جهاد طروادة وحرب غزة.. كيف انكشفت خطة إيران بعد التخلي عن حماس؟
لا يمكن فهم أبعاد الأحداث الحالية في غزة أو التوترات في الدول العربية إلا بعد استيعاب مفهوم الحرب بالوكالة في الاستراتيجية الإيرانية، فطهران تشعل الحروب ولا تخوضها بنفسها بل بفصائل مسلحة شيعية تشكل خط دفاع أول عنها، وفوق ذلك تخترق الجماعات السنية لتشكيل خط دفاع ثاني فيما يُعرف بـ”جهاد طروادة“.
فبجانب اختراق تنظيم القاعدة من خلال قائده المقيم في طهران، سيف العدل، عمل الإيرانيون على الدفع بالفصائل الفلسطينية لخوض مواجهة مع إسرائيل ونأوا بأنفسهم عنها وتبرأوا من نصرتها ميدانيًا حين جد الجد واشتعلت الحرب بالفعل في السابع من أكتوبر.
يقول الدكتور فهد الشليمي، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات السياسية، إن إيران كانت تدعم حماس، خدمة لأهدافها الفارسية، لكنها في وقت الحقيقة ووقت المواجهة انسحبت، مبينا أن فلسفتها السياسية ألا يكون هناك نزاع على الجغرافيا الإيرانية، فالنزاع يجب أن يكون خارج حدودها.
وأضاف في تصريحاته لـ”أخبار الآن” أن إيران تعتمد على دعم الأذرع الثورية بحيث يكون المتضرر هم العرب وأراضيهم، لكن الذي يساوم هم الإيرانيون.
وتابع أن النظام الإيراني يدرك أنه إذا هوجم في عقر داره سيضعف موقفه لذا يحاول إبعاد الخطر عن أراضيه، فلذلك نجد الميليشيات التابعة لإيران منتشرة في العراق وسوريا واليمن، فهو يحيط نفسه بميليشيات تمنع أي اختراق للأراضي الإيرانية.
وكشفت تقارير إعلامية استضافة العاصمة الإيرانية في أوائل صيف العام الحالي اللقاء السنوي لفصائل “محور المقاومة” بما فيهم حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، وركز اللقاء الذي ترأسه المرشد الإيراني علي خامنئي، على إنشاء غرفة عمليات إقليمية مشتركة لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، ووزع المشاركون المسؤوليات فيما بينهم، وعرفت كل جهة المهام التي تقع على عاتقها.
وبعد إطلاق حركة حماس عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، تم إقرار تفعيل تلك الغرفة، لكن دون أي جدوى تقريبًا.
ووجدت الفصائل الفلسطينية نفسها وحيدة في المعركة، فلجأ قادة الجناح السياسي لحماس في الخارج إلى محور المقاومة لتفعيل مفهوم “وحدة الساحات” بعد تدهور الوضع في غزة؛ فوصل وفد من الحركة برئاسة القيادي أسامة حمدان إلى العراق في 27 أكتوبر والتقى بقادة ميليشيات الحشد الشعبي العراقية لبحث سبل الحصول على أي دعم في المعركة.
كما زار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، إيران، والتقى المرشد الأعلى، علي خامنئي، دون أن ينجح في الخروج بمكاسب ملموسة يقدمها إلى جمهوره في هذا الظرف العصيب.
بل خرج رئيس لجنة الأمن القومي بالبرلمان الإيراني، وحيد جلال زاده ليقول :” قال إسماعيل هنية في لقاءنا الأخير معه إن حماس لا تريد معدات عسكرية أو صواريخ من إيران، لكن ما تريده منا هو إقامة التجمعات والهتاف ضد إسرائيل”!
دعوات تخريبية من طهران
مع تعالي الانتقادات لطهران بسبب تحريضها حركة حماس على ضرب إسرائيل وتخليها عنها منذ بداية المعركة وتركها تواجه الآلة الحربية الإسرائيلية وحدها، أطل مؤرخ تنظيم القاعدة المقيم في طهران، مصطفى حامد، ليبرر هذا الموقف الإيراني السلبي بوجود حاملات الطائرات الأمريكية في البحر المتوسط مما أدى إلى “منع أي تدخل ضد إسرائيل من جانب حزب الله أو إيران أو سوريا، أي إنها جمدتهم حتي تتيح لإسرائيل الفرصة الكاملة لإبادة غزة” على حد قوله.
