحة، حاليا، مردفًا أن الخلاف الأبرز كان انشقاق أبو بكر شيكاو، زعيم جماعة بوكو حرام السابق، عن ولاية غرب إفريقيا، فرع داعش المحلي، بعد فترة من بيعته للتنظيم، وما تلى ذلك الانشقاق من اشتباكات أدت لمقتل “شيكاو” في غابات سامبيسا بنيجيريا في يونيو/ حزيران 2021.
وأشار الباحث أيمن التميمي إلى أن الخلافات بين داعش وأفرعه الإفريقية غير مستبعدة في ما يتعلق بالأمور الإدارية والتمويل، مردفًا أن التنظيم المركزي أوكل الشؤون المالية الخاصة بكل فرع لقيادته المحلية وترك أفرعه الإفريقية تتدبر مسألة تمويلها بنفسها، وفق تعبيره.
وفي هذا السياق، أظهرت وثائق مرسلة من ولاية وسط إفريقيا لأمير الإدارة العامة للولايات (أبو سارة العراقي) أن فرع التنظيم في الكونغو الديمقراطية يركز على عمليات السلب والنهب لتمويل نفسه وهو ما يعني أنه لا يتلقى دعمًا من التنظيم المركزي لداعش، بل أن الأخير فرض على أفرعه في إفريقيا وخارجها أن تمول خزينته (بيت المال) بـ25% من حصيلة إيراداته الشهرية.
التوتر بين قيادة داعش وأتباعه في إفريقيا
كما أن وثائق وشهادات وإصدارات إعلامية نشرها منشقون عن داعش، في الفترة الماضية، أكدت وجود خلاف واقتتال داخلي بين ولاية غرب إفريقيا ومنشقين عنها يقودهم باكورا بودوما الذي يكنى بـ”أبي أميمة”، وهو الأمير الذي خلف “شيكاو” على رأس جماعة “بوكو حرام”، وادعت مصادر محسوبة على داعش مقتله في وقت سابق قبل أن يتبين أن هذا الادعاء غير صحيح.
ففي رسالة أرسلها أبو مصعب البرناوي- والذي قاد التنظيم خلال السنوات السابقة وراجت أنباء غير مؤكدة عن مقتله مؤخرًا-، في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، إلى قيادة داعش العليا في العراق وسوريا اشتكى أمير التنظيم في غرب إفريقيا من ضعف الفرع الذي يقوده وإهمال قيادة التنظيم له.
وقال “البرناوي” إن مقاتلي ولاية غرب إفريقيا يقاتلون بطريقة بدائية لا خبرة فيها أو حنكة وهو ما يتسبب في تكبدهم خسائر كبيرة، موضحًا أنه لطالما طالب قيادة داعش بإمدادهم بالكوادر العسكرية حتى يتمكنوا من تغيير الوضع على الأرض، لكن قيادة التنظيم ظلت تنشغل بأمور شكلية كإنشاء “دواوين وهمية” في الولاية حتى تظهر وكأنها صارت نسخة أخرى من ولاياته (السابقة) في سوريا والعراق.
ولفت أبو مصعب البرناوي إلى أن خليفة داعش انشغل عن فرع غرب إفريقيا ولم يهتم به، وهو ما دفع أمير الفرع لقطع التقارير والرسائل الشهرية التي يرسلها للتنظيم.
ويقصد “البرناوي” بالتقارير الشهرية الرسائل التي تُرسل للإدارة العامة للولايات- والتي كانت تصل لأمير الإدارة (المقتول) أبو سارة العراقي– وهي تقارير تفصيلية تتحدث عن الهجمات والنشاط الخاص بكل فرع ويتم رفعها بصورة دورية للإدارة التي تتولى الإشراف على أفرع داعش الخارجية.
وطلب أبو مصعب البرناوي أن تساعده قيادة داعش في تنظيم العمل العسكري بما في ذلك إدارة المقاتلين الذين تحت إمرته وكيفية ممارسة عمليات التجنيد ونظم الدفاع وتكتيكات الهجوم وغيرها من الأساليب التي افتقدها داعش في غرب إفريقيا.
ويتضح من ثنايا الرسالة السابقة أن قيادة داعش العليا والإدارة العامة للولايات تجاهلت أفرعها في إفريقيا، لفترة طويلة، وصبت جل اهتمامها على الأمور الشكلية والدعائية لإظهار أن لديها ولايات مكانية في إفريقيا، بينما عانت تلك الأفرع في مواجهة الحملات المستمرة من جيوش الدول الإفريقية ضدها.
