مر عام أو أكثر قليلا على ظهور أولى حالات الالتهاب التنفسي الحاد الذي يسببه فيروس «كورونا الشرق الأوسط» الجديد، حيث كانت حصيلة هذا الوباء منذ بدايته وحتى الآن 77 إصابة و43 وفاة منها في العالم، 62 إصابة توفي منها 34 في السعودية وحدها، مما أثار الذعر على المستوى المحلي والعالمي، وأطلق تساؤلات لا تزال إجاباتها غامضة على العلماء. منها: من أين جاء المرض؟ لماذا تركزت معظم الحالات في السعودية والبلدان المجاورة؟ ما هي بؤر انتشاره؟ ما خطره مستقبلا؟
استشرنا حول الموضوع أحد العلماء البارزين في علم الفيروسات البروفسور غازي عبد اللطيف جمجوم، فحدد أولا الدول الأخرى التي حدثت بها حالات مشابهة وهي: دول شرق أوسطية (الأردن، قطر، الإمارات العربية المتحدة، تونس)، دول أوروبية (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) والأخيرة انتقل إليها الوباء عن طريق مرضى من مواطني الشرق الأوسط أو ممن قاموا بزيارة هذه المنطقة.
وأضاف أنه تم اكتشاف الكثير من المعلومات عن هذا الفيروس، خلال العام الماضي، مما سمح برسم صورة واضحة نسبيا، وإن كانت غير مكتملة، عن هذا الفيروس وعن مسار الوباء الذي يسببه، وكذلك أفضل السبل لمكافحته.
* فيروس جديد
* وأشار البروفسور جمجوم إلى أن اكتشاف الفيروس المسبب للوباء وتحديد عائلته كان بداية الخيط الذي سمح بالتعرف على الوباء الجديد، كما سمح بتطوير التحاليل المخبرية اللازمة لتشخيصه، مما أتاح إمكانية تشخيص المرض ومتابعته بسرعة مدهشة.
* مصدر الفيروس حيواني. ما زلنا لا نعرف من أين وكيف جاء المرض، ولكن النتائج ترجح أن مصدره حيواني كما سأشرح لاحقا. وهذه المعلومة مهمة لمنع حدوث المرض من أساسه، ولكنها قد لا تؤثر كثيرا على إمكانية السيطرة عليه بعد انتقاله من الحيوان إلى الإنسان، حيث يتلاشى دور الحيوان بعد حالات العدوى الأولى. وقد ثبت أن انتشار المرض في وباء كورونا الحالي أصبح يحدث أساسا بواسطة انتقال الفيروس من الإنسان إلى الإنسان.
* انتقال الفيروس من شخص لآخر: تبين بوضوح في كثير من الحالات التي حدثت في عدة أماكن إمكانية انتقال العدوى من المريض إلى أشخاص على صلة وثيقة به، مثل بعض أفراد عائلته الذين يعتنون به. وفي أحد المستشفيات في منطقة الأحساء، انتقلت العدوى في 21 من 23 حالة إلى مرضى آخرين في المستشفى، وكذلك إلى بعض أفراد الطاقم الطبي الذين كانوا على صلة وثيقة بالمرضى.
وأثبتت مقارنة الشفرة الوراثية من الفيروسات المعزولة من عدة حالات، أنها ناتجة من انتقال الفيروس نفسه من حالة لحالة أخرى وليس بسبب تعرض المصابين إلى مصادر متعددة مختلفة. كما تبين أن انتقال الفيروس كان عبر الجهاز التنفسي بواسطة الرذاذ. وتعتبر قدرة الفيروس على الانتقال من شخص إلى آخر من أهم العوامل المؤدية إلى تفاقم الوباء وازدياد خطورته، ولكن، لحسن الحظ، يختلف مستوى هذه القدرة من فيروس لآخر.
* قدرة فيروس الكورونا على الانتقال بين الناس ليست عالية. أجريت أخيرا في معهد باستور في فرنسا حسابات أوضحت أن فيروس كورونا الشرق الأوسط، رغم خطورته الكبيرة على المرضى، فإنه ليست له قدرة عالية للانتقال من شخص لآخر. وقد تم تحديد عدد الإصابات الثانوية من المريض للأشخاص المخالطين له، فكان هذا العدد 0.69 وهو أقل من العدد الذي يؤدي إلى الانتشار العالي الذي قد يؤدي إلى حدوث وباء عالمي وهو 1.
* منع انتقال العدوى. أكد البروفسور جمجوم أن إمكانية انتقال الفيروس من شخص لآخر، وانتقاله عبر الهواء، يحددان طريقة السيطرة على الوباء التي تعتمد على عزل المريض في غرفة خاصة ذات تهوية مستقلة، واتخاذ الاحتياطات الوقائية الكافية، مثل عدم الاقتراب منه بمسافة كافية، واستعمال الكمامات الخاصة، وغسل اليدين. أما التشخيص السريع والاحتياطات الوقائية بالنسبة للمصابين فسيكونان العاملين الحاسمين في الحد من انتشار أي وباء محتمل.