وفي أكثر من مقال له يطالب حامد حركة حماس بقصف مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي! رغم إقراره بأنه سيكون له أثر قاتل على الفلسطينيين لكنه يزعم أنه لا يوجد أسوأ مما هم فيه!، ويحرض في أكثر من مقال على نقل المعركة إلى مصر واقتحام الفصائل الفلسطينية لسيناء، ويطالب الحركة بالإطاحة بإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، لأنه لم يقم بهذه الخطوة! بينما يدافع عن طهران التي حرضت حماس على شن الحرب وتخلت عنها بمجرد بدئها.
وفي مقاله “غزة : الموت علي الطريقة الشيعية” يقول حامد: “إذا لم تكن الحياة متاحة علي الطريقة السنية، يصبح الموت علي الطريقة الشيعية هو الخيار الأوحد”، لكنه لا يطالب النظام الإيراني بالقتال على أي طريقة وفق مبدأ “وحدة الساحات” الذي يعني تدخل المحور الإيراني لدعم الفصائل الفلسطينية، والذي لم يُعمل به حتى اليوم.
مراوغات الحوثي
في اليمن نظمت ميليشيات الحوثي مظاهرات شعبية لدعم النضال الفلسطيني وأطلق قادتها تصريحات كثيرة في هذا الإطار لكن الميليشيا تذرعت بأن الجغرافيا تمنعها من المشاركة في المعركة وأنها تتمنى لو كانت على حدود فلسطين لتشارك الأشقاء في غزة في معركتهم وخرج عضو المجلس السياسي الأعلى في اليمن محمد علي الحوثي، ليطالب بشيء غريب جدًا؛ إذ دعا المملكة العربية السعودية لفتح حدودها لدخول جميع أفراد القوات الحوثية لتخترق المملكة من أقصى الجنوب لأقصى الشمال بحجة المشاركة في المعركة! وبهذا العرض الهزلي صورت الميليشيا نفسها كقوة إسلامية تريد نصرة الأقصى وغزة واتهمت المملكة العربية السعودية بأنها تقف مانعًا وحائلًا أمام نصرة الفلسطينيين.
وذكرت تقارير إعلامية أن الحوثيين أطلقوا صواريخ كروز، اعترضت حاملة الطائرات الأمريكية في البحر الأحمر بعضها فيما اعترضت السعودية صاروخًا اخترق مجالها الجوي.
وذكرت وزارة الدفاع الأمريكية أنه تم إسقاط عدد من الطائرات المسيرة من المحتمل أن وجهتها كانت إسرائيل.
وبالنظر إلى أن المسافة بين صنعاء وإيلات حوالي ألفي كيلو متر مليئة بمحطات الإنذار مبكر وأنظمة الرادار، فالصاروخ الحوثي عليه أن يجتاز أنظمة دفاعية عديدة كلٌ منها كفيل بإسقاطه، ومع ذلك تطلق الميليشيا صاروخًا أو ثلاثة أو حتى خمسة ليتم اعتراضها في البحر قبل اقترابها من الهدف بمسافة كبيرة، خاصةً وأن الميليشيا لا تتبع سياسة الإغراق الصاروخي؛ أي تكثيف الإطلاق لتشتيت الرادارات، لذا تظل بلا أي تأثير ملموس بشكل مقصود، باستثناء المسيرات التي وقعت في أراضي دول الجوار.
من جهته أعرب خالد المصباحي، نائب رئيس هيئة شباب اليمن التابع باتحاد الشباب العربي للإبداع والابتكار، التابع لجامعة الدول العربية، عن اعتقاده أن الحوثي يقوم بهذه الحركات ليحافظ على شعبيته في الأوساط اليمنية، لأن شعاره هو “الموت لأمريكا الموت لإسرائيل”، فعندما بدأ طوفان الأقصى اتضح أنه هذه كلها مجرد شعارات، لكن بعد حادثة إطلاق الصاروخ وظهور الرواية الأمريكية بدأوا يكرروا هذه الرواية، فهم أعلنوا بعدها وليس قبلها، وأخذوا يقولون نحن أطلقنا وفعلنا وكذا، وبدأوا يتهموا السعودية بأنها هي التي تمنعهم من تحرير القدس وغيرها من الشعارات الكاذبة.
