شي جين بينغ.. وما وراء اختفاء جنرالات الصين
يتناول هذه المقال ما آلت إليه الأمور فيما يخص شعور الرئيس الصيني شي جين بينغ بالخيانة وإنعدام الثقة في قيادات جيش التحرير الشعبي الصيني وقيادات الحزب الشيوعي الصيني. ولعل أهم ما نبحث عنه هو ما يدور داخل عقلية القائد الشيوعي، الذي يواجه تحديات خطيرة تجعله يعيش في حالة من التوتر والشك والقلق بشأن المستقبل.
تعتبر الصين دولة ذات نظام شيوعي حيث يكون الحزب الشيوعي الصيني المسيطر هو السلطة القائمة في البلاد. يترأس هذا الحزب الرئيس شي جين بينغ، الذي يواجه تحديات غير مسبوقة في مسيرته السياسية. يُعتقد أن شي يعاني من شعور بالخيانة والشك نحو بعض قيادات الجيش والحزب، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الصين والتوجه السياسي والعسكري للبلاد.
يتناول هذا المقال الجوانب المختلفة لهذا الشعور بالخيانة وإنعدام الثقة الذي يعتقد أن الرئيس شي يواجهه، بما في ذلك السياق السياسي والعسكري الصيني والعوامل التي تسهم في تشكيل عقلية الرأس الأكبر داخل الحزب الشيوعي. وسيبقى السؤال الأهم هو، كيف يمكن أن تؤثر الخيانة والشك على سياسات وقرارات شي ومدى تأثير ذلك على مسار قرارت الحزب الشيوعي الصيني؟.
وهو ما سنعرفه من التقرير الذي تناولته صحيفة Foreign Affairs الأمريكية.
شي جين بينغ.. بين انعدام الثقة ووهم السيطرة
300 ألف جندي سرحهم الرئيس الصيني شي جين بينغ من الجيش منذ توليه السلطة منهم أعداد كبيرة من القادة، وهو ما تعهد به شي خلال العرض العسكري الذي أقامه الجيش إحياءًا للذكرى السبعين للحرب العالمية الثانية وفقًا لما ذكرته صحيفة The Gurdian البريطانية، ولكن رغم ذلك مازال شي يبدو غير مسيطراً على الجيش الصيني ومازال على الأرجح لا يثق به.
واختفى عدد من كبار جنرالات الجيش الصيني عن أعين الرأي العام على مدار الشهرين الماضيين. وتُعَدُّ تلك الاختفاءات صادمة نظراً للتصور القائم بأن الرئيس الصيني شي جين بينغ يسيطر على جيش التحرير الشعبي، فضلاً عن التزامه الصارم باقتلاع جذور من يخلون بمهامهم الوظيفية منذ بداية حكمه.
لكن تلك الوقائع تكررت وأثرت على بعض المواقع الأكثر حساسيةً في صفوف الجيش الصيني، ما يكشف عن محدودية سلطة الرئيس شي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Foreign Affairs الأمريكية.
لماذا لا يثق شي جين بينغ بجيشه؟
الرئيس الصيني خاصةً والحزب الشيوعي الصيني عامة لطالما منحا الجيش استقلاليةً كبيرة في إدارة شؤونه الخاصة. حيث أن منح الجيش درجة عالية من الاستقلال يساعد في ضمان امتثاله السياسي لشي وللحزب. لكن تلك الاستقلالية وغياب الضوابط والرقابة المدنية تسببا في خلق الظروف المواتية لتفاقم ضعف المساءلة والإخلال بالمهام الوظيفية. ولم تتضح تفاصيل عمليات التطهير الأخيرة بعد، لكنها تعكس ضعف ثقة شي في عددٍ من كبار ضباطه.