ولعل قيادة داعش العليا سعت، مؤخرًا، لتدارك أخطائها في التعامل مع أفرعها في القارة السمراء بعدما أمست تلك الأفرع الأمل الأخير لها، وربما يكون هذا السر وراء نقل تكتيكات التفخيخ والتشريك واستخدام السيارات المفخخة في الهجمات، والذي بدأ فرع داعش في غرب إفريقيا يلجأ إليه مؤخرًا، حسبما تكشف بيانات العمليات الصادرة عن التنظيم.
لكن محاولات احتواء الأوضاع في إفريقيا، اصطدمت بعائق آخر هو استمرار القتال بين المنشقين التابعين لبوكو حرام وأميرها أبو أميمة باكورا بودوما وفرع داعش في إفريقيا، وهو ما أشار له إصدار سابق صادر عن المكتب الإعلامي لبوكو حرام، وأكدته قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي”.
وبحسب قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي” فإن الاقتتال بين داعش والمنشقين المنتمين لبوكو حرام أدى إلى استنزاف قدرات التنظيم المالية والعسكرية في برونو بشمال شرق نيجيريا، ووصل الوضع الأمني للتنظيم إلى أسوأ حال له، وهو ما مكن قوات الجيش النيجيري من شن هجمات مضادة ضد الولاية وانتزاع مناطق كانت تسيطر عليها.
من اللافت أن الخلافات الحالية لا تقتصر على الجانب التنظيمي والإداري بل تتخطاه إلى الجانب العقدي والأيديولوجي إذ يتبنى مقاتلو داعش في غرب إفريقيا مواقف متباينة من قضايا التكفير، وهو ما يعيد إلى الأذهان الخلافات المنهجية التي حدثت سابقًا في قلب داعش المركزي في السنوات السابقة وأدت لشق صفوفه.
وأضافت قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي” أن ولاية غرب إفريقيا لجأت لتفاوض مع بوكو حرام بسبب الأوضاع الصعبة التي يمر بها التنظيم، مشيرةً إلى أنه من غير المعلوم ما إذا كانت هذه المفاوضات تأتي بعلم قيادة داعش العليا أم أنها تمت بمبادرة من أمير داعش في غرب إفريقا ونائبه أبو بكر الميناكي، المدرج حديثًا على قائمة الإرهاب الأمريكية.
ومن الممكن أن تؤدي المفاوضات بين ولاية غرب إفريقيا وبوكو حرام إلى شق في صفوف التنظيم ككل خاصةً أن جماعة “بوكو حرام” تُهاجم في إصداراتها الدعائية فرع داعش المحلي (ولاية غرب إفريقيا)، دون أن تنتقد القيادة العليا له، بل تستشهد بكلمات قادته المقتولين كأبي بكر البغدادي وغيره.
وعلى الرغم من أن القيادة العليا لداعش تصف “بوكو حرام” بأنهم مجموعة خوارج وتدعو لاستئصالهم، بتعبير المتحدث الرسمي (السابق) لداعش أبو حمزة القرشي في آخر كلماته الصوتية التي نشرتها مؤسسة الفرقان، في يونيو/ حزيران 2021، إلا أن تحليل الإصدارات الإعلامية الأخيرة للجماعة يُوحي بأنها لا تختلف مع القيادة المركزية بقدر ما تختلف مع وكلائها في غرب إفريقيا، وهذا ينذر بمزيد من الصراع داخل داعش وفرعه الإفريقي في الفترة المقبلة.
خلافات القيادة والسيطرة
ومن ناحية أخرى، تأثر تنظيم داعش في إفريقيا بمقتل كبار قادة التنظيم، في غضون الأشهر الأخيرة، ومن بينهم أمير الإدارة العامة للولايات أبو سارة العراقي وبلال السوداني المسؤول بمكتب الكرار- تابع لولاية الصومال-، إذ أن مقتل هؤلاء القادة يدفع القيادة العليا لوضع مكتب الكرار تحت إشراف أمير ولاية غرب إفريقيا والذي يشرف أيضًا على مكتبي الفرقان- غرب إفريقيا- والأنفال- الساحل والصحراء وليبيا-.
ومن شأن نقل مكتب الكرار إلى سلطة والي ولاية غرب إفريقيا أن يزيد نفوذ الأخير ويجعله القائد الأوحد للتنظيم في القارة السمراء، لأنه بذلك سيصبح المسؤول على مكاتب (الفرقان، والأنفال، والكرار)، وهي 3 من أصل 8 مكاتب خارجية للتنظيم، وهذه المكاتب تعمل كقيادات إقليمية لداعش في القارة.
