هكذا استغلت إيران حرب غزة لتهديد طرق التجارة العالمية
في أحدث العمليات البحرية لميليشيات الحوثي الموالية لطهران، أعلن يحيى سريع المتحدث باسم الميليشيا، اليوم الأحد، عن “استهدافٍ لسفينتينِ إسرائيليتينِ في باب المندب“، مشيرا إلى أن السفينتين هما “يونِتي إكسبلورر” و”نمبر ناين”، حيثُ تم ضرب الأولى بصاروخِ بحري والثانيةِ بطائرةٍ مسيرة.
وأفادت تقارير أن “نمبر ناين” كانت ترفع علم بريطانيا وطاقمها بريطاني، وأن سفن حربية أمريكية وإسرائيلية تصدت للهجوم، وأعلنت شركة “أمبري” للأمن البحري أن ناقلة بضائع بريطانية أخرى ترفع علم البهاما تعرضت لهجوم صاروخي قرب الساحل الغربي لليمن، فيما قبع الطاقم في داخل السفينة.
وتأتي هذه الهجمات ضمن سلسلة عمليات للحوثيين في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن في إطار محاولة إظهار المحور الإيراني تضامنه مع الحرب الدائرة في قطاع غزة.
تهديد باب المندب
من خلال سلسلتي “متلازمة طهران” و”جهاد طروادة” تابعت “أخبار الآن” باستفاضة التفاصيل الدقيقة لاختراق الحرس الثوري الإيراني لتنظيم القاعدة، عن طريق سيف العدل، القائد الفعلي للتنظيم، المقيم في طهران مع صهره مصطفى حامد، مؤرخ القاعدة وصاحب موقع مافا الإيراني.
وركزت طهران على اختراق الفرع اليمني للتنظيم وتوظيف فرعه الصومالي للمساعدة في تنفيذ المخطط الإيراني لتهديد الملاحة الدولية المارة بمضيق باب المندب الفاصل بين اليمن والقرن الأفريقي، ولا يرتبط هذا المخطط بحرب غزة بل يعود إلى فترة سابقة كما سيلي بيانه.
مؤرخ القاعدة يشرح المخطط
في مقال “جهاد البحار .. وتطوير الحرب الجهادية” في مايو 2022، يشرح صاحب موقع مافا الإيراني مخطط السيطرة على باب المندب فيقول: “وجود مقاومة بحرية إسلامية جهادية مشتركة من اليمنيين والصوماليين، تعتبر مسألة هامة جدا لفك جزء من الحصار البحرى الصليبى اليهودى، المضروب حول جزيرة العرب”.
ويشير هنا إلى التعاون بين تنظيم القاعدة وإيران، أو بالأحرى بين فرعي القاعدة في اليمن والصومال وبين الحوثيين في اليمن لخدمة هدف طهران المتمثل في السيطرة على المضيق الذي تمر به أكثر من عُشر التجارة العالمية سنويا.
فالاستراتيجية الإيرانية تعتمد على امتلاك أوراق قوة واستخدامها للمساومة خلال المفاوضات بينها وبين واشنطن مثلا حول الملف النووي؛ أي امتلاك القدرة على إشعال أزمات، والضغط على المفاوضين الغربيين بهذه الورقة في مواجهة ضغوطهم على إيران للرضوخ لشروطهم.
وقد سبق وأعلن مساعد وزير خارجية إيران، عباس عراقجي، عام 2018 رفض مطالب واشنطن بالربط بين الاتفاق النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية، بينما أبدى استعداد بلاده للتفاوض على ملف اليمن، أي أن طهران تستخدم نفوذها في اليمن لتحسين موقفها التفاوضي وتجنب التنازل في ملفاتها الأكثر أهمية.
كما أن السيطرة على أمن الممر المائي الفاصل بين آسيا وأفريقيا يمنح طهران نفوذا إقليميًا هائلا؛ فمعظم وارداتها تأتي عبر المحيط الهندى وخليج عدن، وبحر العرب، ويعد أمن هذه المسارات البحرية ضروريا لإيران.
ويمكن رؤية الابتزاز الإيراني للعالم بأمن الممرات المائية كأوضح ما يكون في مضيق هرمز؛ حيث هددت إيران مرارًا بغلقه في وجه الملاحة الدولية وحرمان العالم من أهم شريان نفطي إن منعتها العقوبات الأمريكية من بيع نفطها، ورغم أنها لم تغلقه في النهاية لكنها استمرت في الهجوم على السفن المدنية وخطفها بذرائع شتى؛ مرة بذريعة تلويث البيئة ومرة بذريعة انتهاك الحدود الإقليمية ومرة بتهمة الاصطدام بقارب صغير وغير ذلك من الذرائع، كما يفعل الحوثي اليوم في مضيق باب المندب بذريعة نصرة غزة.