ومن المؤكد أن شكوك شي في مدى كفاءة رجاله -والمعدات التي يبدو أنهم أساءوا إدارتها- ستلقي بظلالها على حساباته لمخاطر بدء أي صراع، ما سيقلل ثقته في جدوى اتخاذ قرار باستخدام القوة لتحقيق نتائجه المرجوة. ومن المرجح أن انعدام ثقة شي في جيشه سيكون بمثابة رادع للحرب، طالما أن شي لا يصدق ما يخبره به جنرالاته عن مدى كفاءتهم.
موجة اختفاء القادة
بدأت موجة حالات الاختفاء الأخيرة في شهر أغسطس/آب، عندما حل ضباط معينون من القوات البحرية والجوية محل القائد الأعلى لقوة الصواريخ في الجيش الصيني.
وتزامن ذلك مع تداول شائعات عن الفساد وبيع الأسرار العسكرية في صفوف كبار قادة الجيش، رغم عدم الإعلان عن توجيه أي اتهامات. واستمرت الموجة بإقالة رئيس المحكمة العسكرية الصينية على يد مجلس الشعب الصيني.
وفي سبتمبر/أيلول، لاحظ المراقبون غياب وزير الدفاع لي شانغفو عن عدد من المناسبات التي كان من المقرر أن يحضرها، مما أكّد الشائعات التي قالت إنه رهن التحقيق بتهمة الكسب غير المشروع من منظومة المشتريات العسكرية.
ومثّلت تلك الاختفاءات مفاجأةً للعديد من المراقبين. إذ يجري تصوير شي عادةً على أنه أقوى قائد أعلى للجيش الصيني منذ عهد دينغ شياوبينغ، الذي رأس اللجنة العسكرية المركزية في الثمانينيات. يُذكر أن شي كان نشطاً في المسائل العسكرية قبل وقت طويل من وصوله لرئاسة اللجنة العسكرية المركزية عام 2012.
كان التخلص من كبار الضباط الفاسدين أو ذوي الولاء السياسي المشكوك فيه (أو كليهما) بمثابة مهمة كبيرة لشي في بداية رئاسته للجنة العسكرية المركزية عام 2012. لكن تحقيقات مكافحة الفساد صارت أقل منذ ذلك الحين، ما عزز النظرة بأن جهود شي المبكرة لتطهير الجيش قد حققت نجاحاً كبيراً. كما ظل شي منخرطاً بشدةٍ في التعيينات الخاصة بالمناصب العسكرية، حيث تقول التقارير إنه يتدخل في الترقيات وصولاً إلى رتبة اللواء.
بينما شهد المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي العام الماضي اختيار شي لمجموعة ضباط جدد في اللجنة العسكرية المركزية، وبينهم وزير الدفاع لي. ولهذا كان من المفترض بأولئك الضباط أن يكونوا محل ثقة، وكفاءة، وولاء.
فضلاً عن أن الحالات الأخيرة تُعَدُّ صادمةً على نحوٍ خاص نظراً للمناصب التي كان يشغلها أولئك الضباط. إذ من المفترض أن المرشحين لتلك المناصب يخضعون لأشد عمليات التدقيق الممكنة، قبل أن يوافق شي على تعيينهم بشكلٍ شخصي. ولهذا فإن إخفاقه في ضمان امتثال شاغلي تلك المناصب الحساسة يُثير الشكوك حول مدى نجاحه في إدارة الجيش على نطاقٍ أوسع.
تشير حالات الاختفاء إلى أن قبضة شي على الجيش قد تكون أقل اكتمالاً مما هو متصور. كما تعكس الهيكلة الأساسية للعلاقات المدنية-العسكرية داخل الصين، ما يساعد في تفسير استمرار قضايا الفساد وسوء الإدارة حتى داخل أكثر فروع الجيش الصيني حساسية.
وربما نصّب شي نفسه كأقوى رئيس للجنة العسكرية المركزية، لكن جيش التحرير الشعبي ما يزال في جوهره مؤسسة ذاتية الحكم.
