أمام حالة التخبط والانقسام التي تعانيها “تحرير الشام”.. هل يصمد الجولاني أم يواجه مصيره؟
اعتدى عناصر تابعون لـ”هيئة تحرير الشام” اليوم على متظاهرين في مناطق متفرقة من إدلب، خلال مطالبهم بإسقاط قائد الفصيل، “أبو محمد الجولاني”، وأقاموا حواجز عسكرية لمنع الوصول إلى إدلب.
وطالب المتظاهرون وفق وسائل إعلام سورية، بإسقاط “الجولاني”، ورفض سياسة احتكار القرار، وتنفيذ إصلاحات مُجدية لا شكلية، والإفراج عن جميع المعتقلين، وإبعاد العسكر عن إدارة الشؤون المدنية، وعدم تهديد المحتجين بـ”السلاح والفوضى”.
https://twitter.com/ShaamNetwork/status/1791449968210776238
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، شهدت مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” في شمال غربي سوريا اليوم العديد من الاعتداءات القمعية من قبل عناصر “الهيئة” وجهازها الأمني بحق المتظاهرين الذين خرجوا في عدد من المدن والبلدات مطالبين بإسقاط “أبو محمد الجولاني”.
وأشار المرصد إلى أن عربات مصفحة تابعة لعناصر “الهيئة” هاجمت المتظاهرين في بلدة بنش في ريف إدلب محاولة دهسهم وتفريق المظاهرة التي خرجت في البلدة، بينما اعتدى عناصر جهاز الأمن العام على المتظاهرين في مدينة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي وأطلقوا الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين والاعتداء عليهم بالضرب باستخدام العصي والهروات.
وانطلقت اليوم مظاهرات حاشدة في عدد من المدن والبلدات في مناطق ريفي إدلب وحلب وعدد من المخيمات مطالبين بإسقاط “الجولاني” ورافعين لافتات تندد بالقبضة الأمنية ضد المدنيين من قبل” هيئة تحرير الشام”، فيما شهدت مناطق ريفي إدلب وحلب حالة استياء شديد وغضب شعبي نتيجة الطريقة التي وصفت بالتشبيحية التي تتصدى بها هيئة تحرير الشام للمظاهرات الشعبية.
Big anti-#HTS protests in #Idlib today, calling for the removal of #HTS & Salvation Govt rule in NW #Syria.
Several reports of limited violence as #HTS seeks to disperse & intimidate protesters to back down (not exactly a winning strategy).pic.twitter.com/kZvLXvs1GH
— Charles Lister (@Charles_Lister) May 17, 2024
وتتزامن هذه التطورات الخطيرة، بينما تمر هيئة تحرير الشام التي تسيطر على مناطق واسعة في شمال غرب سوريا، وتتوزع بين محافظة إدلب ومناطق في ريف محافظتي اللاذقية وحلب، بأزمة متعددة الطبقات منذ صيف العام الماضي، نتيجة صراعات الأجنحة داخل الهيئة، واشتعال انتفاضة شعبية في مناطق سيطرتها، قابلته قيادة الهيئة بسياسات مرتبكة وتخبُّط في إدارة الأزمات، انعكس بشكل كبير على فعاليتها ومشاريعها في إدلب ومناطق سيطرة الفصائل المعارضة، الأمر الذي يُنذر بحصول تطورات مهمة في منطقة تقع في قلب الاهتمام الإقليمي والدولي.
هيئة تحرير الشام أمام منعطف خطير
هذه التطورات الأخيرة سلط عليها الضوء بشكل أوسع الباحث في معهد الشرق الأوسط للدراسات عروة عجوب من خلال مقال تحليلي قرأ فيه المنعطف الخطير الذي تمر به الهيئة، بدءا من الاحتجاجات واسعة النطاق الرافضة لسياسات الجماعة، والدعوة إلى إقالة زعيمها أبو محمد الجولاني، وتحسين الظروف المعيشية، مرورا بمجيئها في توقيت صعب بالنسبة لهيئة تحرير الشام، التي واجهت تحديات أخرى مؤخرًا أيضًا، بما في ذلك اغتيال أحد أبرز شخصياتها، أبو ماريا القحطاني، في 5 أبريل/نيسان، والذي أطلق سراحه من سجن تديره هيئة تحرير الشام، بالإضافة إلى انشقاق شخصية أخرى رفيعة المستوى، في ديسمبر 2023، وهو أبو أحمد زكور، الذي كان مسؤولاً عن علاقات هيئة تحرير الشام مع الجيش الوطني السوري.
