الجولاني لمّح لحل هيئة تحرير الشام وتشكيل هيئة لإدارة حلب

من القاعدة إلى داعش ثم العودة إلى القاعدة وأخيرا الاستقلال.. إنه أبو محمد الجولاني مؤسس هيئة تحرير الشام “النصرة سابقا”، الذي لطالما لعب على أكثر من وتر، ومارس دور الذكي، الذي يغتنم الفرص، والغاية الوحيدة هل السيطرة، إن لم تكن بقوة السلاح فلابد أن تكون بخباثة السياسة.

منذ الأمس ضجت مواقع التواصل الاجتماعي لفيديو أبو محمد الجولاني وهو يتجول في قلعة حلب، التي سيطرت عليها الهيئة دون مقاومة تذكر من الجيش السوري،، فيديو جاء بعد ترويج من الطرف الآخر بأن ضربة روسية دقيقة أودت بحياة القائد السابق في القاعدة.

ظهور الفاتحين

فيديو ظهور أبو محمد الجولاني في قلب مدينة حلب العريقة، له عدة رسائل أراد إيصالها:

أولها: أنه رجل قوي وصلب لا يخشى التهديدات سواء من روسيا أو النظام السوري.

ثانيا: أن الشعب السوري التف حوله كونه المحرر من طغيان النظام والميليشيات التابعة له، ومخلصهم من الجوع والفقر.

ثالثا: رسالة للمجتمع الدولي، أن الهيئة أصبحت ذات فكر جديد، ولديها خطة عمل جديدة، تتماشى مع القيم والأفكار العالمية، ومبادئ حقوق الإنسان، وليست ميليشيا أو عصابة تابعة للقاعدة وداعش.

رابعا: رفع عزيمة المقاتلين، والشد من أزرهم لمواصلة حربهم، وأيضا الظهور بمظهر البطل ليحضى بالتأييد الشعبي الذي لطالما حلم به.

 

هل الفرحة حقيقية؟

ظهور الجولاني طغى على المشهد العام في سوريا، المئات التفوا حوله والتقطوا الصور، والكثيرون هللوا وكبروا عند رؤيته، والآلاف ينتظرون أن يتم توزيع الخبز عليهم بالمجان، دون الاكتراث بالجولاني وهيئته أو بالأسد وجيشه.

أما عن أولئك الذي هللوا وكبروا، وخرجوا في وسائل التواصل الاجتماعي يؤكدون على أن الأوضاع تسير بشكل جيد في حلب، ففي الحقيقة هم لا يكترثون لكل هذا.

فمنذ سنوات النزاع في سوريا بعد عام 2011 وبالتحديد في حلب، حكم هؤلاء الناس النظام السوري، ثم الجيش الحر، ثم داعش، وفترة وجيزة قوات كردية، ثم النظام مرة أخرى، وهذا دليل على قدرة هذا الشعب على التعايش مع كل هذه المتغيرات، أو على أبسط تقدير اهتمامهم بلقمة عيشهم وعدم الالتفات للحرب أو السياسة.

حل هيئة تحرير الشام

البارز من ظهور الجولاني علنا، بالرغم من مكافأة قدرها “10 ملايين دولار” كانت قد أعلنتها الولايات المتحدة عن الاستدلال على مكانه، ليس الزمان والمكان فحسب بل بالرسالة المهمة التي أراد ايصالها للمجتمع الدولي والتي مفادها، خروج هيئة تحرير الشام من حلب، وتشكيل مجلس يدير المدينة وحل الهيئة.

وقال الجولاني إن فصيله لا ينوي حكم حلب، وإن إدارة المدينة ستكون من مسؤولية هيئة انتقالية مدنية، وأشار إلى أن الهيئة تفكر جديا في حل نفسها بهدف تعزيز الاندماج بين الهياكل المدنية والعسكرية.

وطالبت فصائل أخرى، مثل “الجبهة الشامية”، عناصرها بإخلاء مدينة حلب على الفور لتسليمها إلى الجهات المدنية والإدارية، بينما بدأ الدفاع المدني السوري الخوذ البيضاء عملياته في حلب، مركزا على انتشال جثث الضحايا وإزالة آثار القصف الجوي من الشوارع الرئيسية لتسهيل عودة الحياة إلى طبيعتها.