وما سبق يعني أن والي ولاية غرب إفريقيا سيصبح مشرفًا على خلايا داعش في دول: (نيجيريا، والكاميرون وتشاد، وبنين، مالي، النيجر، وبوركينا فاسو، وليبيا، والصومال، وموزمبيق، والكونغو الديمقراطية)، وسيتعين على تلك الخلايا أن لا تتواصل مع قيادة داعش المركزية إلا من خلال هذا الوالي، وهو ما يزيد من احتمالية وقوع خلافات إثنية وقبلية ومناطقية بين أفرع داعش بسبب الخلاف على القيادة والسيطرة.
محاولة التكتم على أزمات التنظيم
وبفعل الأزمة التي يعيشها داعش في الوقت الحالي وخشيته من أن تتسرب المزيد من المعلومات عن أوضاعه الصعبة، لجأ التنظيم إلى ممارسة مزيد من الرقابة على المنصات الإعلامية والمناصرين التابعين له، مع أنه يفرض بالفعل رقابة من ذي قبل عن طريق لجنة المتابعة الإعلامية ومشروع إنتاج الأنصار.
ولجنة المتابعة الإعلامية هي إحدى اللجان التابعة لديوان الإعلام المركزي لداعش، أما مشروع إنتاج الأنصار فهو مشروع أنشأه أبو بكر الغريب، أمير ديوان الإعلام المركزي (السابق) والذي قُتل قبل فترة بعفرين في حلب السورية، ووضعه تحت إشراف أحد أتباعه المعروف بـ”أبو زيد البابلي”.
وبحسب وثيقة مسربة من أرشيف داعش فإن لجنة المتابعة الإعلامية طلبت من المكاتب الإعلامية التابعة للولايات أن تقوم بمتابعة ملف المناصرين وأن تخصص لهم مسؤولًا يعمل بالتنسيق مع مسؤول المناصرين في ديوان الإعلام المركزي.
ووجهت اللجنة بأن يتم التواصل مع المناصرين من حسابات وهمية بخلاف التي يستخدمها إعلاميو داعش، ومنع تسريب أي تفاصيل تتم داخل التنظيم لهم وكذلك منع تسريب أي خبر رفض ديوان الإعلام المركزي نشره، فضلًا عن منعهم من القيام بنفي أي شائعة أو إثباتها والاكتفاء فقط بما يصرح به الديوان.
ومن الواضح أن التوجيهات الواردة في الوثيقة تهدف لمزيد من الرقابة المشددة على المعلومات الخاصة بالتنظيم حتى لا تتسرب أي تفاصيل عن ارتباكه الداخلي والخلافات الواقعة بين مجموعاته في الوقت الحالي الذي يكابد التنظيم فيه ويعاني من أجل تعويض خسائره.
غير أن التجارب العديدة السابقة تثبت أن التنظيم فشل في التكتم على ما يدور داخله وأن كثير من التفاصيل المتعلقة بأوضاعه الداخلية تجد طريقها للانكشاف بينما يتم تسريب العديد من الوثائق التي تفضح محاولات داعش لإخفاء ضعفه وإثبات أن خلافته “باقية وتتمدد” في حين أنها “فانية وتتدهور”.
خبراء يكشفون لـ”أخبار الآن” حقيقة التمدد الداعشي في إفريقيا
وعلى صعيد متصل، قال الدكتور محمد عبد الكريم، الباحث في الشؤون الإفريقية، إن محاولات داعش التمدد في إفريقيا بعد تراجعه في سوريا والعراق تعد تحركًا طبيعيًا تمامًا في ضوء ارتباطات التنظيم وعمليات تجنيده وتمويله في مناطق الأزمات التي تشهد مقاربات دولية وإقليمية متضاربة على نحو يتيح تمدد التنظيمات الإرهابية بشكل عام مثل داعش.
وانحاز “عبد الكريم” إلى الرأي القائل بإنه لا توجد خلافات منهجية جوهرية بين داعش وأفرعه الإفريقية بقدر ما توجد عمليات إعادة ترتيب للأولويات بحسب الأوضاع الميدانية كما في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، مضيفًا أن الوضع في غرب أفريقيا يختلف بشكل عام عن نظيره في سوريا والعراق من نواح عدة مثل التركيب السكاني في دول الإقليم.
وذكر الباحث في الشؤون الإفريقية في تصريحات لـ”أخبار الآن” أنه من الاختلافات البنيوية بين داعش المركزي وأفرعه الإفريقية تقلل من أهمية الخلافات المنهجية بالأساس، وتجعل الجماعات في إفريقيا تركز على الجانب المصالحي حتى تعزز قدراتها وتستمر في التمدد والنشاط دون الاعتداد بالخلافات المنهجية بصورة جوهرية.
