تعيش تونس مخاوف كبيرة من تجدّد الحرائق التي قضت على مساحات شاسعة في البلاد مؤخراً، لتزيد معاناة التوسيين معاناة إضافية. لحظات صعبة عاشتها تونس على مدار الفترة الماضية، وسط خسائر مادية وبشرية كبيرة مازالت تفوح رائحتها من مناطق الغابات التي شهدت اندلاع الحرائق، والسبب ارتفاع غير مسبوق في درجات الحراءة بالضافة طبعاَ إلى عوامل أخرى تساهم في جعل المشهد أكثر سوءاً. ووفق المراقبين والخبراء، فمن المحتمل أن تواجه تونس درجات حرارة إضافية خلال السنوات المقبلة بفعل التغيّرات المناخية. فما حجم الأضرار التي أصابت سكان تلك المناطق، خصوصاً أصحاب المشاريع؟ وكيف قرّروا إعادة بناء حياتهم من جديد والشروع بإصلاح ما تبقّى من مشاريعهم التي التهمتها النيران؟
معاناة فوق معاناة
“حلم وتبخر”
“أخبار الآن” وفي سياق متابعة تداعيات تلك الحرائق، قصدت منطقة ملولة التي تقع شمال غرب تونس، والتقت التونسي حكيم الرويسي.. هو في الخمسينات من عمره وأب لطفلين، قرّر أن يترك مجال السياحة ويتفرغ لمشروعه الخاص في مجال الفلاحة.. وبالفعل فقد أطلق حكيم الرويسي المشروع المتمثل فى تربية النحل والطيور في منطقة ملولة العام 2012، قبل أن تدمّر النيران حلمه بالكامل وتقضي على ثروته الوحيدة. في ذلك النهار، غطت السُحب الدخانية الكثيفة سماء عدد من المحافظات التونسية، فالنيران تلتهم كل شيء أمامها مخلّفةً عشرات المصابين وخسائر مادية لا حصر لها.
“حلم وتبخر”
“حلم وتبخر” هكذا اختصر الرويسي ما حدث لمشروعه جرّاء الحرائق التى اندلعت وقضت على حلم عمره لمدّة تزيد عن 10 أعوام، وبتكلفة تتخطى 120 ألف دينار. يقول لــ”أخبار الآن” إنّ مشروعه يتكوّن من 350 دجاجة و50 شجرة زيتون و94 بيت نحل أتلفتهم النيران، وأصبح لزاماً عليه العودة لنقطة الصفر. يتذكر الرجل مشهد النيران وهي تلتهم مكوّنات مشروعه، “أصعب مشهد رأيته فى حياتي، وكم أتمنى أن يعاد اليوم من دون ذلك الكم من الحرائق والخسائر.. لقد كانت الناس تجري في كلّ مكان، وقتها لم أفكر بأيّ شيء سوى الهروب وإنقاذ أطفالي”.
لقد اقترض حكيم من المصارف لبناء اسطبل للدجاج وشراء خلايا النحل وانشاء مشروع يعيل منه عائلته، لكن فجأة ذهب كل شيء أدراج الرياح. يقول صاحب الـ54 عاماً إنّ “ذلك المشروع كان حلم حياتي، وقد تركت السياحة من أجل الفلاحة واقترضت من أجله، والآن سأعاود العمل عليه من جديد”.
وملولة هي قرية حدودية بين تونس والجزائر تقع شمال غرب البلاد، احترقت مساحات شاسعة من غاباتها تزامناً مع موجة الحر الخانق التي شهدتها تونس، لتقضي على نحو ألف هكتار من الغطاء الغابي والمحاصيل الفلاحية، فيما بلغ عدد المتضررين من الحرائق 250 عائلة، وعدد المشاريع التي أتت عليها النيران بالكامل 25 مشروعاً.
النيران تقضي على حلم عادل أيضاً
لم يختلف وضع عادل السالمي عن مواطنه حكيم كثيراً.. فهذا الرجل كان منذ بضعة أشهر صاحب أوّل مشروع للسياحة البيئية وتعمل لديه 15 سيّدة من القرية قبل أن تلتهم النيران حلم حياته وتتسبب في قطع رزق هؤلاء السيدات.