التحدي الهائل الذي يهدد وحدة هيئة تحرير الشام وتماسكها، بينما تتنامى الاضطرابات العامة واسعة النطاق والانقسامات الداخلية العميقة بين الشخصيات الأكثر نفوذاً داخل الجماعة، كان محور التحليل الذي تساءل حول مستقبل هذا الفصيل، وما إذا فشل في تلبية المطالب العامة وسد الفجوة بين الفصائل المتنافسة، والتي قد يترتب عليه من مستقبل سيكون أكثر غموضا من أي وقت مضى في شمال غرب سوريا.
يرى الباحث عروة عجوب -وهو طالب دكتوراة في جامعة مالمو في السويد يبحث في الخطاب الجهادي السني ودوره في حشد الدعم وإضفاء الشرعية على العنف بين الجماعات- يرى أن الاحتجاجات الأخيرة تفاقمت بسبب الحملة طويلة الأمد التي تشنها هيئة تحرير الشام لاعتقال أصوات المعارضة، بما في ذلك أصوات الجماعة الإسلامية غير المسلحة، حزب التحرير، الذي يحظى بشعبية في شمال غرب سوريا، وتتهم هيئة تحرير الشام الهيئة بإثارة الرأي العام ضدها.
يضيف: من العوامل الحاسمة الأخرى للاضطرابات هو خيبة أمل المتظاهرين من تعامل هيئة تحرير الشام مع ما يسمى بـ “قضية العملاء”، وعلى مدى الأشهر الستة الماضية، اعتقلت هيئة تحرير الشام أكثر من 400 من أعضائها ومسؤوليها، واتهمتهم بالتعاون مع كيانات خارجية مثل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وروسيا، والنظام السوري، وحزب الله.
ورغم أنه تم إطلاق سراح أغلبهم في نهاية المطاف بعد تبرئتهم من التهم، إلا أن العديد منهم تحدثوا منذ ذلك الحين عن التعذيب الشديد الذي تعرضوا له أثناء احتجازهم.
قضية أبو ماريا القحطاني
من بين الذين أطلق سراحهم ولم يتعرضوا للتعذيب قط أبو ماريا القحطاني، الذي كان له دور محوري في تشكيل تحالفات مع زعماء القبائل في شمال وشمال شرق سوريا. ويُعرف بين أتباعه بلقب ” الخال “، وهو لقب يدل على الاحترام في بلاد الشام، ويمكن القول إنه أحد أكثر الشخصيات نفوذاً في هيئة تحرير الشام بعد زعيمها أبو محمد الجولاني، وقاموا معًا بتأسيس جبهة النصرة، سلف هيئة تحرير الشام، في أواخر عام 2011.
علاوة على ذلك، عمل القحطاني أيضًا على ترسيخ حضور التنظيم وتعزيز صورته كـ”شريك” للمجتمع الدولي في حربه ضد الجماعات الإرهابية. وحتى اعتقاله في آب/أغسطس الماضي، كان القحطاني مسؤولاً عن ملف داعش (المعروف أيضاً بملف الخوارج) داخل هيئة تحرير الشام وأداره بفعالية.
ويثير اغتيال القحطاني في أبريل الماضي تساؤلات حول الجهة التي نفذت الهجوم وهشاشة الوضع الأمني في إدلب. ووفقاً لهيئة تحرير الشام، قام انتحاري من تنظيم داعش بزيارة القحطاني في مجلسه العام (منطقة استقبال للضيوف) وفجر نفسه، لكن معارضي الجماعة والموالين للقحطاني داخل هيئة تحرير الشام سارعوا إلى توجيه أصابع الاتهام إلى قيادة الهيئة، واتهموها بالقضاء على القحطاني والأسرار التي كان بحوزته، ورفضوا رواية هيئة تحرير الشام، وزعموا أنها كانت عبارة عن عبوة ناسفة مخبأة في صندوق يحمل سيفًا وأرسلتها قيادة هيئة تحرير الشام لقتل القحطاني.
على الرغم من أن قيادة هيئة تحرير الشام قد يكون لديها أسباب للرغبة في اختفاء القحطاني، نظراً لشعبيته ونفوذه، فمن المرجح أن يثير مثل هذا الإجراء غضب الموالين له داخل المجموعة – وبالفعل، كما هو متوقع، فقد ظلوا في حالة تأهب منذ مقتله.