وأكد الدكتور محمد عبد الكريم أن تراجع عمليات داعش بشكل عام في الوقت الحالي يأتي ضمن تراجع التنظيم وفقدانه الزخم منذ عشر سنوات، مضيفًا أن فقدان التنظيم الزخم في مناطق القارة الإفريقية لا يعني نهايته كليةً وذلك لأنه ما زال له نشاط حركي في مناطق بغرب ووسط وجنوب القارة ويرتبط وجوده في تلك المناطق بأسباب عدة.
ومن بين تلك الأسباب، وفقًا لـ”عبد الكريم”، الظروف المجتمعية التي تحفز الإرهاب وقبول أفكار المتطرفة لدى بعض الأطراف، وارتباط جماعات الإرهاب بعصابات الجرائم المنظمة الدولية وما إلى ذلك، فضلًا عن وجود صلة مباشرة بين تمدد الإرهاب وبين جدية الجهود التي تبذلها الأطراف المحلية والدولية المعنية بمواجهته إذ تكون جهود المواجهة في بعض الأحيان دون المستوى المطلوب.
أما تقى النجار الباحثة المتخصصة في قضايا الإرهاب بالمركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية فرأت أن داعش سعى لإيجاد ساحات عمل بديلة لممارسة نشاطه الإرهابي إذ أن هدفه الإستراتيجي في أفريقيا ليس التواجد فقط بل التمدد العملياتي والجغرافي واستغلال الإشكاليات السياسية والأمنية والبيئية المركبة في دول القارة مثل غرب إفريقيا ودول الساحل، والتي توفر سياقات حاضنة لنشاط التنظيمات الإرهابية.
وأضافت “النجار” في تصريحات لـ”أخبار الآن” أن الخلافات المنهجية والتنظيمية داخل داعش وأفرعه الإفريقية يمكن أن تجعل تلك التنظيمات تدمر نفسها ذاتيًا لأنها تؤدي لتصاعد الاقتتال الداخلي، مشيرةً إلى أن الصراعات بين مجموعات التنظيم الإفريقية قد تنعكس عليه بشكل كبير وتتسبب في زيادة حالة التشظي داخل هياكله التنظيمية لكنها تحمل في طياتها خطر انبعاث مجموعات جديدة قد تشتت جهود مكافحة الإرهاب.
وأردفت الباحثة المتخصصة في قضايا الإرهاب بالمركز المصري للفكر أن العالم يمر بمرحلة يمكن وصفها بـ”اللحظة الخادعة” التي يتراجع فيها النشاط الإرهابي، بينما تستمر محفزاته، في العديد من المناطق ومنها القارة السمراء، ومن هذه المحفزات التباينات العرقية، والخلافات الطائفية.
ولفتت تقى النجار إلى وجود معضلة أخرى تتعلق بمحتجزي داعش في السجون والمخيمات ومنها مخيم الهول إذ أن داعش يسعى للحفاظ على بقاءه الأيديولوجي والبيولوجي عن طريق تجنيد الأطفال المتواجدين في المخيمات حتى يكونوا نواة لأي نشاط إرهابي مستقبلي، موضحةً أن تراجع التنظيم، حاليا، لا يعني نهايته بل إنه يسعى لإعادة بناء هياكله عبر اتباع إستراتيجية “الكمون المؤقت”.
ومن جهته، قال عبد الله اليوسفي، الخبير في الجماعات الجهادية، إن داعش انحسر بشكل كبير في العديد من المناطق ومنها أفغانستان وليبيا واليمن وسيناء، بينما انحسر نشاطه في سوريا في البادية السورية وبعض الخلايا المنتشرة في بقع أخرى وكذلك الحال في العراق الذي يرجح أن يعود التنظيم للنشاط فيه بشكل أكبر مستقبلًا.
وعن الوضع في إفريقيا، اعتبر “اليوسفي” أن العمليات التي ينفذها أتباع داعش في القارة السمراء لا يكون لها أثر كبير بالفعل ولا يكون لها صدى إعلامي بنفس الدرجة التي كانت عمليات التنظيم تحققه في سوريا أو العراق حيث مركز وقلب التنظيم.
وأضاف الخبير في الجماعات الجهادية في تصريحات لـ”أخبار الآن” إلى أن تمدد داعش في إفريقيا أفقيًا لكن هذا التمدد لا يمكن أن يكون مستقبلًا حقيقيًا له بسبب طبيعة الدول والمجتمعات الإفريقية ورؤية الشعوب والسكان المحليين أنه تنظيم أو جسم غريب عنهم، بجانب وجود منافسين أقوياء له ومن بينهم تنظيم القاعدة في الساحل الإفريقي (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) وهو ما يخصم من رصيد داعش.
