خسائر فاغنر الروسية في مالي الأشد فتكاً في منطقة الساحل الأفريقي
لم تكن الخسارة الفادحة التي تكبدتها مرتزقة فاغنر الروسية الأيام الماضية، على يد تحالف الأزواد “ما يسمى بالإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن الشعب الأزوادي” في مالي، مجرد هزيمة عابرة في معركة بين قوتين متحاربتين، بل كانت وفق مراقبين، أكبر ضربة ميدانية للمجموعة الروسية الغامضة منذ سنوات.
ويوم الخميس الماضي، اندلعت معارك على نطاق لم يسبق له مثيل منذ أشهر في بلدة تنزاواتين وأعلن تحالف من الجماعات المسلحة الانفصالية الطوارق، تحقيق ما وصفته بـ”انتصار كبير” على الجيش المالي وحلفائه الروس من مجموعة فاغنر، والتي نشرت قناة تلغرام مرتبطة بها تفاصيل الاشتباكات الأخيرة في شمال مالي، مؤكدة وقوع خسائر في صفوف المجموعة العسكرية الروسية ومقتل أحد قادتها.
نهب مناجم الذهب واليورانيوم
الواقع أن هذه الهزيمة ليست الأولى التي تمنى بها مجموعة فاغنر في القارة الإفريقية، لكنها الأكبر والأفدح من حيث الخسائر، وهو ما فتح الباب أمام سيل من الأسئلة، بعضها يتعلق بمستقبل هؤلاء المرتزقة، والدور الروسي بالمنطقة، والبعض الآخر، يسلط الضوء على الهدف من وجودها ورغبتها في السيطرة على ثروات الدول التي تعمل بها.
وفي هذا الصدد يقول عمر مختار الأنصاري العضو المؤسس لحزب التجديد الديمقراطي والجمهوري بالنيجر، إن هدف التواجد الروسي من خلال الفيلق الأفريقي القوة التي استحدثتها موسكو، أو “فاغنر سابقا” هو نهب الثروات الأفريقية من مناجم الذهب واليورانيوم؛ للتعويض من الخسائر التي كبدتها الحرب الأوكرانية.
يضيف الأنصاري في حديثه مع أخبار الآن، أن روسيا لم تأتي لإعمار أفريقيا أبدا؛ بل جاءت لتعويض خسائرها وملء خزانتها بالثروات الأفريقية عبر استغلال أنظمة غير شرعية تبيع لها أجهزتها الدفاعية بعقود عاجلة ويستأجرون عليها مرتزقة لحماية عروشهم المهتزة من السقوط.
وأشار القيادي الحزبي بالنيجر، أن الساحل الأفريقي غني بالمعادن وخاصة المعدن الأصفر الذي تسيل له لعاب الفيلق الأفريقي وفاغنر، موضحا أن منطقة الحدود الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، أغنى المناطق بالذهب، بينما تزيد النيجر على كل ذلك امتلاكها احتياطات ضخمة من اليورانيوم والنفط والغاز الطبيعي.
قصف المناجم
وأكد الأنصاري أن مرتزقة روسيا لا يريدون عقودا طويلة الأجل، لذلك استغلال مناجم الذهب هي عقودهم المفضلة؛ وبحسب عضو حزب التجديد الديمقراطي والجمهوري بالنيجر، فإن لديهم خبرة واسعة في استغلالها بمالي.
يشرح: “إذا سمع هؤلاء المرتزقة، بأي منجم يقومون بطرد المواطنين منه بدعاوى أمنية كاذبة لاستغلاله”، يضيف:”حصل ذلك في غاو وعندما استعصت قرية تينزواتين قصفوا المناجم عمدا لإرغام العمالة على النزوح”.
تقع مدينة غاو شمال شرق جمهورية مالي، على الضفة الشرقية لنهر النيجر الذي يتجه منها إلى تمبكتو شمالا مخترقا أربع دول من غرب أفريقيا، هي: نيجيريا والنيجر ومالي وغينيا، بطول يبلغ 4180 كيلومترا.
وبحسب الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن الشعب الأزوادي، فإن “المعارك الطاحنة” التي دارت الأيام الماضية، جاءت بعد هجوم مفاجئ لقوات فاغنر الروسية، بمساعدة الجيش المالي، من أجل السيطرة على مقلع ذهب “مكان مخصص لاستخراج الذهب”، في قرية إخربان جنوب بلدة تينزاواتين.