كيف أصبحت صفقة بين المدنيين والعسكريين سببًا في استقلالية الجيش؟
ولطالما كان الجيش الصيني منعزلاً، لكنه بلغ مستويات مرتفعة للغاية من الاستقلالية في الثمانينيات تحديداً. حيث كان الجيش منخرطاً بشدة في إدارة البلاد خلال العقود السابقة تحت ولاية ماو تسي تونغ، واحتل كبار الضباط أعلى المناصب داخل الحزب. بينما فضل دينغ حوكمة البلاد بواسطة المدنيين التكنوقراطيين، وأمر الجيش بالعودة إلى الثكنات حتى يركز قادته على التحديث العسكري تحديداً.
ونصّت الصفقة الضمنية على منح الجيش حرية العمل بالنحو الذي يراه مناسباً، شريطة أن يقبل قادة الجيش بحكم الحزب وألا يشكلوا تهديداً له. وبهذا منح القادة المدنيون حرية حركة كبيرة للجيش داخل مساره البيروقراطي. كما سمح دينغ للجيش بإدارة إمبراطوريات تجارية ضخمة أسفرت عن فضائح سيئة السمعة في التسعينيات، ومنها استيراد وكلاء المشتريات العسكرية لسيارات فاخرة بهدف بيعها في الصين. بينما واجه خلفاء دينغ، مثل جيانغ زيمين وهو جينتاو، صعوبةً كبيرة في إقناع الجيش بالانسحاب من مثل تلك المشروعات.
لكسب مزيد من السلطة والنفوذ.. شي أطلق العنان للجيش
وقد شجع شي الجيش على أن يصبح أنظف وأكثر احترافية سيراً على خطوات من سبقوه. وعلاوةً على حملته لمكافحة الفساد، أعاد شي تنظيم البيروقراطية لتعزيز الإدارة بصورةٍ أفضل، وشمل هذا منح سلطةٍ أكبر للمدققين الماليين ومفتشي الكسب غير المشروع. لكن شي لم يغير الصفقة التي أبرمها دينغ مع الجيش، بل سمح للجيش بالاستمرار في ضبط أوضاعه الداخلية دون تدخل كبير من السلطات الخارجية.
يتمثّل السبب الرئيسي لتلك الاستقلالية في أن شي كان بحاجةٍ إلى كسب دعم الجيش والحفاظ عليه. وربما كان عازماً على اقتلاع جذور شبكات الفساد والضباط الذين قد لا يدينون بالولاء له، لكنه كان بحاجةٍ إلى دعم كبار القادة من أجل تعزيز سلطته وتنفيذ أكبر إعادة هيكلة للجيش منذ الخمسينيات.
وتضمَّن ذلك التحول تسريح 300 ألف فرد من الجيش، وخفض حصة القوات البرية المؤثرة سياسياً من زهاء الثلثين إلى أقل من نصف إجمالي قوات الجيش. ونجح شي في تحقيق تلك الإصلاحات لأنه حصل على موافقة كبار القادة، ولأنه سمح للجيش بأن يظل متحرراً من الإشراف الخارجي بدرجةٍ كبيرة.
وتضافرت الرقابة الضعيفة على الجيش مع الزيادات المتواصلة في حجم الميزانية العسكرية. إذ ارتفع حجم الإنفاق العسكري الصيني بأكثر من الضعف بين عامي 2012 و2022، ليشهد صعوداً من 106 مليارات دولار إلى 230 مليار دولار. وجرى تخصيص 40% تقريباً من تلك النفقات لميزانية المشتريات التي موّلت عدداً من البرامج الباهظة، ومنها برامج حاملات الطائرات وتحديث المقاتلات، ناهيك عن التوسع الهائل في الترسانة النووية الصينية.
وهذا يعني أن أفراداً مثل قادة قوة الصواريخ، ومسؤول المعدات العسكرية، والضباط المسؤولين عن الرقابة كانوا يحتلون مناصباً تتيح لهم التربح من زيادة الميزانية. أي إنهم كانوا يمتلكون الأدوات، والدوافع، والفرص المواتية لتعبئة جيوبهم بالمال رغم خطاب شي المناهض للفساد والمشجع على الاحترافية.