كما أن إطلاق سراح القحطاني من السجن وترحيب هيئة تحرير الشام بعودته بشكل شبه رسمي يشير إلى أن قيادة هيئة تحرير الشام لم تكن مهتمة باستهدافه. وقبل أسابيع من مقتله، أشار مصدر مطلع على القحطاني لكاتب المقال إلى أن إطلاق سراح القحطاني كان الخطوة الأولى نحو إعادة اندماجه في الجماعة. ومع ذلك، فإن معارضي القحطاني داخل هيئة تحرير الشام قد يستفيدون من وفاته، سواء كانت قيادة الهيئة على علم بمؤامرة قتله أم لا.
انشقاق أبو أحمد زكور
ومن التحديات الأخرى التي واجهت هيئة تحرير الشام في الآونة الأخيرة وفق التحليل انشقاق أبو أحمد زكور، الذي كان شخصية رئيسية داخل المجموعة، وإن كان يتمتع بنفوذ أقل من القحطاني. وهو معروف بمشاركته الواسعة في مناصب مختلفة منذ الأيام الأولى للجماعة، بما في ذلك دوره كزعيم لجبهة النصرة في حلب.
وكان زكور مسؤولاً أيضاً عن إدارة العلاقات العامة للجماعة، مع التركيز على اختراق فصائل الجيش الوطني السوري لإضعاف صفوفها. وسهلت جذوره القبلية وعلاقاته مع فصائل ريف حلب تقدم هيئة تحرير الشام إلى عفرين دون مقاومة في أكتوبر 2022.
وبعد الفرار إلى مدينة أعزاز التي يسيطر عليها الجيش الوطني السوري، سعت كتائب هيئة تحرير الشام إلى اعتقال زكور وعدد قليل من رفاقه أمام الجيش الوطني السوري والقوات المسلحة، وتدخل الجيش التركي لإنقاذه. وبعد هروبه، وجه زكور عدة اتهامات خطيرة ضد هيئة تحرير الشام وزعيمها، بما في ذلك أن الجولاني كان متواطئاً في تفجير آب/أغسطس 2016 في أطمة على الحدود التركية السورية والذي أدى إلى مقتل العشرات من أعضاء الجيش السوري الحر والمدنيين. ومع ذلك، كما أشار أيمن جواد التميمي ، فقد أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن الهجوم، مما ألقى بظلال من الشك على احتمال تورط هيئة تحرير الشام.
ويقال إن اعتقال القحطاني نتج عن تورطه، إلى جانب زكور، في مؤامرتين انقلابيتين محتملتين ضد قيادة هيئة تحرير الشام بالتعاون مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، الأول كان استهداف اجتماع حضره الجولاني وقيادات أخرى، وغياب كل من القحطاني وزكور، والثاني هو تنظيم عملية اعتقال خلال اجتماع عند معبر باب الهوى، وبعد ذلك يتولى القحطاني قيادة هيئة تحرير الشام.
ورغم أن زكور نفى تورطه في أي مؤامرات انقلابية، إلا أنه أقر بأن الشائعة زادت من شعور الجولاني بعدم الأمان، وكررت مصادر رواية زكور، زاعمة أن مسؤول هيئة تحرير الشام المسؤول عن ملف “العملاء” في جهاز الأمن العام، أبو عبيدة نظمت، هو الذي كان وراء اعتقال القحطاني، حيث سعى إلى تقويض نفوذه ووضع حد له، إلى مسيرته داخل هيئة تحرير الشام.
على أي حال، لا يبدو أن زكور يتمتع بالشعبية والنفوذ اللازمين لقيادة هيئة تحرير الشام في مرحلة ما بعد الجولاني، في حين أن وضع القحطاني كمواطن عراقي يقلل بشكل كبير من احتمالية قيادة مجموعة ذات أغلبية سورية.
وبحسب مبررات “هيئة تحرير الشام” التي نشرتها بعد اعتقاله في آب/أغسطس 2023، فإن القحطاني “أساء التعامل مع اتصالاته، وهي زلة خطيرة نظراً لحساسية دوره”، وبالتالي، تم إعفاؤه من مهامه حتى يتم حل المشكلة بشكل شامل وشفاف”.
