كيف تحولت سوريا من ساحة للسيطرة الروسية إلى منبع للانشقاقات والعصيان؟
بعد أن زادت التكهنات في الآونة الأخيرة حول ما يدور بين الجيش الروسي وقوات مرتزقة فاغنر الروسية المتواجدة داخل الأراضي السورية، وبعد أن تتداول بعض النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي نشوب صراع كاد يصل إلى حد الاستباك بين كلتا القوتين، قامت “أخبار الآن” بالتحدث إلى أحد مصادرنا هناك لتأتي لكم بحقيقة الوضع في سوريا الآن.
وما هي كواليس هذا الصراع الروسي – الروسي؟ وكيف تحولت سوريا لأرض العصيان لقوات مرتزقة فاغنر على قوات الجيش الروسي والتابع لقيادات الكرملين؟ ولكن لنجيب لكم عن كل هذه التساؤلات دعونا تبدأ لكم من بداية الأحداث والتي تعود إلى عام 2011، حين اندلعت أحداث الثورة السورية.
منذ عام 2011، وأصبحت سوريا ساحة صراع دموي تشهده تداخلات من مختلف الأطراف الإقليمية والدولية. من بين هذه الأطراف تبرز مرتزقة فاغنر الروسية، الذين ظلت القيادة الروسية تنكر صلتها بهم لستوات، قبل أن تنكشف الحقيقة ويأتي الاعتراف الرسمي من قبل بوتين بتمويل المرتزقة الروسية واستخدمها في غزوه الدامي لأوكرانيا.
ولكن تبقى الساحة السورية واحدة من أهم البقاع التي تنشط فيها المرتزقة الروسية، فكيف أصبح الوضع الآن بعد مقتل قائدها وزعيمها يفغيني بريغوجين؟
في بداية الأمر كانت مرتزقة الفاغنر الروسية صاحبة الكلمة الأولى في سوريا، فلما لا وهذه القوة تأتي في إطار الدور الروسي البارز في دعم النظام السوري بقيادة بشار الأسد. ولكن مع مقتل يفغيني بريغوجين في ظروف غامضة وفقًا لرواية الكرملين، شهدت العلاقة بين مرتزقة فاغنر والجيش الروسي في سوريا تحولات وتصاعدًا للتوترات والانشقاقات.
في هذا المقال، سنبحث في عمق هذه الظواهر ونقدم تحليلًا شاملاً وفقًا لمصادرنا في سوريا، وكيف أصبح الوضع الآن في ظل الصراع الروسي الدائر داخل الساحة السورية.
مرتزقة فاغنر ودورهم في سوريا
لفهم الخلافات والانشقاقات الحالية بين مرتزقة فاغنر والجيش الروسي، يجب أن نبدأ بفهم دور مرتزقة فاغنر في سوريا:
مرتزقة فاغنر هم مجموعة من المرتزقة الروس، الذين يعملون بشكل غير رسمي ويتلقون تدريبًا وتمويلًا من قبل شركة خاصة تعرف باسم “شركة فاغنر العسكرية”، والتي تستخدمها الحكومة الروسية في مهام أمنية وعسكرية حول العالم، بما في ذلك داخل سوريا حيث شاركوا في دعم النظام السوري والمشاركة في معاركه منذ انطلاقة الثورة السورية في عام 2011.
مقتل يفغيني بريغوجين وتأثيره
مقتل يفغيني بريغوجين، القائد البارز لمرتزقة فاغنر، كان حدثًا مهمًا. بريغوجين كان قائدًا قويًا وذو تأثير كبير على مرتزقة فاغنر وكان له دور بارز في تنسيق العمليات وتوجيه القوات. ومع مقتله، تأثرت القدرة التنظيمية للمجموعة وزاد التوتر داخل صفوفهم.
ونأتي هنا لأول نقطة محورية داخل الصراع الدائر في سوريا وهو مقتل بريغوجين الذي أثار عديد التساؤلات حول الظروف المحيطة بمقتله ومن قام به. كما أن هناك عديد الشكوك والتكهنات بشأن مدى تورط الحكومة الروسية في هذا الحادث. هذه الشكوك أدت إلى زيادة التوترات والانقسامات بين مرتزقة فاغنر والجيش الروسي والتي ينشط كلا منها داخل الأراضي السورية.