انتصار للضعفاء
وتنهب شركات المرتزقة الروسية أفريقيا، تحت مسمى شركات الأمن الخاصة، وإن كان بذريعة حماية مصالح الشركات الأجنبية صاحبة الامتيازات والعقود في مناجم التعدين أو حقول النفط.
وتدريجياً توسعت هذه الشركات في استئجار مقاتلين مرتزقة لتصبح ذات نفوذ طاغ على النظم الحاكمة، مثلما يحدث حالياً في الحرب في السودان والدور الذي تلعبه فاغنر في أفريقيا الوسطى والسنغال وحماية الانقلابات العسكرية في مالي وعدة دول أفريقية.
وبالعودة لما جرى في شمال مالي، يعتبر عمر مختار الأنصاري، أن ما حدث هو انتصار للمدنيين الضعفاء الذين اجتمعت عليهم مرتزقة فاغنر وجنود الانقلابيين.
وأرجع القيادي الحزبي، هزيمة فاغنر في معركة تينزاواتين إلى العواصف الرملية؛ مؤكدا أن المناخ والتضاريس عامل استراتيجي في كسب المعارك، مشيرا إلى أنه كما انتصرت روسيا على هتلر بسبب العواصف الثلجية في الحرب العالمية الثانية، فقد كان عامل العواصف الرملية في صالح أهل المنطقة بالصحراء الكبرى الذين تعودوا على مناخها.
عقيدة المرتزقة
وبينما يتساءل البعض، حول ما إذا كان ما جرى مؤشر على ضعف المرتزقة الروس، يقول الأنصاري، إن جميع مرتزقة العالم يكمن ضعفهم في عقيدتهم القتالية فهم ينطلقون من مبدأ الارتزاق، ومن ثم إذا أشتدت المعارك جعلوا السلامة رأس المغنم فيخسروا أرواحهم بلا مقابل، وبالتالي فإن جميع المرتزقة ضعفاء أمام المدافع عن وطنه وأهله؛ ومرتزقة الروس ليسوا باستثاء كما يقول العضو المؤسس لحزب التجديد الديمقراطي والجمهوري بالنيجر.
لكن متى تلفظ دول إفريقيا المرتزقة الروس من أراضيها؟.. تساؤل آخر تطرحه تطورات الأحداث في المنطقة. وعن هذه النقطة، يرى عمر الأنصاري، أن هذه الأمر لا يمكن ان يتحقق إلا عندما تكون هناك أنظمة شرعية عادلة منتخبة بنزاهة، ولا تخشى من شعوبها وجيوشها؛ وحينها لن تحتاج إلى مرتزقة تحميها للديمومة على كرسي الحكم.
واستكمل الأنصاري حديثه حول هذه النقطة: “أغلب من استعان بالمرتزقة أنظمة انقلابية غير شرعية، وقاطعهم المجتمع الدولي حتى يرجعوا للوضع الدستوري؛ فلم يجدوا ملاذا لهم سوى مرتزقة ترعاها دول لا يهمها سوى مصالحها العاجلة بغض النظر عن شرعية تلك الأنظمة من عدمها”.
ثقة زائفة
واستغلت روسيا تدهور العلاقات بين الغرب ودول الساحل المتضررة من الانقلاب في غرب إفريقيا لإرسال مقاتلين وتأكيد نفوذها.
كانت فاغنر نشطة في منطقة الساحل – المساحة الشاسعة جنوب الصحراء الكبرى – حيث يستفيد المرتزقة من الثروات المعدنية التي تم الاستيلاء عليها مقابل خدماتهم الأمنية.
وتواجدت فاغنر في مالي منذ أواخر عام 2021 بعد الانقلاب العسكري، لتحل محل القوات الفرنسية وقوات حفظ السلام الدولية في المساعدة في محاربة “المتشددين” الذين هددوا المجتمعات في المناطق الوسطى والشمالية، لكن في الوقت نفسه، اتُهمت فاغنر بالمساعدة في تنفيذ الغارات والضربات بطائرات بدون طيار التي قتلت مدنيين.
منذ مساعدة قوات مالي على استعادة السيطرة على مدينة كيدال الشمالية الرئيسية، كان مرتزقة فاغنر مفرطين في الثقة ومفرطين في العمل، لكن جاءت الخسارة الأخيرة لتقتل هذه الثقة.
