ترحيل تتار القرم.. مأساة شاهدة على واحدة من أكبر جرائم النظام السوفيتي
قبل ثمانين عامًا، وعلى مدار ثلاثة أيام من 18 إلى 20 مايو 1944، اعتقلت قوات الأمن السوفييتية ما لا يقل عن 200 ألف من تتار القرم في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود وأرسلتهم بوحشية إلى المنفى في أوزبكستان السوفييتية وأماكن نائية أخرى في الاتحاد السوفييتي، بناء على إجراءات قمعية نظمتها الدولة بالقوة، بأمر من الزعيم السوفيتي آنذاك جوزيف ستالين.
ولقي عشرات الآلاف حتفهم أثناء الترحيل وفي ظل الظروف القاسية التي عاشوها خلال سنواتهم الأولى في المنفى، وقدر علماء السكان السوفييت في عام 1949 أنه كان هناك ما يقرب من 45000 “حالة وفاة زائدة” بين تتار القرم في السنوات الخمس الماضية، في حين قدرت مصادر تتار القرم الخسائر أعلى بكثير.
تم ترحيل تتار القرم – مثل العديد من السكان العرقيين السوفييت الآخرين في نفس الوقت تقريبًا – بأمر من الدكتاتور جوزيف ستالين وأشرف عليه رئيس الشرطة السرية سيء السمعة لافرينتي بيريا، وأعقب ذلك حملة لإزالة التتار في شبه جزيرة القرم، تم خلالها القضاء فعليًا على ثقافة الشعب التركي المسلم في شبه الجزيرة.
كان تتار القرم يشكلون في الأصل أكثر من 90% من سكان شبه جزيرة القرم، وبعد أن ضمت روسيا شبه الجزيرة بالقوة في عام 1793، تعرض تتار القرم لقمع منهجي.
واستمر هذا في ظل النظام السوفييتي الشمولي، وتعرضت لغتهم ودينهم للضغط، وحُرموا من الأراضي والممتلكات، بينما تم نقل الروس والأوكرانيين إلى شبه جزيرة القرم، فيما بلغت هذه السياسة الاستعمارية ذروتها بترحيل تتار القرم في مايو 1944.
انتقام ستالين من تتار القرم
بعد انتهاء الحرب العالمية، كان أول شاغل للطاغية “ستالين” هو الانتقام من مسلمي الاتحاد السوفيتي عامة وتتار القرم خاصة، فأعلن ستالين خيانة عشرة قوميات مسلمة للاتحاد السوفيتي وعمالتهم للإلمان، على رأسهم تتار القرم، وبدأت سنة 1944 ميلادية أكبر عملية تهجير وتغريب عن الديار شهدها التاريخ الحديث، بتهجير 15 مليون مسلم من ديارهم منهم 200 ألف تتاري من القرم إلى مجاهل سيبيريا للموت في معسكرات الاعتقال والعمل الشاق؛ جوعاً وبرداً ومرضاً وقهراً.
وقبل التهجير قام الروس بمجازر انتقامية مروعة بحق الأهالي، فهدموا البيوت على ساكنيها، وحطموا المساجد وأحرقوا المصاحف، ولم يبق بالقرم من سكانها الأصليين؛ التتار، بعد المجازر والتغريب سوى بضعة آلاف فقط.
تفاصيل القصة تعود تحديدا، إلى مايو 1944، عندما تم ترحيل تتار القرم قسراً من قبل نظام ستالين، بينما كان رجال تتار القرم يقاتلون في الجيش الأحمر، حيث تم ترحيل ما تبقى من تتار القرم، ومعظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، بوحشية دون سابق إنذار، حيث تم وضعهم في عربات قطار الشحن دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن وجهتهم، ولم يكن معهم سوى الحد الأدنى من الأمتعة.
استغرقت الرحلة من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، في ظل ظروف رهيبة، ومات الآلاف من الجوع والمرض. وانتهى الأمر بمعظمهم في أوزبكستان في آسيا الوسطى، حيث تم اعتقالهم في ظروف سيئة للغاية، مما أدى إلى سقوط العديد من الوفيات.
