بوتين يواصل تجنيد السجناء رغم تمرد فاغنر
“مجندون في حالة سكر أغلبهم من السجناء”، أصبحوا يمثلون المكون الأساسي لما يُعرف بفرق العقاب الروسية الجديدة التي يلقي بها الكرملين في أتون الحرب الأوكرانية، وتحديداً في معاركها الأشد ضراوة، وسط مزاعم غربية بأن الجيش الروسي يضحي، ولا يهتم حتى بعلاجهم من الإصابات، وسط تقارير عن حالة تذمر حادة في أوساط هذه الفرق التي تقوم على تجنيد السجناء الروس والجنود المعاقبين.
فمع استمرار الحرب في أوكرانيا واقترابها من عامين، يبدو أن روسيا ما زالت تواجه مشكلة في التجنيد، دفعتها لحشد فرق من السجناء المطلق سراحهم مقابل الاشتراط عليهم القتال على الجبهة، حسبما ورد في تقرير لوكالة رويترز.
يأتي ذلك رغم ما سببته تجربة فاغنر، التي اعتمدت على السجناء، من مخاوف إثر التمرد الذي قاده زعيم المجموعة الراحل، يفغيني بريغوجين، والذي وصل خلاله بقواته إلى قرب العاصمة الروسية موسكو دون مقاومة تذكر، قبل أن ينسحب ويُنفى إلى بيلاروسيا حتى اغتياله في ظروف غامضة.
وقبل أيام وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مرسوماً سنوياً ينص على تجنيد 130 ألف شخص في الخدمة العسكرية الإجبارية بدءاً من الخريف.
نقص سكان روسيا
وقد تكون المفارقة أن أكبر تحدّ يواجه مكانة روسيا كدولة عظمى هو عدد السكان، وبالتالي عدد الجنود المتاحين للخدمة، وليس الحرب في أوكرانيا ولا العقوبات الغربية على اقتصاد البلاد.
كانت روسيا على مدار تاريخها الحديث منذ عهد الإمبراطور بطرس الأكبر، مشهورة بقدرتها على حشد عدد كبير من الجنود في ساحات المعارك بفضل عدد سكانها الكبير، الذي كان دوماً الأكبر في أوروبا ومن الأكبر عالمياً، ومكنها ذلك من التفوق على دول أكفأ عسكرياً وأكثر تقدماً، مثل بولندا والسويد وفرنسا النابليونية وألمانيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
كانت روسيا قادرة على إنزال مزيد من الجنود إلى الجبهة مهما كانت الخسائر.
وتعززت هذه القدرة في عهد الاتحاد السوفيتي الذي كان يضم 14 دولة بجانب روسيا.
وعند انهياره عام 1992، كان عدد سكان الاتحاد السوفيتي نحو 286 مليون نسمة، (نحو نصفهم يعيشون في روسيا الاتحادية)، وكان الاتحاد السوفيتي ثالث أكبر دول العالم من حيث عدد السكان بعد الصين والهند، متفوقاً على الولايات المتحدة.
اليوم عدد سكان روسيا يبلغ نحو 146 مليوناً محتلة المرتبة التاسعة عالمياً (وما زالت الأولى أوروبياً)، حيث تتفوق عليها دول مثل باكستان ونيجيريا وبنغلاديش والبرازيل، بل إن عدد سكانها يزيد بمقدار الثلث أو أكثر قليلاً عن دول شرق أوسطية مثل إيران وتركيا ومصر، وهي الدول التي كان عدد سكانها لا يمثل سوى أقل من ربع سكان الاتحاد السوفيتي عند انهياره.
ويزيد الأمر سوءاً أن البلاد مساحتها شاسعة، فهي الأكبر عالمياً بمساحة تقدَّر بنحو 17 مليون كيلومتر مربع، وهذا يعني وجود مناطق قريبة للحدود شبه خاوية خاصة في سيبيريا وآسيا الوسطى، وبصورة أقل القوقاز، وتحتاج إلى جيش وشرطة كبيرين لحماية وتأمين هذه الحدود والمناطق، خاصة أن أكثر من ثلث سكان البلاد من غير الروس ونسبة كبيرة منهم من المسلمين.
أزمة الإنجاب التي وقعت في نهاية الحقبة السوفيتية تظهر تداعياتها الآن
ويفاقم مشكلة التجنيد لدى روسيا، الأزمة الديموغرافية التي مرت بها البلاد قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وبعده، حيث أدى التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسية لتراجع المواليد بشكل حاد في تلك الفترة وكذلك ارتفاع نسب الوفيات، الأمر الذي أدى إلى نقص كبير في جيل الشباب الحالي الذي وُلد في فترة التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، لأن هذه الفترة شهدت زيجات قليلة.