وأضاف في تصريحاته لـ”أخبار الآن” أنه مع انطلاق عملية “طوفان الأقصى” بدأ الناس يتساءلون على مواقع التواصل الاجتماعي عن الشعارات التي يرفعها الحوثي ولماذا لا يطبقها، ونسي الناس مشاكلهم وانشغلوا بموضوع غزة بعد أن كان هناك حراك في الشارع ضد الحوثي، واستغل الحوثي الفرصة وعمل على مسايرة التفاعل الشعبي الكبير مع غزة، واستغل الأحداث كذلك في جمع أموال الناس بحجة دعم غزة رغم أنه من المستبعد أن يرسل فعلياً أي مساعدات لغزة، مشيرا إلى أن الأمر مجرد مسرحية بين إيران وأمريكا للمحافظة على أذرع إيران في الوطن العربي.
وتابع أن الحوثي فاقد للشعبية لكن بسبب القمع يضطر الناس لإظهار ولائهم له فتجد أغلب الناس لما يخرج من اليمن يعطيك كلامًا غير الذي كان يظهره قبل ذلك.
يذكر أن الحوثي أعلن دخوله إلى المعركة بالتزامن مع التوغل البري الإسرائيلي في غزة، وهو خط أحمر كان يُتوقع أن يعلن المحور الإيراني الحرب بمجرد اختراقه، فجاء إدخال الحوثي إلى المعركة بهدف تخفيف العبء المعنوي على حزب الله اللبناني، لذلك أكد أمين عام الحزب، حسن نصر الله، مؤخرا مرارا على أهمية دور الحوثي في المعركة، وكرر التحية له، لأنه يقدمه كبديل لتورط حزبه في مواجهة مع إسرائيل.
وفي حالة الحوثي فإن التصعيد مع إسرائيل مضبوط تلقائيًا فلا هو يشكل تهديدا جديًا لتل أبيب ولا تصعيده -مهما بلغ- يصل إلى درجة الدخول في حرب، بعكس حالة لبنان التي تقع على حدود فلسطين بشكل مباشر، وهو ما يحقق الهدف الإيراني المتمثل في الظهور بمظهر المدافع عن غزة دون الدخول في مواجهة عسكرية حقيقية.
وعوضًا عن توجيه الحوثي ضربات للأهداف الإسرائيلية المنتشرة في البحر الأحمر مثل القاعدة العسكرية التابعة لتل أبيب في إريتريا على الجانب الآخر من البحر قبالة سواحل اليمن لجأ الحوثي إلى اختطاف سفينة تجارية تشغلها شركة يابانية عليها بحارة أوكرانيون وبلغاريون وفيليبينيون ومكسيكيون بدعوى أن أحد الإسرائيليين يشارك في ملكيتها.
أي أن الحوثي استمر في تحركاته الاستعراضية التي تتيح له إصدار بيانات حماسية والظهور بمظهر البطل المقاوم دون المساس بأي فرد إسرائيلي منعًا للتصعيد.
لبنان .. توتر تحت السيطرة
أما في لبنان فلم تستطع ميليشيا حزب الله استخدام حجة الحوثي والتذرع بالجغرافيا لأنها تمتلك بالفعل أراضي على المواجهة وكذلك قواتًا تستطيع التدخل وتملك برنامجًا صاروخيًا يطال العمق الإسرائيلي بسهولة فلذلك أقدم حزب الله منذ اليوم التالي للمعركة أي في الثامن من أكتوبر على قصف مزارع شبعا المحتلة التي تطالب بها لبنان.
وأظهر هذا المسلك رغبة الحزب في عدم المشاركة الفعلية في المعركة والاكتفاء بهذه المشاركة الرمزية وذلك لأنه قصف مناطق فارغة وردت إسرائيل عليه أيضًا بقصف مناطق فارغة دون أن يوقع أي من القصفين أي إصابات أو أضرار بشرية لدى الطرف الآخر.