ولم يتمكن العديد من تتار القرم من العودة إلا في أواخر الثمانينيات، وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991. ومع احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، أصبحوا الآن عرضة مرة أخرى لانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقال التعسفي والتجنيد القسري. وتم حظر المجلس، وهو الهيئة التنفيذية لتتار القرم.
مقتل 46% من تتار القرم خلال عامين
وفي الذكرى الثمانين لترحيل ستالين التتار من شبه جزيرة القرم قال الزعيم الروحي لتتار القرم مصطفى جميليف، عضو البرلمان الأوكراني ورئيس مجلس تتار القرم في تصريحات لإذاعة أوروبا الحرة إنه من حيث حجم الكارثة وعواقبها، هذا هو التاريخ الثاني من نوعه في تاريخ شعب تتار القرم، موضحا: جاءت الأولى في أبريل 1783، عندما احتل الروس شبه جزيرة القرم للمرة الأولى. وتحت ضغط السلطات، أُجبر تتار القرم على مغادرة وطنهم والانتقال إلى الإمبراطورية العثمانية المجاورة.
يضيف: “لكن من الواضح أن الترحيل الثاني والإبادة الجماعية كانا يهدفان إلى تدمير أمتنا بالكامل. لم يكن الأمر يتعلق فقط بالموت الجماعي لتتار القرم. في منتصف الستينيات، أجرينا مشروعًا بحثيًا حول عدد الأشخاص الذين قُتلوا، لقد توصلنا إلى رقم مفاده أنه خلال العامين الأولين بعد الترحيل، هلك حوالي 46% من شعب تتار القرم بأكمله”.
لغة تتار القرم مهددة بالانقراض
يقول جميليف، إن لغة تتار القرم الآن أصبحت على وشك الانقراض، وقد أدرجتها اليونسكو ضمن اللغات ” المهددة بالانقراض “، معربا عن أمله ألا تختفي بينما تبذل أوكرانيا جهودًا للحفاظ على اللغة.
يعود الزعيم الروحي لتتار القرم بالذاكرة إلى السنوات الأولى عقب الترحيل، فيستذكر: “بعد الترحيل، لم تكن هناك مدارس [التدريس بلغة تتار القرم]. لم يكن بوسعنا سوى سماع تلك اللغة وتعلمها من آبائنا. أنا كبير بما يكفي لأن أكون قد ولدت في شبه جزيرة القرم، وكان والداي يتحدثان دائمًا لغتهما الأم في المنزل. أتذكر أن والدي منعنا من التحدث باللغة الروسية في المنزل، على الرغم من أننا كنا ندرس في المدارس الروسية وندرس كل شيء باللغة الروسية. عندما كنا أطفالاً، كنا نتحدث مع بعضنا البعض باللغة الروسية. لكن والدي أصر: تحدث بلغة بشرية حتى يفهمها الجميع”.
يتابع: “ثم كان هناك الجيل الذي جاء بعدنا، الذين ولدوا بالفعل في المنفى. مستوى معرفتهم بلغتهم منخفض جدًا. ولم يكونوا قادرين على نقل اللغة إلى أطفالهم. ونتيجة لذلك، ووفقًا لدراسات مختلفة، يمكن القول أن حوالي 20 بالمائة فقط من تتار القرم يعرفون اللغة بشكل أو بآخر. القليل منهم يتحدثونها بشكل جيد، في حين أن البقية إما لا يعرفون أي شيء أو يتحدثونها بشكل سيء للغاية”.
ماذا عن مستقبل تتار القرم؟
يعتقد مصطفى جميليف أن تتار القرم لن يكون لهم مستقبل ما لم يتم إخلاء شبه جزيرة القرم من الاحتلال في إشارة إلى “روسيا”، متسائلا: هل يوجد مكان في العالم يزدهر فيه الناس بينما تنفجر الصواريخ والقنابل باستمرار؟ وهذا ما يحدث الآن في شبه جزيرة القرم.