صياغة بيان هيئة تحرير الشام تمت بعناية بحيث لم تتهم القحطاني صراحة بالتعاون مع التحالف الدولي، ويبدو أن قيادة هيئة تحرير الشام تدرك أن مثل هذه الاتهامات من شأنها أن تضر بصورة الجماعة وتخلق الانطباع بأنها مخترقة على أعلى مستوياتها. كما أنه من غير المنطقي الاعتقاد بأن تواصل القحطاني مع أي جهة أجنبية تم دون علم قيادة هيئة تحرير الشام، مما يعني تورط الجولاني شخصياً، وبعد إطلاق سراحه، برأت هيئة تحرير الشام القحطاني ووعدت بالتحقيق في القضية برمتها.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتقد بشكل شائع في الأوساط الجهادية أن القحطاني تعاون شخصيًا مع التحالف الدولي لاستهداف كبار أعضاء القاعدة في سوريا، وبالتالي المساعدة في القضاء على أعداء هيئة تحرير الشام.
وفي حين أن هذا الادعاء لم يتم التحقق منه بعد، فإن تعاون هيئة تحرير الشام مع التحالف الدولي لمحاربة داعش والقاعدة في سوريا هو سر مكشوف.
وعلى الرغم من تصنيف الولايات المتحدة لهيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية وعرض مكافأة قدرها 10 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى القبض على الجولاني، إلا أنها امتنعت حتى الآن عن مهاجمة هيئة تحرير الشام أو زعيمها. وقد تُعزى قدرة الجولاني على حضور التجمعات العامة والتحرك بحرية، حتى تحت مراقبة طائرات التحالف الدولي بدون طيار، جزئيًا إلى إدارة هيئة تحرير الشام بفعالية لملف داعش.
من الجهادية إلى الزبائنية
يرى الباحث في تحليله المنشور بمعهد الشرق الأوسط للدراسات، أنه إذا كان التخطيط لانقلاب ضد قيادة هيئة تحرير الشام أمراً غير محتمل، ولا يبدو أن تعاون هيئة تحرير الشام مع التحالف الدولي يشكل عاملاً معقداً، فإن هذا يثير سؤالين رئيسيين: لماذا طردت هيئة تحرير الشام شخصيتين رئيسيتين كان لهما دور فعال في هيمنتها العسكرية على شمال غرب سوريا؟ وهل مقتل القحطاني كان عملاً داخلياً؟.
تتطلب الإجابة على هذه الأسئلة فهم تطور هيئة تحرير الشام من جماعة جهادية ذات دور حكم محدود خلال زمن الحرب، عندما واجهت تهديدات وجودية، إلى نظام زبائني في فترة من السلام النسبي. وفي هذه المرحلة الأخيرة، تحكم الجماعة من خلال حكومة الإنقاذ السورية، وأصبح التنافس على النفوذ والمكاسب المالية هو السمة المميزة لدوائر سلطتها.
بعد تغيير علامتها الأخيرة وانفصالها عن تنظيم القاعدة بإيديولوجيتها الجهادية السلفية في أوائل عام 2017، سعت قيادة هيئة تحرير الشام بنشاط إلى السيطرة على المجال الديني في إدلب وإعادة تشكيل التوجهات الأيديولوجية داخل صفوفها.
وفي آذار/مارس 2019، أنشأت هيئة تحرير الشام المجلس الأعلى للفتوى، الذي يديره مستشارو الجولاني، لاحتكار إنتاج الفتاوى – أحكام أو تفسيرات رسمية بشأن نقطة من الشريعة الإسلامية من قبل عالم قانوني مؤهل.
إن حملة التطهير ضد المتشددين، والتي غالباً ما يُنظر إليها على أنها محاولة لتلميع صورة هيئة تحرير الشام على المستوى الدولي وربما إزالتها من قوائم الإرهاب العالمية، دفعت الجماعة إلى تبني نهج أكثر اعتدالاً في الحكم، وتطبيقها لقانون الشريعة، وفي تفاعلاتها مع الدولة. والجهات الفاعلة غير الحكومية في الصراع السوري، مثل تركيا والجيش الوطني السوري.
ومع ذلك، على الرغم من انخفاض تأثير الأيديولوجية الجهادية السلفية، التي كانت ذات يوم مركزية في البنية الداخلية لهيئة تحرير الشام والديناميكيات داخل الجماعة، فإن هذا التحول لم يؤد إلى إضفاء الطابع المؤسسي الرسمي داخل الجماعة نفسها.