التهديد الحوثي
رغم إعلان الحوثي عدم قدرته على تلبية مناشدة رئيس الجناح العسكري لحماس له بالالتحام بالمعركة ودعم الحركة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، إلا أنه عاد ووجدها فرصة ليفرض نفوذه على البحار حول اليمن ويهدد الملاحة المارة بمضيق باب المندب، وبدأ في استهداف سفن لا تحمل إسرائيليين بل تعود ملكيتها لهم فقط، ليظهر وكأنه يناصر غزة دون الدخول في مواجهة حقيقية مع إسرائيل.
وقد نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية في تقرير لها، الأحد، أنّ تل أبيب لا ترى في هجمات ميليشيات الحوثي خطرا حقيقياً على سفنها التجارية المارة بمضيق باب المندب.
وفي 25 نوفمبر، انفجرت طائرة مسيرة في سفينة تابعة لشركة زودياك الإسرائيلية وسببت بعض الأضرار بها دون إصابة أي من أفرادها بأذى.
وبعد فشل محاولة الاستيلاء على سفينة “سنترال بارك” المملوكة لملياردير إسرائيلي، الأحد 26 نوفمبر، من قِبل مهاجميها الصوماليين، أطلقت الميليشيات الحوثية صواريخ على بعد 18 كيلو مترا من سفينة حربية أمريكية.
وفي هذا الهجوم تحديدًا ظهر التنسيق الذي تحدث عنه صاحب موقع مافا السياسي بين الميليشيات اليمنية والصومال فيما أسماه “جهاد البحار“.
استغلال حرب غزة
لأول وهلة أدت عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حماس في السابع من أكتوبر لإرباك حسابات طهران، التي تهدد منذ عشرات السنين بإلقاء إسرائيل في البحر، لكنها قررت عدم التدخل لنصرة غزة حين بدأ القتال بالفعل واكتفت بالتضامن السياسي والإعلامي.
واكتفت أذرعها بتدخلات رمزية لا تؤثر على المعركة في غزة، مثل مشاغلة إسرائيل من لبنان دون فتح حرب معها، واستهداف القواعد الأمريكية في المنطقة دون إيقاع أي قتيل منعًا للتصعيد، الأمر الذي هز مصداقية الشعارات الإيرانية عن فلسطين.
رئيس المنتدى الخليجي للأمن والسلام @Fahd_Alshelaimi لـ #ستديو_أخبار_الآن مع @sjd_aljubori : "محور المقاومة" كله فشل وانكشف#غزة #حماس #إيران #حرب_غزة pic.twitter.com/chLTbWcdmd
— Akhbar Al Aan أخبار الآن (@akhbar) December 5, 2023
لكن قادة إيران رأوا في هذه الأزمة فرصة لتمرير مخطط قديم استغلالا لهذه الظروف، وهو تهديد الملاحة الدولية في مضيق باب المندب، الممر المائي الذي لا يقل أهمية عن قناة السويس، بل إن القناة تكاد تفقد معظم أهميتها في حال غلق باب المندب، البوابة الجنوبية للبحر الأحمر.
وغلفت ميليشيات الحوثي تحركاتها في البحر الأحمر وخليج عدن بغلاف كثيف من الدعاية والتضامن الإعلامي الهائل مع الفلسطينيين في محاولة للظهور وكأنها مناصرة لغزة، وتعجز الحكومات عن إدانتها واتخاذ أي موقف ضدها كي لا تظهر وكأنها في صف إسرائيل، ليترسخ بعد حرب غزة أمر واقع ملخصه استمرار التهديد الحوثي للملاحة في باب المندب والبحر الأحمر، بحيث لو صدرت مجرد تهديدات من الحوثي لاحقا لأي جهة سيكون لها مصداقية بسبب العمليات التي نفذها بالفعل هذه الأيام.
وهذا المعنى عبر عنه مصطفى حامد بوضوح في مقاله “جهاد البحار .. وتطوير الحرب الجهادية” العام الماضي حين تحدث عن قوة الردع البحري لحزب الله اللبناني قائلا “كل ذلك التأثير الضخم يرجع فى الأساس إلى الصاروخ الوحيد الذى أطلقوه من شاطئ بيروت على الطراد الإسرائيلي قبل أكثر من 20 عاماً”، ويطالب الحوثي بتعلم الدرس وتكرار التجربة، ويقول “يحتاج مجاهدو اليمن إلى قدرة مماثلة تمكنهم من فك الحصار البحرى عن موانئ اليمن خاصة ميناء الحُدَيِّدة”.