كما أن الاكتفاء بقصف مزارع شبعا التي يطالب بها لبنان بيّن أن الحزب لا يريد توسيع نطاق الانخراط العسكري خارج الحدود اللبنانية، وبالتالي لا يريد التورط في مواجهة تطال الأراضي الفلسطينية، وعمد الحزب بدلًا من ذلك إلى إطلاق يد حركات الفصائل الفلسطينية في الجنوب اللبناني لمهاجمة إسرائيل بدلًا من أن يدخل بنفسه في هذه المواجهة.
فأقدمت حركة الجهاد الإسلامي في التاسع من أكتوبر على تنفيذ عملية في الداخل الإسرائيلي أدت إلى مقتل نائب قائد لواء في منطقة الجليل وأعلن حزب الله تنصله من المسؤولية عن العملية وأذاع ذلك لوسائل الإعلام الدولية لينأى بنفسه عن هذا الهجوم لكن إسرائيل ردت بقصف مواقع له.
وفي اليوم التالي شن أعضاء حركة حماس الذين ينسقون مع حزب الله في لبنان هجومًا صاروخيًا على شمال إسرائيل التي ردت بقصف مناطق حزب الله أيضًا لتحميله المسؤولية عن أي هجوم يصدر من الجنوب اللبناني بصفته يهيمن على هذه المنطقة بشكل فعلي وينشر قواته بها ولا يمكن أن تحدث مثل هذه الهجمات بدون ضوء أخضر منه، فاشتعلت المواجهات اليومية بين الحزب وإسرائيل واشتملت على قصف متبادل بين الطرفين بالقذائف والصواريخ وشن الطيران الإسرائيلي غارات على الجنوب اللبناني ووقع عدد من القتلى والجرحى من الطرفين.
لكن لم تخرج المواجهة عن نطاق قواعد الاشتباك التي تم إرساؤها بين الحزب وإسرائيل وتم الاتفاق عليها بشكل ضمني منذ عام ٢٠٠٦، وهي تنص على عدم توسيع أي اشتباك يحدث بين الطرفين وعدم تجاوز نطاق الرد وعدم الوصول إلى حالة الحرب الشاملة، وبالفعل التزم الحزب بهذا النطاق الذي ضمن له أن يظهر وكأنه شارك في المعارك دون أن تتطور الأمور إلى الدخول في حرب مع إسرائيل.
وحرص الحزب على عدم الانفراد بمشهد المواجهة، وذلك عبر توزيع المسؤولية، ليس فقط على الفصائل الفلسطينية في لبنان، بل عبر الدفع بقوات سنية لبنانية إلى المواجهة، ففاجأ المراقبين بإدخال “قوات الفجر” التابعة للجماعة الإسلامية، الفرع اللبناني لجماعة الإخوان المسلمين.
ولما كثرت الانتقادات والاتهامات للحزب بأنه يقوم بهجمات شكلية لا تفيد غزة في شيء، خرج أمينه العام في خطابه في 3 نوفمبر ليقول: “معركتنا لم تصل إلى مرحلة الانتصار بالضربة القاضية، ما زلنا نحتاج إلى وقت حتى نكون واقعيين، ولكننا ننتصر بالنقاط، ننتصر ونغلب بالنقاط”، مما يعني استبعاد تدخله لفتح حرب إقليمية خارج نطاق المناوشات الحدودية المضبوطة.
سوريا والعراق .. التحرش المحسوب بالقواعد
في سوريا تم الإيعاز لمجموعة فلسطينية مسلحة في ريف درعا الغربي جنوب سوريا بشن هجوم صاروخي على أراضي الجولان المحتلة التي تطالب بها سوريا في مطلع الأسبوع الثاني للحرب، دون أن يوقع الهجوم أي أضرار بشرية في الجانب الإسرائيلي الذي أعلن أنه رد على مكان إطلاق الصواريخ.
أي أن سلوك الأذرع الإيرانية في سوريا أيضًا كان تكرارًا لما حدث في لبنان فتم الإيعاز لقوى فلسطينية لشن هجوم لتصبح هي في المواجهة بدلًا من الميليشيات الإيرانية.
ورغم ذلك فإن إسرائيل شنت هجمات عديدة لتقييد حركة الميليشيات الإيرانية في سوريا فوقعت هجمات متكررة على مطاري حلب ودمشق وتم إخراجهما من الخدمة مرارًا، كلما جرى إصلاح مهابطهما كلما تم تدميرهما من جديد.