يضيف: “بعد عام 2014، قلت باستمرار إنه يجب نزع احتلال شبه جزيرة القرم من خلال الدبلوماسية. وإلا فإنها سوف تصبح شبه جزيرة غير صالحة للسكن، تذكرنا بميناء ماريوبول على بحر آزوف، لكن روسيا ترفض كل شيء، وتصر على عدم مناقشة موضوع شبه جزيرة القرم لأنها «أراضي روسية» بحسب الدستور الروسي”.
“نتيجة لذلك، يمكننا الآن أن نتحدث فقط عن التحرير العسكري لشبه جزيرة القرم” يقول جميليف، الذي استدرك، “لكنني أعتقد أنه عندما تدخل القوات الأوكرانية المنطقة الواقعة بين شبه جزيرة القرم والبر الرئيسي لأوكرانيا، فسوف نقترح إجراء مفاوضات مرة أخرى. لكن الموضوع سيكون كيفية السماح للقوات الروسية بمغادرة شبه جزيرة القرم دون خسائر ودون قتال. ببساطة لا توجد طريقة أخرى”.
معمرون تتار يروون لأخبار الآن مأساة ترحيلهم
في العام الماضي أنتجت أخبار الآن فيلما وثائقيا، كان عبارة عن شهادة على لسان من عاشوا هذه المأساة، فبعد أكثر من 6 أشهر أمضيناها نبحث عن معمرين كانوا على متن قطار ستالين، على أن يكونوا أثناء التهجير كانوا في سن مناسب يسمح لهم برصد تفاصيل مأساة التهجير، عطلت البحث ظروف الحرب في إقليم القرم وخوف البعض على أبنائه واحفاده من بطش الروس إذا تحدثوا عن جريمة ستالين، حتى توصلنا إلى عديلة أميتوفا (88 عاما) من مواليد 1935 وعبد الرحمن سْمَيِلوف (93 عاما) من مواليد 1930.
كانت عديلة تبلغ من العمر 9 سنوات حين قرع الجنود الروس، باب منزل والديها في الرابعة من صباح 18 مايو عام 1944، تبدأ عديلة حديثها لـ”أخبار الآن” عن حياتها في القرم قبل الترحيل فتقول”بسم الله الرحمن الرحيم، ولدت في قرية ديرمين في يالطا. والداي أيضًا من قرية ديرمين، وحتى 18 مايو 1944 كنا نعيش في قرية ديرمين، كان لدينا حدائق جميلة جدا، ذات يوم جاؤوا وأخذوا والدي إلى الجيش.” بقيت والدتي مع ثلاثة أطفال وهي في انتظار طفل رابع.”
اليوم، عجوزٌ هي عديلة، خط الزمن تصاميمه على وجهها بعناية ولكنها مازالت تحتفظ بمشاعر طفلة تتذكر معاناة أمها المسكينة، الوحيدة مع أطفالها وأم زوجها المريضة في قطار لا يعرف قلب سائقيه الرحمة، تكمل عديلة حديثها وهي تتذكر والدتها فتقول “أمي المسكينة! أنا من مواليد عام 193، ولد أحد إخوتي عام 1938، والثاني من مواليد عام 1942، في عام 1944، لم يكن لهذا الطفل من العمر عامين.”
في عربة أخرى من القطار كان عبدالرحمن سميلوف، ربما القطار الذي كانت به عديلة وربما غيرها غيره، ففي اليوم الواحد كانت هناك عشرات القطارات إلى وجهات عديدة وعلى مدار عدة أيام كانت قطارات ستالين قد حملت ما يزيد عن 220 ألفا من شعب التتار إلى سيبيريا وجبال الأورال وغيرهما من المناطق النائية قرب القطب الشمالي، بينما تم استبدالهم بشعب جديد من الروس يسكن منازلهم الدافئة ويأكل من أراضيهم الطيبة.