وفي حين تمكنت هيئة تحرير الشام من إنشاء حكومة شبه تكنوقراطية في إدلب في عام 2018، حيث يتم تعيين المسؤولين إلى حد كبير على أساس الجدارة وبموافقة قيادة هيئة تحرير الشام، فإن الجماعة لم تكرر هذا النموذج في هيكلها الهرمي الخاص.
صراع على السلطة
وفي الوقت الحالي، تتوقف معايير تأمين الأدوار القيادية داخل هيئة تحرير الشام في المقام الأول على القرب من الجولاني، والذي يعتمد بدوره على رأس المال الاجتماعي للأعضاء، والذي يشمل عوامل مثل الانتماءات القبلية والنفوذ الإقليمي والشعبية بين المقاتلين.
وفي مقابل ولائهم، توفر قيادة هيئة تحرير الشام الموارد، والتي يمكن أن تكون مادية مثل الوظائف والعقود والمال، أو غير مادية مثل الحماية والنفوذ. تكشف نظرة فاحصة على البنية الداخلية لهيئة تحرير الشام أن المحسوبية تؤثر بشكل كبير على ديناميكياتها التنظيمية. ويتجلى هذا بشكل خاص في التيارات الثلاثة الرئيسية داخل هيئة تحرير الشام. ويلعب كل من هذه التيارات، رغم اختلاف درجة تأثيرها، دوراً متميزاً في تعزيز قيادة هيئة تحرير الشام، وتوفير مستويات مختلفة من الدعم والشرعية.
في السطور التالية نستعرض بشئ من التفصيل التيارات الثلاثة الرئيسية داخل هيئة تحرير الشام:
تيار شرق حلب
تيار شرق حلب: ويتألف من كتلتين متقاربتين هما الكتلة الشرقية وكتلة حلب
يتألف تيار شرق حلب داخل هيئة تحرير الشام من كتلتين متقاربتين: الكتلة الشرقية وكتلة حلب. وتتألف الكتلة الشرقية بشكل أساسي من أعضاء من المناطق العشائرية الشرقية في سوريا موالين للقحطاني. وكان تأثيره واضحاً عندما احتفل المئات من أعضاء ومسؤولي هيئة تحرير الشام علناً بإطلاق سراحه وزاروه لإظهار دعمهم.
ومن الشخصيات البارزة في هذه الكتلة عضو مجلس شورى هيئة تحرير الشام الدكتور مظهر لويز، الذي لعب، وفقاً لمصدر مطلع، دوراً رئيسياً في تأمين إطلاق سراح القحطاني من خلال التوسط مع الجولاني.
وينتمي أيضاً إلى هذه الكتلة المسؤول الأمني في محافظة إدلب، أبو محجن الحسكاوي، وأبو محمد شهيل ، الذي اعتقل عقب اعتقال القحطاني في آب/أغسطس الماضي، وكذلك زيد العطار رئيس دائرة الشؤون السياسية. والعطار، المعروف باسم مسؤول العلاقات الخارجية في هيئة تحرير الشام، مقرب من الجولاني ويمارس نفوذاً كبيراً على حكومة الإنقاذ السورية.
وكان العطار مع القحطاني عندما اغتيل وأصيب أيضا في الهجوم. أما الجزء الثاني من تيار شرق حلب، أي كتلة حلب، فيضم مقاتلين من عشائر ريف حلب الموالية لأبو أحمد زكور.
وفي حين يتمتع تيار حلب الشرقية بدرجة كبيرة من النفوذ المتأصل في علاقاته القبلية، إلا أنه مقيد بسبب سيطرته المحدودة على الموارد الاقتصادية.
تيار الشام-إدلب
وعلى العكس من ذلك، فإن تيار الشام-إدلب متأصل بعمق داخل هيئة تحرير الشام ويمارس سيطرة كبيرة على كل من الجماعة والموارد الإقليمية.
وتشكل كتلة بنش جزءا كبيرا من تيار الشام-إدلب، وتتكون بشكل رئيسي من مقاتلين من منطقة إدلب، وخاصة بلدة بنش. ويلعب شخصياتها القيادية، الأخوان قتيبة بدوي، المعروف أيضًا باسم المغيرة بنيش، وحذيفة بدوي، المعروف أيضًا باسم أبو حفص بنيش، أدوارًا محورية.
ويتمتع الأول بنفوذ كبير على معبر باب الهوى مع تركيا، في حين استقال الأخير، الذي كان قائداً للواء “طلحة بن الزبير” – أحد الألوية العسكرية الـ12 التابعة لهيئة تحرير الشام – بعد إطلاق سراح القحطاني.