وغير حزب الله مواقعه في جنوب سوريا للتمويه وتفادي الاستهداف الجوي الإسرائيلي، ورفع حالة الاستنفار والتأهب، وأطلق مقاتلون موالون له صاروخين باتجاه الجولان السوري المحتل في 24 أكتوبر، فرد الإسرائيليون في الليل بقصف مواقع للجيش السوري مما أدى لمقتل 11 عسكرياً بينهم أربعة ضباط.
وحافظت الجبهة السورية على هذه الوتيرة؛ فبعد أن كانت إسرائيل تضرب القوات الإيرانية في سوريا مئات المرات دون رد على مدار سنوات، بدأت هذه الميليشيات في توجيه ضربات محدودة خلال الأحداث الحالية؛ فكل عدة أيام تنطلق طائرة مسيرة أو صاروخ أو قذيفة على الأراضي المحتلة دون أن يتم الإعلان عن سقوط أي قتلى جراء تلك الضربات المتفرقة، وفي المقابل تستهدف إسرائيل القوات الموالية لإيران في سوريا وتوقع قتلى وجرحى.
وبالنسبة للقواعد العسكرية الأمريكية في الشرق السوري فقد أعلنت ميليشيات مقربة من طهران استهداف تلك القواعد على خلفية دعم واشنطن لتل أبيب، وشنت هجومين على قاعدة التنف الأمريكية شرق سوريا في 18 أكتوبر و23 أكتوبر، وعصر يوم 26 أكتوبر استهدف قصف صاروخي القاعدة العسكرية الأمريكية في حقل الجبسة النفطي بمدينة الشدادي جنوبي الحسكة، وفي نفس اليوم وقع انفجار في حقل غاز كونيكو في ريف دير الزور الشرقي، ولم توقع تلك الهجمات قتيلا واحدا.
وفي العراق فانطلقت الميليشيات التابعة لإيران في شن 12 هجومًا رمزيًا على القواعد الأمريكية هناك دون أن يوقع أي هجوم قتيلًا واحدًا أيضًا لكن كان الهدف تسجيل نقاط والظهور بمظهر الذي يستهدف القواعد الأمريكية مع الحيلولة دون تطور المشهد وتوسع نطاق المواجهة داخل العراق.
لكن في 26 أكتوبر أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية تنفيذ ضربات في شرق سوريا ضد موقعين تابعين للحرس الثوري الإيراني وحلفائه ردا على سلسلة من الهجمات في العراق وسوريا التي بدأت في 17 أكتوبر، ورغم ذلك استمرت الهجمات الرمزية ضد تلك القواعد، وصدر بيان مجهول مما أُطلق عليه “المقاومة الإسلامية في العراق” مطلع نوفمبر يعلن إطلاق “حرب تحرير العراق” من الوجود العسكري الأمريكي، وأطلقوا اسم “أقصى 1” على الصواريخ في هجماتهم.
وصار اسم “المقاومة” الإسلامية يُستخدم كلافتة للعمليات التي تنفّذها الميليشيات التابعة لإيران في العراق ضد القواعد الأمريكية، نظرًا لأن ميليشيات الحشد الشعبي أصبحت قوات رسمية تتبع شكليًا لحكومة بغداد.
وعلى حدود الأردن تجمع مسلحو الحشد الشعبي العراقي وهددوا باقتحام الحدود بحجة الذهاب لتحرير فلسطين، وساهموا في تعطيل حركة النقل بين البلدين، رغم أن الحدود السورية مفتوحة أمامهم ويعبرها مقاتلي الحشد بشكل مستمر بدون رقابة.
الإتجار بمأساة أهل غزة
رغم تكرار الاتهامات الموجهة لإيران بأنها أوعزت لحماس بشن هجوم طوفان الأقصى مع وعد بالتدخل لصالحها عسكريًا فإنه لا يمكن تأكيد وجود مثل تلك التفاهمات فمكانها الغرف المغلقة والاجتماعات السرية وليس وسائل الإعلام.
لكن خطاب محمد الضيف، القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري، أكد بوضوح منذ بداية العملية العسكرية رهانه القوي على الدعم الإيراني قائلا “أدعو إخوتنا في المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين”، لكن أحدًا ممن دعاهم لم يلتحم مع حركته فعليًا.