مطعم السالمي كان يتوسط الأشجار في تلك الغابة، ويطلّ على منظر خلّاب يجذب محبّي الهدوء والمناظر الطبيعية، أمّا الآن فتحول إلى مساحات شاسعة من الأخشاب المحترقة. يقول السالمي مؤسس المشروع لـ“أخبار الآن”: “هذا المشروع كان يخدم أكثر من 15 عائلة فى المنطقة ويوفّر فرص عمل لعشرات السيدات. بدأت فكرته العام 2004 وتمّ تنفيذه بمساعدة زوجتي العام 2019… كان حلماً بالنسبة لنا قبل أن تأتي النيران وتقضي عليه في ساعات معدودة”. يضيف: “كان الجميع يجلسون في ذلك المكان فيشعرون وكأنّهم في بيوتهم، يتعرفون على العادات والتقاليد التونسية من خلاله، والآن السكان يجتهدون معنا لإصلاح ما أتلفته النيران”.
نيران العام الماضي قضت على 23 ألف هكتار
“في كل عام كانت تندلع فيه الحرائق فى تونس، إمّا بفعل فاعل أو بشكل تلقائي، كان معدلها لا يتخطى 3000 هكتار، لكن معدّل الحرائق في السنة الماضية كان الأكثر ارتفاعاً في بتونس بحسب إحصائيات الإدارة العامة للغابات، حيث وصل إلى 23 ألف هكتار وتلك مصيبة كبيرة”.. بتلك الكلمات بدأ خبير البيئة والتنمية المستدامة، محمد عادل حديثه لـ”أخبار الآن“، مضيفاً أنّ حجم الخسائر الناجمة عن احتراق الغابات من الصعب حصره خصوصاً إنّها تحتضن ما يقرب من مليون مواطن بخلاف النباتات الطبية والحيوانات.
وتابع: “هناك أسباب عديدة لانتشار الحرائق بين الغابات في مختلف المحافظات التونسية، بدايةً من سرعة الرياح مروراً بسخونة التربة ووصولاً إلى أنواع الأشجار سريعة الاحتراق، وتلك ظروف توفّرت جميعها ليس فقط في تونس، لكن فى بلدان أخرى أيضاً مثل كندا، البرتغال، أسبانيا وفرنسا… فالحرائق من أكبر المصائب التي تنتج عن التغيرات المناخية”. وأشار إلى أنّه “وفقاً للإحصائيات المعلنة، فقد بلغ حجم خسائر الدولة التونسية نتيجة التغيرات المناخية خصوصاً حرائق الغابات، ما يقرب من 5 مليون دولار”.
لقد شهدت تونس ذلك العام ارتفاعاً ملحوظاً في درجات الحرارة وصلت إلى 50 درجة مئوية، تسببت في اشتعال النيران بالغابات، ليس ذلك فحسب بل طالت أيضاً الكثير من المرافق السياحية لتتشابه في شدتها بالحرائق التي عرفتها البلاد خلال العامين الماضيين. وقد ساهمت الرياح القوية وطبيعة الأشجار الموجودة بالغابات إلى انتشار الحرائق بعدد من المحافظات، لتخسر المنطقة آلاف الهكتارات من الغابات والمزارع.
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ أيّام، اندلعت حرائق في منطقة العطاطفة استمرت لثمانية أيّام. وكان كشف المدير الجوي للحماية المدنية عادل العبيدي أنّ تلك المناطق الغابية التي طالت فيها الحرائق عشرات الهكتارات، شهدت تدخلات من قبل فرق عديدة للسيطرة على النيران، بمساندة جوية من طائرتين عسكريتين قامتا بأكثر من 40 طلعة جوية لاطفاء نقاط الحرائق بأعلى قمم السلسلة الجبلية التي يصعب الوصول إليها بسبب وعورة التضاريس وكثافة الغطاء النباتي و عدم توفر مسالك. وشدد على أنّه وكإجراء وقائي تمّت حماية التجمعات السكنية المتواجدة في محيط الحريق بقرى دار فاطمة والزويتينة والخناقة دار الشفاء والرميلة ووجه السوق والعرايضية وبن نسور والحامدية.
هذا وتسببت الحرائق التي نشبت في مناطق مختلفة من تونس وأهمها الشمال الغربي، في خسائر كبيرة للفلاحين الذين يعتمدون على ذلك المجال من أجل توفير لقمة العيش. وتمثل الغابات نحو 34 % من مساحة تونس المقدّرة بـ163.610 كيلومترات مربّعة، وتمتدّ أساساً في جهات الشمال الغربي والوسط الغربي، فيما يسكن فيها نحو مليون شخص، أمّا قيمتها الاقتصادية فتُقدَّر بنحو 932 مليون دينار تونسي (نحو 310 ملايين دولار أمريكي).