وسلطت هذه الهزيمة الفادحة الضوء على إمكانية أن يضعف الدور الروسي في إفريقيا، وهو ما اتفق معه الأنصاري، الذي لفت إلى أن الأنظمة الانقلابية بالساحل حين استقدمت هؤلاء المرتزقة، كان السبب “القوة القاهرة” التي لايمكن الوقوف أمامها؛ لكن وبعد أن اتضح خلاف ذلك في معركة تينزاواتين، قد تعيد هذه الأنظمة حسابتها الدفاعية والسياسية، وليس مستبعدا ان يتم الاستغناء عن هذه المجموعات المسلحة.
وجهان لعملة واحدة
وهنا شدد عمر الأنصاري على أن تواجد المرتزقة مرفرض في الأساس لدى جميع الشعوب وبالأخص الشعوب التي عانت من ويلاتها وانتهاكاتها، وأنه ليس هناك من يفرح باستقبال أي قوة أجنبية على أرضه؛ فضلا عن مرتزقة لا تحكمهم أي قوانين أو مبادئ.
وتابع: “ربما أغلب هؤلاء المرتزقة مطلبون للعدالة ببلدانهم؛ فكيف يطمئن أي مواطن أو يأمن مرتزق مدجج بالسلاح بأرضه؛ وخاصة بعد تورطهم في ارتكاب جرائم قتل بحق المدنيين من الشيوخ والأطفال والنساء وتفخيخ جثثهم وتورطهم كذلك في السرقة.
وفي تعليقه على طرح البعض بأن روسيا قد تلجأ إلى الفيلق الأفريقي الذي أنشأته مؤخرا ليحل محل فاغنر بشكل كامل في منطقة الساحل، يرى الأنصاري أن الفيلق الأفريقي وفاغنر وجهان لعملة واحدة؛ وما جرى مجرد تغيير المسميات والرتب.
وأوضح: “كانت فاغنر شركة أمنية خاصة لا تتبع لوزارة الدفاع الروسية ولكن بالتأكيد كانت تابعة لروسيا ولو عبر وزارة التجارة؛ والٱن تغير اسمها إلى الفيلق الأفريقي وأعترفت بها وزارة الدفاع الروسية كجناح لها بالخارج؛ ولكن يتعاقدون مع نفس المرتزقة من شرق آسيا وشمال أفريقيا؛ فإذن مجرد تغيرات شكلية ولفظية؛ ولكن الهدف والجوهر ما زال ثابتا”.
واختتم عمر الأنصاري العضو المؤسس لحزب التجديد الديمقراطي والجمهوري بالنيجر، حديثه مع أخبار الآن، بالتأكيد على ضرورة الوقوف ضد أي مخطط لتقسيم الدول الأفريقية والعربية؛ مؤكدا في الوقت نفسه، وقوفه ضد الجرائم الانسانية من “ذبح المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ وتفخيخ جثثهم وتسميم الأبار وقتل الماشية”، وهي ممارسات بحسب الأنصاري، يرتكبها النظام الانقلابي مع مرتزقة فاغنر بشمال مالي “أزواد” وكذلك بأقليم “ماسينا” جنوبا.
وأكد: “نرى أن استمرار مثل تلك الجرائم؛ هو الذي يؤدي إلى تقسيم البلدان وتفكيك وحدتها السياسية والاجتماعية؛ فيجب توقيف تلك الجرائم لكي لا يحدث مزيدا من تقسيم المقسم مسبقا من الدول الاستعمارية”.
وتوصلت دراسة سابقة أجرتها منظمة غير حكومية هي مشروع بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلحة إلى أن المدنيين كانوا مستهدفين في أكثر من نصف أعمال العنف السياسي التي شاركت فيها مجموعة فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى، و71% في مالي.
وبينما تتزايد التحذيرات والمخاوف من إمكانية أن تتحول فاغنر فعليا إلى نقطة ارتكاز راسخة للجريمة المنظمة تعمل انطلاقا من الدول الأفريقية الاستبدادية، مما يضمن عقودا من الاستبداد والعنف، يرى مراقبون أنه ينبغي لقادة أفريقيا الحكماء أن ينظروا إلى هذه المجموعة باعتبارها تهديدًا مزعزعًا للاستقرار للسلام الأفريقي، وهو ما عليه بالفعل.