الانشقاقات والتوترات الحالية
بعد مقتل بريغوجين، بدأت العلاقة بين مرتزقة فاغنر والجيش الروسي تتدهور. وقد شهدنا عدة تطورات تشير إلى هذا التدهور وهو ما سنسرده لكم في نقاطٍ محددة:
تفكك القيادة:
مع فقدان القائد البارز بريغوجين، أصبح من الصعب للمرتزقة تحقيق نفس مستوى التنسيق والكفاءة. بريغوجين كان يتمتع بسلطة وتأثير كبيرين على مرتزقة فاغنر، كما كان له القدرة على جمع وتوجيه هؤلاء المقاتلين.
تصاعد التوترات:
زادت التوترات بين مرتزقة فاغنر والجيش الروسي بسبب التساؤلات حول ملابسات مقتل بريغوجين ومن يقف خلفه. يُعتقد أن بعض المرتزقة يرون الحكومة الروسية مسؤولة جزئيًا أن لم يكن كليًا عن مقتل قائدهم. هذا الشعور بالغضب والشك زعزع الثقة المتبادلة بين الأطراف وزاد من حدة التوترات.
انشقاقات وانضمامات جديدة:
بدأ بعض المرتزقة في النظر في خيارات جديدة. هناك تقارير أشارت إلى وجود انشقاقات فردية ومجموعات من المرتزقة السابقين قد انضموا إلى مجموعات معارضة أو تشكيل تحالفات مستقلة.
هذا قد زاد من التعقيدات في المشهد السوري وأثر على الأوضاع الميدانية، وهو ما ظهر جليًا في عدة أشياء أبرزها ما تتداوله بعض النشطاء داخل الأراضي السورية عبر منصة التواصل الاجتماعي “إكس” تويتر سابقًا في منشوراتهم، مثلما ما كتبه حساب زين العابدين أحد النشطاء التابعين لمدينة دير الزور عبر حسابه حينما قال: “كما هو متوقع يبدو أن وجود ميليشيا فاغنر في البادية سيتضائل قريبًا، بعد مقتل زعيمها بريغوجين، خلال (5) أيام مضت خلافات طفت على السطح في تدمر بين قيادات الميليشيا والقيادة الروسية في سوريا، وفاغنر باشرت فعلياً بسحب مجموعات لها من الشولا، وقرب حقلين للغاز نحو حلب”.
كما هو متوقع يبدو أن وجود ميليشيا فاغنر في البادية سيتضائل قريبًا، بعد مقتل زعيمها بريغوزين، خلال (5) أيام مضت خلافات طفت على السطح في تدمر بين قيادات الميليشيا والقيادة الروسية في سوريا، وفاغنر باشرت فعلياً بسحب مجموعات لها من الشولا، وقرب حقلين للغاز نحو حلب
1/ https://t.co/SL46gQ7Iih pic.twitter.com/YPgX92PqAb
— زين العابدين | Zain al-Abidin (@DeirEzzore) September 12, 2023
وليس هذا وحسب، فوفقا لما نشره الباحث تشارلز لستر، فإنه وتحديدًا لبرنامج سوريا، التابع لمعهد الشرق الأوسط للدراسات، والباحث أنتون مارداسوف، فقد حدثت مشادات كادت تتحول إلى حرب حقيقية بين مجموعات من مرتزقة فاغنر، والجيش الروسي.
According to @MEI_Syria's @anton_mardasov, a "real war" nearly erupted between #Russia's military and the #WagnerGroup inside #Syria last night — with a similar, sudden escalation also occurring in #Libya.
Circumstances behind these murky events are unclear.
— Charles Lister (@Charles_Lister) September 12, 2023
وهو ما استدعى منا بعض التدقيق والبحث من أجل الوصول إلى حقيقة الموقف هناك، وهل نتيجة لمقتل بريغوجين تحولت فاغنر من مرتزقة يطلقها بوتين في الساحات التي يسعى إلى فرض سيطرته عليها إلى فيلق جديد مناهض للرئيس الروسي؟
ولمعرفة تطورات الوضع هناك تواصلت “أخبار الآن” مع مصدر سوري يتواجد بالقرب من مناطق سيطرة وانتشار قوات فاغنر في سوريا، والذي طلب حجب هويته حفاظًا على سلامته الشخصية والذي أوضح لنا أن بالفعل هناك حالة من التوتر تسود معسكرات مرتزقة فاغنر في الأيام الماضية وتحديدًا منذ إعلان مقتل قائد المرتزقة بريغوجين حين سقطت طائرته في يوم الـ23 من أغسطس الماضي، بل وأكد أيضًا على تضاءل حجم المقاتلين في المعسكرات التابعة للمرتزقة الروسية في الآونة الأخيرة.