* ألغاز الفيروس
* أهم المعلومات التي ما زلنا نجهلها هي: كيف ومن أين جاء الفيروس والمرض؟ وأوضح البروفسور جمجوم أن الإجابة على هذا السؤال هي الطريق الوحيد لمنع المرض من مصدره. وقد أوضحت الدراسات الإجابة المحتملة لهذا السؤال.
وقد كشفت مقارنة الشفرة الوراثية للفيروس مع الفيروسات التي تصيب الحيوان حقيقة مهمة، حيث أوضحت انتماء الفيروس إلى نفس المجموعة التي تنتمي إليها فيروسات مشابهة تصيب الخفاش، مما يرجح أن يكون هذا الحيوان مستودعا لهذا الفيروس في الطبيعة. من المعلوم أن الخفاش من المستودعات المهمة للفيروسات في الطبيعة ويحمل عدة فيروسات يمكن أن تنتقل منه إلى الإنسان، منها فيروس الكلب (السعار)، فيروس الهندرا في أستراليا، فيروس النيبا في ماليزيا وبنغلاديش، وفيروس الكورونا (سارس) الذي سبب وباء الالتهاب التنفسي الحاد عام 2003 في الصين.
فيروس السارس ينتمي لنفس عائلة فيروسات الكورونا التي ينتمي إليها فيروس كورونا الشرق الأوسط الجديد. وقد انتقل السارس من الخفاش إلى حيوانات أخرى يأكلها الصينيون (مثل قط السيفيت) ومنها انتقل إلى البشر. أما فيروس نيبا فانتقل من الخفاش إلى الإنسان في ماليزيا عبر الاتصال بالخنزير، حيث أصاب أساسا المزارعين الذين يربون الخنازير، وأغلبهم من أصل صيني، بينما لم يصب الماليزيين المسلمين الذين لا يحتكون بهذا الحيوان. وعند انتقال فيروس نيبا إلى بنغلاديش، استطاع الفيروس نفسه أن يجد طريقا بديلا للانتقال إلى المواطنين البنغلاديشيين الذين لا يربون الخنازير، حيث كان انتقاله عبر تلوث عصارة شجر النخيل بفضلات الخفاش.
هل كان انتقال كورونا الشرق الأوسط في بلادنا مباشرة عبر فضلات الخفاش أو عبر إصابة حيوان آخر، وما هو هذا الحيوان؟ من المهم الإجابة على هذا السؤال لمنع حدوث إصابات جديدة ناتجة من انتقال الفيروس من مصدره الحيواني، تماما مثلما تم وقف انتقال فيروس السارس من الحيوان إلى الإنسان بإغلاق أسواق الحيوانات المصابة بالفيروس. على عكس ذلك، إذا كان الانتقال مباشرة بواسطة مخرجات الخفاش (مثل البراز والبول واللعاب) فيجب اكتشاف كيفية التلوث بهذه المخرجات وما إذا كان ذلك عبر طعام أو شراب معينين أو غير ذلك، ومن ثم العمل على إزالة هذا المصدر.
* انتشار الوباء
* ماذا يمكن أن نتوقع عن مجرى الوباء في الأشهر المقبلة؟ يجيب البروفسور جمجوم أن المعلومات المتراكمة عن المرض، وخاصة القدرة المنخفضة للفيروس على الانتقال من شخص إلى آخر، بالإضافة إلى الزيادة البطيئة نسبيا في عدد الحالات خلال العام الماضي، ونجاح العالم في وقف وباء السارس المشابه خلال بضعة أشهر من اكتشافه، كلها تدعو إلى الاطمئنان أكثر مما تدعو إلى القلق. وربما كانت هذه العوامل وراء عدم اتخاذ أي تدابير حتى الآن من قبل منظمة الصحة العالمية لتحديد أو منع السفر إلى المناطق التي حدثت فيها الإصابات أو أي إجراءات وقائية مشابهة. مع ذلك فمن الأحرى ألا تتم الاستهانة بخطورة هذا الفيروس بناء على النسبة العالية للوفيات التي سببها بين ضحاياه. كما أن من الصعب والسابق لأوانه الحكم على مقدرة الفيروس في التغير واكتساب خواص جديدة قد تساعده على الانتقال بصورة أكثر فاعلية بين المصابين. وربما كانت مثل هذه المحاذير وراء قرار منظمة الصحة العالمية أخيرا بتكثيف جهودها لمراقبة الوباء على مستوى العالم، وهو قرار مهم. وبالنسبة لنا تزداد أهمية رفع مستوى الحذر والترصد بالنظر إلى القدوم الوشيك لموسمي العمرة والحج، وما يصاحب هاتين الشعيرتين من الازدحام والاختلاط بين جميع الأجناس من زوار المشاعر المقدسة، مما يضع بلادنا أمام مسؤولية كبيرة لحماية هؤلاء الضيوف الكرام.
البروفسور غازي عبد اللطيف جمجوم لـ «الشرق الأوسط»