جهاد طروادة البحري
تشبه تحركات الحوثي الأخيرة عمليات اختطاف الحرس الثوري الإيراني للسفن الأجنبية في مضيق هرمز؛ ولا غرابةً في ذلك؛ لأن الميليشيا اليمنية فرع من الفروع التابعة لفيلق القدس، الذراع الخارجي للحرس الثوري الإيراني، وبالتالي فإن رأس الأخطبوط الذي يحرك الجميع واحدة.
وبغض النظر عن طريقة الاختطاف فإن تهديد الملاحة هو أسلوب إيراني بامتياز؛ فخلال الحرب العراقية الإيرانية (1980: 1988) شنت إيران هجمات عديدة على ناقلات النفط الخليجية للضغط عليها لوقف دعمها المالي للعراق.
وعندما أعادت واشنطن فرض العقوبات على إيران بسبب الملف النووي، هدد الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بإغلاق مضيق هرمز ومنع تصدير النفط الخليجي، وتكررت التهديدات الرسمية كلما اقترب موعد تصفير الصادرات النفطية لتهديد الغرب بحرمانه من نفط الخليج كله كرد على العقوبات.
وفي يوليو 2019 اختطف الحرس الثوري ناقلة النفط البريطانية “ستينا إمبيرو” ليقايضها بناقلة النفط الإيرانية “جريس 1” التي أوقفتها بريطانيا لخرقها قوانين عقوبات أوروبية، وبالفعل تمت المقايضة وأفرج الطرفان عن الناقلتين معًا.
وهكذا ظل تهديد الملاحة طريقة إيران المفضلة لحل مشاكلها مع الغرب، فظل الإيرانيون يلعبون على مخاوف الغرب من قطع شرايين الملاحة الدولية وتهديد خطوط إمداد الطاقة.
ومع تزايد عمليات الحوثي البحرية مؤخرا؛ يمكن قراءة ذلك في سياق اتساع قدرات إيران على تهديد الملاحة لتشمل مساحة هائلة تضم البحر الأحمر وخليج عدن وخليج عمان والخليج العربي وغرب بحر العرب، وبالتالي إن رسّخ الحوثي موقعه كشرطي باب المندب ستهدد إيران بعد ذلك ليس بغلق مضيق هرمز فقط بل بوقف الملاحة في باب المندب أيضًا.
جبهة الصومال
مع اختراق إيران لتنظيم القاعدة من رأسه ووجود سيف العدل الزعيم الفعلي للتنظيم في طهران، استطاعت امتلاك القدرة على التأثير على جماعة الشباب، الفرع الصومالي للقاعدة، واستخدمته في الرد على هجمات الغرب عليها دون أن تتورط بنفسها.
لهذا السبب تعطي جماعة الشباب وتنظيم القاعدة أهمية قصوى لليمن والصومال
فمثلا عندما اغتالت واشنطن الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، في الثالث من يناير 2020، أبلغت طهران واشنطن أنها -لحفظ ماء وجهها- ستقصف قاعدتين أمريكيتين لكن بدون إصابة أي جندي فيهما، بل سيتم تصويب الصواريخ لتفادي أذيتهم، وبالفعل تم ذلك كما كشف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب.
لكن الرد جاء من جماعة الشباب الصومالية في الخامس من يناير بقصف قاعدة “سيمبا” التي تستضيف القوات الأمريكية في خليج ماندا بكينيا جنوب شرق كينيا، وأوقع الهجوم ثلاثة قتلى وجريحين على الأقل، وأعلنت جماعة الشباب أن الهجوم أتى تحت شعار “القدس لن تهوَّد أبدا”، لكن الأمريكيين قرأوا الرسالة جيدًا.
الخلاصة
التهديد الحوثي للسفن الإسرائيلية المارة بالقرب من السواحل اليمنية هدفه فرض النفوذ البحري طبقًا لاستراتيجية إقليمية إيرانية ليست جديدة لكن التحركات الأخيرة جاءت استغلالًا للظرف المواتي في ظل اشتعال الأوضاع في غزة.
أي أن الحوثيين ضربوا عصفورين بحجر واحد؛ فأظهروا نصرة غزة ورفعوا جزءًا من الملامة عن “محور المقاومة” رغم أن كل تحركاتهم لم تفد غزة بشيء ولم تؤثر على الوضع الميداني ولا حتى السياسي.
والفائدة الثانية، وهي الأهم، أنهم استطاعوا تنفيذ عمليات ضد الملاحة الدولية قرب مضيق باب المندب وبالتالي تسجيل حضورهم كقوة عسكرية يجب أخذها بالحسبان كطرف قادر على تعطيل جزء مهم من التجارة العالمية طبقًا للاستراتيجية الإيرانية.