تجدر الإشارة إلى أن بلدة بنش كانت من بين المناطق الأكثر تأثراً بالتظاهرات التي أججها الإخوة بدوي. وعلاقاتهم بالجولاني تعزز بشكل كبير نفوذهم وتعزز مكانتهم داخل الدائرة الداخلية للتنظيم، علاوة على ذلك، فإن عبد الرحيم عطون، المرجع الشرعي العام وأعلى سلطة دينية داخل هيئة تحرير الشام، يدعم هذا التيار.
ويضم تيار الشام-إدلب أيضاً كتلة الشام التي يتزعمها أبو أحمد حدود، المعروف أيضاً باسم وسام الشرع، النائب الأول للجولاني ومدير الأمن العام، إلى جانب عبيدة نظمت، الذي يُزعم أنه المسؤول عن ذلك، للقبض على القحطاني والموالين له.
ويعرف الحدود باسم “الصندوق الأسود” للجولاني، حيث يقوم بحفظ أسرار التنظيم، خاصة فيما يتعلق بالهدنة مع النظام، ويشرف على أمن الجولاني الشخصي. ويُعتقد أن حدود هو الرجل الذي تولى عملية اعتقال القحطاني واستجوابه الأولي. بالإضافة إلى ذلك، تضم هذه الكتلة أيضًا المسؤول المالي في هيئة تحرير الشام أبو ماجد الشامي، وهو متزوج من شقيقة زوجة الجولاني. وبينما تعاني كتل هذا التيار من خلافات داخلية، إلا أنها تمكنت من التوحد ضد تيار شرق حلب.
تيار الجولاني
وأخيراً، هناك تيار الجولاني، الذي يتألف من شخصيات مؤثرة اقتصادياً حافظت على ولائها لزعيم الجماعة، متجنبة التوترات بين الكتل، ومن بين هؤلاء مصطفى قديد ، الذي يسيطر على جزء كبير من اقتصاد إدلب ويعتبر الممثل الاقتصادي للجولاني في المنطقة.
وقد أسس قديد ، الذي يُشار إليه على أنه ” العقل المدبر ” وراء الاستراتيجية الاقتصادية لهيئة تحرير الشام، شركة لتحويل الأموال وصرف العملات، تسمى “الوسيط”، والتي توسعت فيما بعد إلى بنك الشام. كما يشير البعض إلى أنه كان وراء إنشاء أكبر شركة نفط في إدلب، وهي شركة وتد. ومن المعروف أن شبكته تدير مجموعة من الأنشطة الاقتصادية، يستفيد منها الجولاني ومجموعة مختارة من الشركاء، مع مشاريع تشمل المخابز والخدمات المالية واستيراد البضائع من تركيا.
ومن الشخصيات الأخرى في هذا التيار أبو إبراهيم سلامة الذي يسيطر على قسم البناء من خلال شركته الرقي التي حصلت على عقود تعبيد كل من طرق حلب – باب الهوى التي تربط مدينتي سرمدا والدانا في الجزء الشمالي من المدينة. ادلب.
ومن بين التيار أيضاً، شقيق الجولاني، أبو ماجد ، الذي يرأس المحكمة الابتدائية في سرمدا منذ إنشائها عام 2018، كما شغل منصب المسؤول العام في الهيئة العامة للزكاة، التي رغم أنها كانت تهدف إلى أن تكون هيئة مستقلة. تعمل المؤسسة بشكل أساسي على توجيه الأموال من الضرائب إلى خزائن هيئة تحرير الشام.
إن تحديد عدد المقاتلين داخل كل فصيل وتقييم تأثيرهم يعد مهمة صعبة، لكن ما يمكن قوله هو أن الصراع على السلطة بينهما لعب دورًا مهمًا في تشكيل الديناميكيات الداخلية للجماعة والاضطرابات السياسية الأخيرة.
ويشير إطلاق سراح القحطاني ومئات آخرين من عناصر هيئة تحرير الشام من السجن، بعد تبرئتهم من تهم التخابر مع جهات أجنبية، وما تلا ذلك من إيقاف واستقالة شخصيات بارزة من تيار الشام-إدلب، إلى أنه في حين أن موقف القحطاني التواصل مع الجهات الأجنبية ليس أمراً بعيد المنال، ومن المرجح أن يكون اعتقاله ومحاولات تقليص نفوذه داخل الجماعة نتيجة الاقتتال الداخلي والتصفية السياسية بين هذه التيارات.