إذ خسرت روسيا أكثر من 5 ملايين نسمة منذ عام 1991 بفعل الأزمة السكانية التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، حسبما ورد في تقرير لموقع “يورو نيوز بالعربية”.
وبعد فترة من الانتعاش، عاود عدد السكان في روسيا الانخفاض منذ عام 2018 مع بلوغ الجيل الذي وُلد في أولى السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، والتي شهدت انخفاضاً في عدد الولادات بين الجيل الذي أصبحت سنّه حالياً مواتية للإنجاب.
كما أن ارتفاع مستوى التعليم والدخل في السنوات الماضية، جعل جزءاً من الشباب الروسي لديه ميل للعمل في مهن راقية، وهؤلاء بطبيعتهم ينفرون من الانضمام للجيوش، وكثير منهم لديه رغبة للهجرة للغرب، خاصة ألمانيا، بحثاً عن دخل أفضل يلائم مستواهم التعليمي.
ويعتقد أن تيار الهجرة أو الرغبة فيها على الأقل ازداد بشكل كبير بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
والكثير من الروس يرون أن خطر نقص السكان، وخصوصاً الرجال، سيظهر في الفترة القادمة، وسيتفاقم نتيجة للتعبئة الجزئية، الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع السكان، بل إن بعضهم يرى أن المواطن الروسي مهدد بالانقراض.
وصرح خبراء روس في وقت سابق بأن الوضع الديموغرافي في روسيا في السنوات الأخيرة كارثي، كما أن توقعات اللجنة الحكومية للإحصاء في روسيا تظهر انخفاضاً عاماً في عدد السكان.
وحسب التوقعات الأولية لمعدل المواليد لعام 2022-2050، فإن لكل امرأة 1.49 طفل، وفي السنوات القادمة من المتوقع انخفاض هذا الرقم إلى 1.17 بحلول عام 2027، وذلك وفقاً لمعهد الديموغرافيا Vishnevsky HSE.
ويُعتقد أن نسبة النساء هي الأعلى بروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد كشفت الأرقام الصادرة عن اللجنة الحكومية للإحصاء في روسيا أن النساء يُهيمنّ على مجالات عمل عدة بنسبة تصل لـ80%، من بينها التمويل، والتأمين، والتعليم، والرعاية الصحية، والثقافة والترفيه، والفنادق والمطاعم.
وسبق أن اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الأزمة السكانية التي تعيشها روسيا تشكل تهديداً لمستقبل البلاد وتحدياً “تاريخياً” لها، معلناً تدابير جديدة لدعم الأسر بهدف زيادة عدد السكان.
والبلاد تعاني من نقص عمالة دفعتها لتشجيع الهجرة من جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية.
جعل ذلك الجيش الروسي الذي يُقدر عدده بنحو مليون و300 ألف جندي غير قادر على توفير أعداد كبيرة للحرب في أوكرانيا، حيث يعتقد أن حجم القوات الروسية التي خصصت للغزو لم تزد في البداية عن 200 ألف مقابل استدعاء أوكرانيا للاحتياط الخاص بها بشكل كبير، ليصل عدد جيشها إلى نحو مليون جندى.
وحتى بعد أن أصدر بوتين في سبتمبر/أيلول 2022، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية مرسوماً بشأن التعبئة الجزئية لـ”استدعاء 300 ألف فرد إضافي” للخدمة في الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا، فلو افترضنا أنهم ذهبوا جميعاً إلى أوكرانيا، فإن الجيش الروسي هناك لن يزيد عدده في الجبهة على 500 ألف، أي نصف نظيره الأوكراني.
وكثير من الجنود الروس المستدعين أظهروا عدم رغبة في المشاركة في الحرب، مثلما بدا من عمليات الهروب الواسعة من التجنيد التي شهدتها البلاد عند اتخاذ قرار استدعاء الاحتياط.
وجعل ذلك روسيا، على ما يبدو، تصر على الاستمرار في خيار تجنيد السجناء، على ما به من مشكلات، كما قيل إنها تحاول تجنيد مقاتلين من الجمهوريات السوفيتية السابقة.