كان عبدالرحمن سميلوف (93 عاما) صبيا في الرابعة عشر من عمره حين أجبروه على صعود قطار ستالين مع من تبقى من عائلته، يحكي عبد الرحمن قصته لـ “أخبار الآن” فيقول “ولدت في قرية تَرَقْتَشْ في منطقة سُدَقْ عام 1930، أرادت السلطة نزع أملاك والداي لذلك اضطررنا إلى الفرار من قريتنا الأصلية، توفيت أمي في إقليم كراسنودار، في جمهورية أديغيا، بعد وفاة والدتي، عدت أنا وأبي إلى شبه جزيرة القرم، كان هذا في عام 193،على مقربة من قرية ترقتش يوجد جبل بيرشم، حيث عشنا هناك، لم يؤخذ أبي إلى العمل لأنه كان “كولاك – أي من الفلاحين الأثرياء، كان لدينا ثور واحد صادرته المزرعة الجماعية والتي كان يطلق الروس عليها: كُولْخُوزٌ”.
كيف كانت رحلة قطار ستالين من القرم إلى المجهول
تحكي عديلة أميتوفا عن يومياتها في قطار ستالين فتقول”بدأ القطار في التحرك، سافرنا في هذا القطار لمدة شهر كامل، توقف هنا وهناك خلال هذه المحطات، نزل الناس من القطار، بعض الناس وجدوا فنجانا، وبعضهم إبريقا، وبعضهم طنجرة ووجدوا قليلا من الحطب، قاموا بإشعال النار فيها لكي نتمكن على الأقل أن نغلي الماء، وفي هذا الحين يرفع صوت القطار توت-توت و ينطلق، هرع الناس وأخذوا اشياءهم، وكان منهم من تمكن و من لم يتمكن، كان هناك من لم يتمكن ركوب القطار، وبقوا على الطريق، أما والدتي المسكينة أصلا لم تستطع أن تخرج من القطار، كان الجنود قد أحضروا كيسًا ووزعوا سمكة واحدة لكل منا كانت الأسماك مالحة هذه السمكة هي الوجبة التي قدموها لنا طوال الطريق.”
أما عبدالرحمن سميلوف فيقول “في هذا العام (يقصد عام 2023 حين التقيناه) سيكون قد مر 79 عامًا منذ أن تم ترحيلنا من القرم. كان عمري في هذا الوقت 14 عامًا. كنا أولادًا، كنا نرعى الماعز في الجبال، استيقظنا في الصباح، وكنا ننوي إخراج الماعز إلى المراعي، أم كانت القرية في ذلك الوقت محاصرة بالكامل من قبل الجنود كانت المنطقة بأكملها في سياراتهم، في الصباح الباكر بقرعة شديدة على الأبواب اقتحم منزلنا ضابط و جنديان، كان الظلام لا يزال في الخارج قال لنا الضابط: لديكم 15 دقيقة للاستعداد، خذوا الأشياء اللازمة فلن تعودوا إلى هنا.”
ويضيف سميلوف”كانت أختي الكبرى تنهي دراستها، في ذلك الوقت تخرجوا بعد الصف السابع. نحن كنا صغارًا، و هي كانت تعرف بالفعل ما كان يحدث. أخذنا بعض الأشياء معنا، أردنا اصطحاب أطفال عمنا معنا، لكن لم يُسمح لنا بذلك تم إحضارنا إلى روسيا، إلى قرية برافدينسك، في منطقة بالاخنا بمنطقة غوركوسكي نيجني نوفغورود الآن، كنا نعيش هناك، تم نقلنا في عربات الشحن، كنا على الطريق لمدة 18 يومًا وفي الطريق لم نتغذى بأي شيء، عندما تم ترحيلنا، كانت العربات المزدحمة بالناس، لم تكن هناك مراحيض، كسر الناس الأرضية الخشبية في أحد الزوايا و نقبوها لقضاء حاجتهم وأغلقوا هذا المكان ببطانية.”