كما أن الأذرع الإيرانية أكدت وشددت مرارًا وتكرارًا علنًا على مسألة وحدة الساحات ضد إسرائيل وتوحيد كل جبهات “محور المقاومة” في المعركة، لكن السؤال هنا هو ما مدى مصداقية تلك الشعارات لدى قادة حماس؟ وهل بالفعل أخذوا تعهدات إيران وأذرعها على محمل الجد ووضعوها في الحسبان قبل بدء المعركة وتفاجأوا بعد الهجوم أنهم وحدهم؟
لا خلاف في أن إيران قدمت مساعدات مالية وفنية لحماس قبل عملية طوفان الأقصى، فهذا لا سبيل لإنكاره، لكن الحديث عن مدى مصداقية التحالف بين حماس وإيران، أو بعبارة أخرى: هل هو تحالف يتضمن التزامات مشتركة من الطرفين بالتأييد والمناصرة في المعارك على اعتبار أن الهجوم على أحد الطرفين هجوم على الآخر، أم أن الدعم الإيراني تمثل في دفع الأسلحة لحماس لتقاتل إسرائيل كنوع من الانتقام الإيراني من تل أبيب على قصفها المستمر لميليشياتها في سوريا؟
السيناريو الثاني هو ما يقوله الواقع وهو الأقرب للحقيقة، فبدون إراقة قطرة دم إيرانية واحدة استطاعت طهران الانتقام من تل أبيب على ضرباتها في سوريا، وتنصلت رسميًا من مسؤولية الهجوم الفلسطيني وتركت حماس تواجه مصيرها.
وذلك ضمن استراتيجية إيرانية في السياسة الخارجية تحمل اسم “أم القرى” شرحها مساعد وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد لاريجاني، ملخص فكرتها تجييش طاقات الأمة الإسلامية للدفاع عن إيران لأن انتصارها انتصار للإسلام وهزيمتها هزيمة له وهي قائدة كل دول العالم الإسلامي.
وبالتالي فإن الميليشيات الشيعية في اليمن وسوريا والعراق ولبنان مهمتها نقل أي صدام بين إيران وخصومها إلى أراضي تلك الدول حمايةً للأراضي الإيرانية، لأن هذا هو الهدف بينما الأذرع الخارجية المسلحة مجرد وسيلة لتحقيق هذا الهدف.
لذا لم تخض إيران مواجهة مباشرة مع إسرائيل بسبب استهداف ميليشياتها في سوريا مثلا رغم تكرار تلك الاستهدافات الإسرائيلية على مدار السنوات الماضية، وبدلا من ذلك لجأت طهران لتسليح وتدريب المقاومة الفلسطينية لتتولى عبء الهجوم المباشر على إسرائيل، مع إعلان التبرؤ الرسمي من الوقوف وراء هذه الهجمات.
ورغم التباين المذهبي بين إيران والفصائل الفلسطينية، استغل الولي الفقيه عجز هذه الحركات عن الحصول على أي دعم من جهة أخرى وإصرارها على مواصلة الكفاح المسلح ضد إسرائيل، وقدم لها الدعم لشن هجمات على درجة هائلة من المخاطرة بدلا من المخاطرة بأذرعه في سوريا ولبنان التي تلقت بعض الردود الانتقامية المحدودة بينما ظلت الأراضي الإيرانية بمنأى عن كل تلك المعارك، وأعلنت الولايات المتحدة رسميًا عدم ثبوت تورط إيران في الحرب.
تجارة الشعارات
قال الكاتب الصحفي والحقوقي اليمني، همدان العليي، إنه منذ ظهر شعار فلسطين في إيران منذ وصول الملالي للحكم كان الغرض منه المتاجرة وليس القضية الفلسطينية، والأدلة على ذلك كثيرة ونحن نراه اليوم؛ فبينما يحتاج أبناء فلسطين للإسناد والمساعدة يكتفي ما يسمى بمحور المقاومة بالصراخ والكلام والحديث ورفع الشعارات، وليس هذا فقط وإنما يستغل معاناة الناس في فلسطين كالعادة للتحريض ضد الأنظمة السياسية بالدول العربية والكيانات السنية وهذا أمر واضح وجلي لكل متابع.