وعند النظر إلى عمليات التطهير الأخيرة من عدسة العلاقات المدنية-العسكرية الفريدة في الصين؛ ستظهر أمامنا صورة متداعية لقدرة شي على تطويق بيروقراطية الجيش. كما سيساعدنا ذلك في تفسير استمرار عمليات التطهير بعد مرور عقدٍ على حكمه، ووسط مناصب حساسة في الجيش أيضاً.
علاوةً على أن حاجة شي السياسية لمنح الجيش استقلال أكبر قد تكون السبب وراء بعض القضايا الصادمة الأخرى التي بدا وكأن الجيش يتحرك فيها خارج إطار السيطرة المدنية، ومنها قضية خطط البنية التحتية المثيرة للجدل في منطقة دوكلام بمملكة بوتان وواقعة منطاد التجسس التي حدثت في فبراير/شباط الماضي. وما يزال جيش التحرير الشعبي مؤسسة “شبه مارقة” على بعض المستويات بحسب وصف العالم السياسي أندرو سكوبيل، أي إنها من المستبعد أن تنظم انقلاباً لكنها تخضع لإشراف سيء في الوقت ذاته.
ولا شك أن فقدان الثقة الواضح في بعض كبار قادة الجيش يثير تساؤلات جديدة حول حجم الفساد القائم في منظومة المشتريات العسكرية، وحول الجوانب الأخرى التي يخفيها الجيش الصيني على صعيد نفقاته وعملياته. وعندما نضيف إلى ذلك تركيز الحزب الشيوعي على الاقتصاد المتعثر؛ سنجد أن مسائل سوء الإدارة داخل الجيش ستحتاج إلى قدرٍ أكبر من وقت شي واهتمامه.
ومن المرجح أن غياب الثقة في الجيش سيكون له تداعياته على قدرات الحزب في استخدام القوة خلال السنوات المقبلة. ومن المرجح كذلك أن شي يدرك -بفضل خلفيته- حقيقة كون الجيش الصيني مؤسسة معرضةً للفضائح، ويصعب السيطرة عليها برغم جهود الدعاية وحملات مكافحة الفساد الدورية. وتزيد القضايا الأخيرة من الشكوك في أن الجيش الصيني ربما يخفي في طياته المزيد من أوجه القصور، وخاصةً في ما يتعلق بالمعدات الضرورية التي اشتراها الجيش على مدار العقد الماضي.
ومن المحتمل أن يؤثر ذلك على جاهزية الجيش في النهاية، أو على التصورات السائدة بين النخبة المدنية حيال حجم قدرات تلك القوات وإمكانية الاعتماد عليها في أي صراع. ويجب أن يتساءل هؤلاء عن الأخطاء التي قد تحدث إذ طُلِبَ من الجيش الانتقال من مرحلة استعراضات القوة الرمزية، والدخول في صراع حقيقي ضد خصمٍ بقدرات عالية. ولا بد أن تؤثر مثل هذه المخاوف على قرارات الرئيس شي واللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، وذلك في ما يتعلق بالدخول في صراع مع الولايات المتحدة وتايوان من عدمه.
ويُمكن أن ينسب لشي الفضل في بناء جيش قوي يفرض تحديات لا يمكن إنكارها على تايوان -وغيرها من الخصوم الإقليميين- في وقت السلم. لكن حاجته لكسب التأييد المؤسسي من الجيش تحديداً هي التي جعلته متردداً في زعزعة أركان هذه البيروقراطية. ومن المحتمل أن إلمام شي بسرية الجيش الصيني وسوء إدارته الهيكلية قد يدفعه إلى الشك في مدى كفاءته العملياتية خلال أي أزمةٍ أو صراع. وتشعر الولايات المتحدة بالقلق حيال أفضل طريقة لردع أي عدوانٍ صيني من ناحيتها، لكن القيد الحاسم الذي يكبل الصين قد يكون أقرب إلى البر الرئيسي في الواقع.