وأشار عبد الله اليوسفي أن نجاح داعش في التمدد داخل القارة لم يعتمد على قدراته الذاتية بقدر ما اعتمد على المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الإفريقية ومنها الأزمات السياسية والفساد والفقر وضعف الجيوش هناك، وأيضًا ضعف الجهود الدولية في دعم تلك المجتمعات وهو ما حاول التنظيم بناء إستراتيجية الاستقطاب بناءً عليه.
وتابع: داعش يحاول استثارة الخلافات الإثنية والدينية حتى يقدم نفسه لمسلمي القارة باعتباره مدافعًا عنهم حتى يسهل عليه عملية تجنيدهم في صفوفه.
وتحدث الخبير في الجماعات الجهادية عن وجود خلافات وتصدع في أفرع داعش بإفريقيا وخاصةً ولاية غرب إفريقيا والتي شهدت سابقًا انشقاقًا هيكليًا أدى لخروج أبو بكر شيكاو وأتباعه عن الولاية، بينما حدثت مؤخرًا صدامات جديدة بين الطرفين، وأخذت تلك الصدامات طابع منهجي إذ أن المنشقين يعتبرون أتباع الولاية “مرتدين”، بينما يرى هؤلاء الأتباع أن المنشقين “خوارج”، وفق تعبيرهم.
وذكر “اليوسفي” أن الخلافات الأخيرة داخل أفرع داعش الإفريقية تعيد للأذهان الخلافات المنهجية بين تيارات داعش والتي وقعت قبل سنوات وأدت إلى اندحار وهزيمة داعش، مضيفًا أن هذا السيناريو متوقع ومرجح للغاية في القارة الإفريقية كما أن تمدد داعش فيها سيؤدي إلى تمزقه وانشطاره لأن التنظيم أكثر انقسامًا على ذاته.
وفي نفس السياق، ألمح عبد الله اليوسفي الخبير في الجماعات الجهادية إلى أن داعش لم يكن يهتم بالقارة الإفريقية إلا حين توالت هزائم التنظيم، وسبق أن اشتكى أبو مصعب البرناوي، والي غرب إفريقيا، من إهمال قيادة التنظيم العليا له، كما أن التنظيم أهمل بيعة أبو الوليد الصحراوي ومجموعة الساحل له لفترة طويلة.
وبين “اليوسفي” أن تراجع هجمات داعش تبرهن على ضعف التنظيم لأنه بنى وجوده على أساس هذه العمليات، معتبرًا أن التنظيم لا مستقبل له في القارة الإفريقية لأنه لا يهتم بإفريقيا في الحقيقة بل يعتبرها مجرد مرحلة أو محطة مؤقتة، كما أن المجتمعات الإفريقية لا تتناغم معهم بل سيلفظونهم علاوة على أن خصومه الجهاديين من أتباع القاعدة سيعملون على اجتثاث وجوده في القارة وهو ما يحدث، في الوقت الحالي، في الصومال والساحل والصحراء وغيرها.
الخلاصة
مع تراجع تنظيم داعش في العراق وسوريا، على مدار الفترة الأخيرة، لجأ التنظيم إلى التركيز على القارة الإفريقية وإظهار نشاط أتباعه داخلها حتى يصرف الأنظار عن حالة الضعف التي تعتريه، مؤخرًا، والتي أدت لانخفاض هجماته إلى أقل مستوى لها في ما يزيد عن 10 سنوات.
ومع أن التنظيم كافح بضراوة من أجل إظهار أفرعه في إفريقيا على أنها منسجمة مع القيادة العليا (المركزية) له، وحاول إخفاء الأدلة والشواهد على وجود خلافات وتباينات بين المركز والأطراف (الأفرع في إفريقيا)، إلا أن فشل في التستر على وجود نزاع واختلاف بين قيادته العليا وقيادة الأفرع الإفريقية من ناحية، وبين الأفرع الإفريقية وبعضهما البعض من ناحية أخرى.
وتؤكد رسائل ووثائق وشهادات مسربة من داخل التنظيم أن أفرع داعش في القارة الإفريقية مهددة بالتشظي والتفتت إلى مجموعات جهادية أصغر، وهو ما يعني أن التوسع والتمدد الذي راهن عليه داعش لإثبات شعار خلافته “باقية وتتمدد”، حمل في طياته عوامل فناء التنظيم وبرهن على أن تلك الخلافة “فانية وتتدهور”.