بعد سنوات من محاولات غسل السمعة.. هل يصدق الجولاني بحل هيئة تحرير الشام؟

هل الجولاني صادق بحل الهيئة؟

الجولاني ظهر بثياب مدنية زيتية اللون، وهو يواصل بث رسائل التقرب عبر خلع ثوبه القديم، فمن لباسه العسكري لتنظيم “القاعدة” الإرهابي إلى لباس حضري عصري، كما أنه يحاول التحدث بأسلوب معتدل، يضع مصلحة المدنيين وسوريا فوق أي اعتبار لنزع الصفة المتشددة عنه وعن هيئته.

المتابع لتحركات الجولاني وقراراته وأفعاله منذ أن أعلن تمرده على تنظيم القاعدة، وتأسيس هيئة تحرير الشام، يمر بعد مراحل حاول من خلالها، التطبع بغير طبيعته، نحاول أن ستخلص بعض الأمور:

التقرب من المسيحيين

في سبتمبر عام 2022 سعى الجولاني إلى زيارة وجهاء الطائفة المسيحية، والتقى بعدد منهم في ريف إدلب بعد سيطرة التنظيم على المنطقة، وأعطى موافقته بافتتاح كنيسة “آنا” في بلدة اليعقوبية وإقامة الصلاة فيها وللمرة الأولى منذ 10 سنوات بشرط عدم قرع أجراس الكنيسة، كما تواصلت الهيئة من قبل مساعدي الجولاني مع عائلات مسيحية مهجرة دعتهم فيها إلى العودة لبيوتهم وأراضيهم، في إشارة تبتعد عن أسلوب المتشددين في كثير من المناطق التي دخلوا إليها في سوريا.

إلا أن هذه الزيارة ووهذا الإجراء الذي أراد منه طمأنة المجتمع الدولي حول مرونته بالتعامل مع أصحاب الديانات الأخرى لم تحظ بأي رد فعل دولي، لكن هذا لم يوقف الرجل الطامح إلى تحسين صورته.

بعد سنوات من محاولات غسل السمعة.. هل يصدق الجولاني بحل هيئة تحرير الشام؟

أبو محمد الجولاني يلتقي عائلات مسيحية في إدلب (2022)

تحسين صورة هيئة تحرير الشام

التغييرات التي قام بها الجولاني لم تقتصر على تغيير زيّه العسكري أو حياة المدنيين، مسلمين ومسيحيين، بل شملت أيضا عناصر وقادة الهيئة.

فقد شكل جيشاً نظامياً وسعى إلى إنشاء كلية حربية، كما ارتدى العناصر زياً عسكرياً موحداً، وأصبحت تقام مراسم استقبال لزعيمهم تشبه استقبال الرؤساء والزعماء خلال تنقلاتهم.

وحرص على حضور تخريج أول دفعة من الكلية التي منحت خريجيها صفة “ضابط”، وكانت تضم نحو 400 شخص في محاولة لإضفاء أهمية على هذا الحدث، ومن جانب آخر لإيصال رسالة جديدة أن تنظيمه يبتعد عن طريق عمل الجماعات المتشددة والمتطرفة بل يحاكي أسلوبه الجيوش النظامية للدول، علاوة على تشكيل حكومة أطلق عليها “حكومة الإنقاذ”.

بعد سنوات من محاولات غسل السمعة.. هل يصدق الجولاني بحل هيئة تحرير الشام؟

القضاء على المعارضين

أكثر ما كان يؤرق أبو محمد الجولاني، هم المعارضون المتشددون في الداخل، والذين كانوا يرون أن سيساته الداخلية تصب في طريق واحد، ألا وهو التفرد بالسلطة واتخاذ القرار، دون مراعاة لأي من القادة العسكريين أو أصحاب الفكر، وكان أبرزهم أبو ماريا القحطاني الذي اغتيل في منزله.