تجنيد السجناء للجيش الروسي
وأحد المشاهد المرتبطة بالحرب الأوكرانية التي لا تُنسى، فيديو ليفيغيني بريغوجين مؤسس فاغنر والذي كان يوصف بطباخ بوتين، وهو في أحد السجون الروسية، يحث السجناء على الانضمام لقواته للمشاركة في حرب أوكرانيا، مقابل أجور جيدة ونيل عفو شامل، محذّراً إياهم من محاولة ممارسة السرقة أو الاغتصاب أو أي تنفيذ جرائم حال انضمامهم لقواته.
ولكن يبدو أنه بدلاً من تجنيد السجناء في وحدات تابعة لشركة فاغنر للمرتزقة، فإنه جرى دمجهم في كتائب تابعة للجيش الروسي مباشرة.
فحسب تقرير وكالة رويترز، تم تجنيد مئات المجرمين العسكريين والمدنيين وضمهم إلى الوحدات العقابية الروسية المعروفة باسم فرق “Storm-Z” (العاصفة زد)، وإرسالهم إلى الخطوط الأمامية في أوكرانيا هذا العام، وفقاً لـ13 شخصاً على علم بالأمر، بما في ذلك 5 مقاتلين في هذه الوحدات.
والقليل من هؤلاء المجندين يعيشون ليروا قصتهم، حسب تقرير رويترز.
وأفادت وسائل الإعلام الروسية التي تسيطر عليها الدولة بوجود فرق Storm-Z، وأنها شاركت في معارك ضارية وحصل بعض أعضائها على أوسمة للشجاعة، لكنها لم تكشف عن كيفية تشكيلها أو الخسائر التي تتكبدها.
“إن مقاتلي العاصفة مجرد لحم بالنسبة للجيش الروسي”، هكذا تم وصف المجندين السجناء من قبل جندي نظامي من وحدة الجيش الروسي رقم 40318 التي تم نشرها بالقرب من مدينة باخموت في شرق أوكرانيا التي دار فيها قتال شديد في مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضي.
وقال لرويترز إنه قدّم العلاج الطبي لمجموعة مكونة من 6 أو 7 جرحى من مقاتلي Storm-Z في ساحة المعركة، مخالفاً أمر القائد – الذي لم يذكر اسمه – بترك الرجال.
وأضاف “إنه لا يعرف لماذا أصدر القائد هذا الأمر، لكنه ادعى أنه يوضح كيف يعتبر الضباط مقاتلي Storm-Z أقل قيمة من القوات العادية”.
وقال الجندي، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، لأنه يخشى الملاحقة القضائية في روسيا بسبب مناقشة أمور الحرب علناً، إنه يتعاطف مع محنة الرجال.
وأضاف “إذا قبض القادة على أي شخص تفوح منه رائحة الكحول في أنفاسه، فإنهم يرسلونه على الفور إلى فرق العاصفة”.
وأشار الرئيس فلاديمير بوتين إلى المدانين الذين يقاتلون في الجيش النظامي يوم الجمعة. وفي اجتماع متلفز مع مجموعة صغيرة من الجنود الروس النظاميين، قال إنه على علم بمقتل اثنين من رفاقهم، السجناء السابقين في السجن، أثناء القتال.
وأضاف بوتين: “لقد ضحوا بحياتهم من أجل الوطن الأم، وقد برأوا أنفسهم تماماً من ذنبهم”، مضيفاً أنه سيتم تقديم المساعدة لأسر المدانين، دون الخوض في تفاصيل.
وفي حين أن وزارة الدفاع الروسية لم تعترف قط بإنشاء وحدات Storm-Z، إلا أن التقارير الأولى عن وجودها ظهرت في أبريل/نيسان 2023 عندما أشار معهد دراسة الحرب، وهو مركز أبحاث مقره الولايات المتحدة، إلى ما قال إنه يبدو أنه وثيقة روسية مسربة تتضمن تقريراً عسكرياً عن تشكيل هذه الفرق.
ولم تتمكن رويترز من تحديد العدد الإجمالي للجنود الذين يخدمون في الوحدات، على الرغم من أن المقابلات مع الأشخاص المطلعين على الأمر تشير إلى ما لا يقل عن عدة مئات من مقاتلي Storm-Z المنتشرين حالياً على خط المواجهة.
كان لدى فاغنر حوالي 25 ألف مقاتل يشاركون في الصراع، حسبما قال زعيمها الراحل يفغيني بريغوجين وقت تمرده في يونيو/حزيران الماضي.