وأضاف في تصريحاته ل”أخبار الآن” أن هذا الشعار يُستخدم لتحقيق أهداف مختلفة على رأسها إسقاط الدول لتكون تحت هيمنة منظومة الخميني في المنطقة وتغيير معتقدات الناس ومواجهة الكثافة السكانية السنية في المنطقة وتحويلها إلى شيعية.
وأردف العليي أنه في سبيل هذا المشروع وبسبب هذه الشعارات الخالية من المضمون والفعل حدثت المعاناة التي رأيناها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان بسبب هذه الشعارات التي ترفع بهدف استغلالها سياسيا وطائفيا وعرقيا، فنرى ملايين الضحايا من المسلمين سواء من القتلى أو الجرحى أو المهجرين أو الجياع.
وتابع أنه في اليمن على سبيل المثال هناك نصف مليون يمني سقطوا قتلى بسبب هذه الحرب التي أشعلتها ميليشيات الحوثي عقب سيطرتها على صنعاء ومن قبل ذلك من 2004، وبسبب ذلك أصبحت اليمن بحسب تقديرات أممية صاحبة الأزمة الأعلى في العالم في السنوات الماضية.
وأضاف: اليوم يحدث ما يحدث في فلسطين بينما تقول هذه العصابة الخمينية في أكثر من منطقة عربية أنها أنشئت من أجل تحرير ومساعدة فلسطين وأهلها لكنهم يقفون متفرجين دون القيام بأي شيء، وذلك لأنه منذ البداية كان هدف الشعارات التي رفعوها تحقيق أهداف سياسية وطائفية في بلدانهم.
ويشير الباحث في الشأن الإيراني، محمد عبادي، إلى أن النظام الإيراني يتبع استراتيجية طويلة النفس منذ تأسيسه عام 1979 مفادها تصدير المشاكل والأزمات إلى الخارج واستخدام مفاتيح تأثيره على تلك الأزمات كأوراق قوة لفرض نفوذه الإقليمي.
وأضاف في تصريحات خاصة لـ”أخبار الآن” أن الاعتماد على الأقليات الشيعية في الدول العربية السنية، وما لاحظناه مؤخرا من تزايد تركيزه على وضع الفصائل السنية في صدارة المواجهات يأتي بهدف وضع خط دفاعي أمام ميليشياته الشيعية التي بدورها تعمل هي ذاتها كخط دفاعي عن الدولة الإيرانية ونظام ولاية الفقيه.
وأشار إلى أن طهران تعمل على استثمار ما يحصل في المنطقة بصفة عامة واستخدامه كأوراق قوة في التفاوض مع الغرب مثلا فيما يتعلق بالملف النووي وغيره، وتعزيز قوة الردع لديها لتعزيز مصداقية تهديداتها حين تلوح بقدرتها على إشعال المنطقة وتهديد مصالح خصومها.
تجدر الإشارة إلى أن طهران استطاعت حتى الآن الحفاظ ببراعة على الحسابات المعقدة التي تتيح لها إدخال أربع دول إلى مواجهات عسكرية دون السماح بانزلاق الأمور إلى حالة الحرب، ولاحظ البعض أن الحرس الثوري اتبع خطة في غاية المكر؛ فعمل على تبريد الجبهات على حدود إسرائيل في لبنان وجنوب سوريا بينما دفع ميليشياته في العراق واليمن البعيدتين جغرافياً إلى التصعيد، سواء عبر تكثيف الهجمات على القواعد الأمريكية في حالة العراق، أو إطلاق الصواريخ والمسيرات في حالة اليمن.
الخلاصة
حزب الله يخوض مواجهة منضبطة بقواعد مرساة منذ 17 عامًا، أو كما يقال عملية إشغال لا إشعال، أما ميليشيات العراق وسوريا واليمن فلم يتم الإعلان عن إيقاع هجماتها قتيلا واحدًا حتى الآن، أما إيران نفسها فهي خارج نطاق المواجهة أصلا ولا يُحتمل أن تتدخل كما أعلنت بنفسها والتزمت بذلك، فهي كدولة لا تعتبر نفسها معنية بالتدخل طالما لم تمس الحرب حدود ترابها.