وهو ما يؤكده منشور نشره حساب جراي زون التابع لمرتزقة فاغنر الروسية على قناته الرسمية على تليغرام والذي حمل في طياته بعض الإدانات لوزارة الدفاع الروسية فكتب في رسالة مقتضبة أرفقها بصورة لمقاتلين فاغنر في تدمر السورية: “جنود من سرية فاغنر في البادية السورية، في عام 2017، الذي دخل التاريخ بالفعل، بعد انسحاب وزارة الدفاع الروسية من تدمر، وتحريرها بـ«الأوركسترا»، بدأ «الموسيقيون» الهجوم الثاني على «عروس الصحراء» (تدمر). حيث قبل ذلك، كان عليهم مرة أخرى، مثل المرة الأولى، القتال من أجل الاستيلاء على عدد من المرتفعات التابعة لعناصر داعش”.
وهنا يجدر الإشارة إلى أن حساب جراى زون أشار لانسحاب قوات الجيش الروسي من تدمر، والذي مهد الطريق لعناصر داعش بالاستيلاء عليها بعد أن كانت المنطقة تحت السيطرة الروسية، قبل أن يعود مرتزقة فاغنر لتحريرها مرة أخرى من عناصر تنظيم داعش وإعادتها للسيطرة الروسية من جديد، ليتضح لنا حجم الانشقاقات داخل الوسط الروسي والذي يتضح لنا يومًا بعد آخر أنه في ازدياد مستمر خاصةً بعد مقتل يفغيني بريغوجين.
تأثير الانشقاقات والخلافات على الوضع السوري
على ما يبدو بدأت مرحلة تقليم أظافر مرتزقة فاغنر العسكرية الخاصة خارج روسيا.
ففي الـ27 من أغسطس الماضي حط نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكوروف، في دمشق بعد ليبيا، مطالباً بطرد مقاتلي فاغنر من البلاد، بحسب ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، وأوضح أن المسؤول الروسي الرفيع طالب قيادات عسكرية سورية بإبلاغ مقاتلي فاغنر بضرورة الانسحاب من البلاد أو الانضمام للجيش الروسي في سوريا.
كما أضاف أنه بحث ملف فاغنر بالإضافة إلى عدة قضايا أخرى مع القادة السوريين. وذكر أن وزير الدفاع السوري علي محمود عباس اجتمع بالفعل مع قيادات فاغنر، وعرض عليهم تسليم سلاحهم والانسحاب من البلاد، خلال شهر كحد أقصى أو الانضمام للجيش الروسي في سوريا والعمل تحت إمرته.
إضافة إلى ذلك، فقد أوضح مدير المرصد، رامي عبد الرحمن، في تصريحات إعلامية آنذاك أن قوات فاغنر منتشرة حول آبار النفط بالبادية السورية وريف حماة، وأكد على أنه سيتم استبدالها قريباً، كما شدد على أن الدفاع الروسية طلبت من دمشق إبلاغ فاغنر بضرورة الانسحاب.
وهو ما يتطابق مع المعلومات التي وصلت إلينا ببدء انسحاب قوات فاغنر من بعض المناطق السورية، وهو ما يؤكده أيضًا ما يتم تتداوله بين النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية.
الآفاق المستقبلية
ختامًا، من المهم مراقبة تطورات هذه العلاقة المعقدة بعناية، فعلى ما يبدو أن الإمبراطورية الاقتصادية الكبيرة التي بناها بريغوجين، بدأت تسيل لعاب العديد من الجهات، إذ بدأت شركات المرتزقة الجديدة، التي تديرها وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية GRU، تتنافس للاستيلاء على عقود فاغنر.
وبالنظر إلى كل ما سبق، فعلى ما يبدو أن بوتين شعر بالخوف من ازدياد شعبية بريغوجين داخل الأوساط الروسية، خاصة بعد فشل بوتين ورجالات الكرملين في غزوهم لأوكرانيا والذي ألقى بظلاله على الاقتصاد الروسي ووضع بوتين في مواجهة الشعب الروسي، فبين المعترضين على غزو أوكرانيا وبين الشعب الروسي الذي يعاني ويلات الغزو الاقتصادية، فما كان أمامه وسيلة أخرى سوى القضاء على بريغوجين والسيطرة الكلية على مرتزقته العسكرية، وهو ما اشعل فتيل الصراع بدل من تهدئته، ليبقى السؤال الأهم، كيف سيقوى بوتين على مواجهة تلك التحديات وما هي خطوات فاغنر القادمة للانتقام لمقتل زعيمهم؟.. هذا ما ستكشفه لنا الأحداث في الفترة المقبلة.