من الصعب التأكد مما إذا كان مقتله قد تم بتدبير أو تسهيل من قبل خصومه داخل هيئة تحرير الشام، لكن حقيقة أن أعداءه كانوا يسيطرون على القطاع الأمني في إدلب تثير تساؤلات حول ما إذا كانوا متورطين محتملين أو على الأقل غضوا الطرف عن التدخل الأمني. الخرق الذي حدث.
تبعات مقتل القحطاني وتأثيره على مستقبل الهيئة
بحسب الباحث كاتب المقال، فإن الوقت وحده هو الذي سيكشف الهوية الحقيقية لقاتل القحطاني، ومع ذلك، قد يؤدي مقتله إلى اضطرابات داخلية كبيرة داخل هيئة تحرير الشام.
وإذا فشلت هيئة تحرير الشام في النأي بنفسها بشكل مقنع عن الاغتيال، فهناك احتمال أن ينشق أتباع القحطاني، وخاصة أولئك من المنطقة الشرقية، وهذا من شأنه أن يقوض التماسك الداخلي للجماعة ويهدد وحدتها.
ومع ذلك، فقد أقامت قيادة هيئة تحرير الشام علاقات قوية مع شخصيات قبلية محلية، بما في ذلك أعضاء مجلس الشورى، مثل الدكتور مظهر لويز من المنطقة الشرقية، مما قد يخفف من تأثير مقتل القحطاني.
ومن الممكن أن يكون لغياب القحطاني تداعيات عملياتية أيضًا، وبدونه، قد تكافح هيئة تحرير الشام لمواجهة التهديدات بفعالية، مما قد يؤدي إلى زيادة أنشطة الجماعات المتنافسة في المنطقة، وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية.
كما تم النظر إلى عملية الاغتيال بشكل مختلف من قبل أولئك داخل المجموعة، حيث يعتقد البعض أنها كانت رسالة واضحة من قيادة هيئة تحرير الشام إلى أولئك الذين يتحدون سلطتها، مما أدى إلى شعور بعدم الأمان داخل الدائرة الداخلية للجماعة.
ومن ناحية أخرى، تبدو عودة زكور غير محتملة إلى حد كبير، مما يجبر هيئة تحرير الشام على إعادة النظر في استراتيجيتها تجاه الجيش الوطني السوري، وكانت علاقاته القبلية مع فصائل الجيش الوطني السوري حاسمة في التوسع العسكري غير المعارض لهيئة تحرير الشام في مناطق غصن الزيتون في تشرين الأول/أكتوبر 2022.
كما أن فراره إلى أعزاز، في منطقة درع الفرات، لتجنب الاستيلاء على هيئة تحرير الشام، يسلط الضوء على علاقاته مع الجيش الوطني السوري، منافس هيئة تحرير الشام. وبدون زكور، من المرجح أن تواجه هيئة تحرير الشام تحديات في الحفاظ على استراتيجيتها المزدوجة المتمثلة في التعاون والإكراه مع الجيش الوطني السوري، مما قد يؤدي إلى تصعيد العنف.
الخلاصة
تمثل الأحداث الأخيرة اختبارًا صعبًا لهيئة تحرير الشام، حيث تكشف عن خلافاتها الداخلية وافتقارها إلى العمق المؤسسي، وتكشف نقاط ضعفها، وسيتطلب استقرار الوضع من القيادة اتخاذ تدابير استراتيجية لإعادة ضبط ديناميكيات السلطة بين الفصائل المتنافسة وتلبية مطالب المجتمع المحلي.
وفي حين أن تعامل هيئة تحرير الشام مع الاحتجاجات كان حتى الآن مقيداً نسبياً، مع عدم الإبلاغ عن سقوط قتلى، فإن الاستياء المتصاعد في إدلب يتطلب إجراءات موضوعية من القيادة تتجاوز مجرد التعديلات السطحية.
وبالتالي فإن تلبية بعض مطالب المجتمع سيكون خياراً ممكناً، في حين أن الخطوات المحتملة الأخرى، مثل تنحي الجولاني، تظل غير مرجحة إلى حد كبير، ويتوقف مستقبل الجماعة والمنطقة على إدارة هيئة تحرير الشام للصراعات الداخلية واستجابتها لاحتياجات السكان المحليين.