أبو ماريا القحطاني كان أرفع مسؤول يُسمّى في قضية العملاء التي هزت هيئة تحرير الشام، حيث ان الهيئة اعتقلت الآلاف من كبار مسؤوليها العسكريين والإداريين بتهمة التخابر مع جهات خارجية، واعتُقل أبو ماريا وجُرّد من مهامه وتعرض لتعذيب شديد أفقده وعيه حتى ظن البعض أنه مات.

ثم اتخذت الهيئة قرارا بإطلاق سراح القحطاني وفي الخامس من أبريل 2024 قتل القيادي البارز في الهيئة في تفجير انتحاري في منطقة خاضعة لسيطرة الفصيل في شمال شرق سوريا.

وأعلنت الهيئة في بيان على مؤسسة أمجاد الإعلامية التابعة لها مقتل القحطاني الذي ينحدر من أصول عراقية جراء هجوم باستخدام حزام ناسف، نُفِّذ على يدي عنصر ينتمي لتنظيم داعش.

ولم تعلن أي جهة على الفور مسؤوليتها عن مقتل القحطاني.

القضاء على أبرز القادة

في مطلع 2017، أعلنت عدة جماعات مسلحة حل نفسها واندماجها بشكل كامل ضمن كيان عسكري واحد تحت اسم “هيئة تحرير الشام”، بقيادة المهندس هاشم الشيخ المعروف بـ”أبي جابر”.

وضمّت 5 فصائل هي: “جبهة فتح الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، و”حركة نور الدين الزنكي”، و”لواء الحق”، و”جبهة أنصار الدين”، و”جيش السنة”، لكن ما لبث الكيان الجديد أن انهار وانشقت فصائله عن بعضها البعض، لتبقى “هيئة تحرير الشام” بقيادة الجولاني نفسه.

وفقدت “جبهة فتح الشام” عدداً من أبرز قياداتها، على غرار العراقي أبو ماريا القحطاني الذي لقي مصرعه، إضافة إلى المسؤول الأمني المعروف بـ”أبو أحمد حدود“، وعبد الرحيم عطّون المسؤول عن الملف الشرعي، وأبو إبراهيم سلامة المسؤول الاقتصادي، وأبو عبد الرحمن الزربة، و”أبو حسن 600” القائد العسكري سابقاً، وغيرهم من القيادات.

البحث عن مكسب

النزاع في سوريا بعد سنوات طويلة أخذ منعطفا آخر، خاصة في ظل نشوء جماعات مسلحة تحمل أفكارا متطرفة، وبعد سنوات من المقاطعة للنظام السوري، عادت دمشق إلى جامعة الدول العربية، وهنا رأى الجولاني أنه لزاماً عليه حجز موقع مؤثر، في وقت كثر فيه الكلام عن عودة العلاقات بين تركيا وسوريا.

فبدأ الزعيم السابق في القاعدة بالعمل على محاولة انتزاع التأييد الدولي له وشطب اسمه من قوائم الإرهاب تمهيداً ليكون حاضراً في مرحلة المفاوضات لترتيب سوريا، ومع ذلك من المستبعد كسب واشنطن وأوروبا ولا حتى روسيا، بخاصة أنها تتهمه بالتعاون مع الاستخبارات الأوكرانية، وهذا ما أعلنه أخيراً المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف عن رصد بلاده تلك العناصر “وستتعقبها، وتعمل على القضاء عليها”.

والتحرك الأخير والمفاجئ، للهيئة في إدلب وصولا إلى حلب، والاشتباكات على أبواب حماة، ومحاولة الدخول إليها، وصولا إلى حمص ودمشق دليل على أن الجولاني ما يزال يأمل، في التغيير من وجهة نظره، فاليوم يريد أن يكون مؤثرا، ويحجز لنفسه مكانا في المعترك السياسي، مع الإبقاء على الهيئة وعناصرها بحلة جديدة وشكل جديد.

ويبقى السؤال الأهم: متى يخرج الجولاني ويعلن نبذه تنظيم القاعدة بشكل مباشر ونهائي؟