أخبار الآن | روسيا (محمد زهور – ترجمات)
لم يكن يتصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد عشرين عاماً من حكمه أن يواجه أي عقبات يمكن أن تعترض طريقه لتنفيذ أجندته السنوية والحافلة لهذا العام بأعمال من شأنها أن تضفي مزيدا من السيطرة على البلاد، إلا أن رياح القدر أتت بما لا تشتهي سفن سيد الكرملين فكان فيروس كورونا على موعد مع روسيا ومخططات رئيسها وشعبها المثقل بالهموم.
وفي غضون شهرين أهدر فيروس كورونا فرصاً عديدة على بوتين وعرقل تنفيذ أجندته السياسية وأرخى بظلاله على مقدرات بلاده الاقتصادية ومؤسسات مالية اشتهرت بدعمها لنظام الحكم في روسيا.
أولى الضربات التي كالها الفيروس القاتل لخريج جهاز الاستخبارات الروسي، تمثلت بتأجيل العرض العسكري الشهير بالساحة الحمراء وسط موسكو، للتذكير بإرث الاتحاد السوفيتي وهزيمته لألمانيا النازية أبان الحرب العالمية الثانية. وبدلاً من حضور زعماء عالميين من بينهم الرئيس الصيني “شي جين بينغ” كما كان مقررا للاحتفال العسكري، وتوسط بوتين ذلك الاحتفال الذي سيكون هو نجمه بالتأكيد مع هالة كبيرة جرت العادة أن تطغى على العرض العسكري، سيكتفي الرئيس الروسي في التاسع من شهر مايو الحالي بوضع باقة من الزهور على نصب تذكاري للحرب وسط موسكو الخاوية على عروشها بسبب إجراءات الحظر، وسيلقي خطاباً عبر التلفزيون لشعب قابع في المنازل خوفاً من بطش كورونا.
عرض الدبابات وقاذفات الصواريخ والجنود لم يكن يقصد بها فقط إحياء ذكرى تاريخية بل لها أهدافها الأبعد من ذلك، وكان من المقرر أن يتم الاستعراض بعد 17 يومًا من الاقتراع الوطني الذي كان بوتين قد أضافه إلى أجندته ليربح تأييدا شعبيا واسع النطاق للتغييرات الدستورية التي ستسمح له بتمديد حكمه إلى ما بعد عام 2024، إلا أن فيروس كورونا كان قد قال كلمته أيضا في ذلك وتم تأجيل التصويت.
ضمن السياق السابق، نقلت صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية عن أحد السفراء الأجانب في موسكو قوله: “إنه من الواضح تمامًا أن هذا العام لم يأت بما خطط له بوتين… لقد كان للوباء تأثير أكبر بكثير مما كان يأمل، وستكون التداعيات الاقتصادية من كل هذا أكبر.”
وحتى ساعة إعداد هذا التقرير، أصاب الفيروس ما يقرب من 135000 روسي وقتل ما يقرب من 1300 شخص، مما يجعل البلاد سابع أكثر الدول تضررا في العالم وفقا لبيانات من جامعة “جونز هوبكنز”. كما توقف رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين عن أداء مهامه مؤقتا يوم الخميس الماضي بعد إصابته بالفيروس.
ووفق الصحيفة البريطانية، فإن روسيا أصيبت بـ”صدمة اقتصادية” يمكن أن تسفر عن تقلص الناتج المحلي الإجمالي فيها بنسبة تصل إلى 6 في المائة هذا العام وفقًا لتوقعات البنك المركزي، بالإضافة إلى الإغلاق الوطني لمدة ستة أسابيع وتدابير الحجر الصحي الخانقة التي تسببت في اختناق الصناعة المحلية.
كما ساهم الوباء في تخفيض سعر النفط إلى أكثر من النصف، مما يعرض أحد الموارد الأساسية للبلاد إلى الخطر. وتوفر أرباح مبيعات النفط والغاز حوالي 50 في المائة من إيرادات الميزانية الموحدة لروسيا أي حوالي 130 مليار دولار. ومنذ أن تراجعت أسعار النفط، تم استنزاف أحد الصناديق الائتمانية في البلاد (صندوق الحرب) بقيمة وصلت إلى 165 مليار دولار لحماية الاقتصاد أي بما يعادل 300 مليون دولار يوميًاوفقا للبيانات الحكومية.
وحذر وزير المالية الروسي من أن الحكومة يمكن أن تحرق ما يقرب من نصف مدخراتها بحلول نهاية العام.
حكم بوتين في خطر
ما سبق ينذر بوقوع كارثة مالية في روسيا وخاصة أن هناك تدابير مالية كانت مستحقة لأشخاص وشركات داعمين لبوتين، وهو الأمر الذي ينذر بأزمة متعددة الأوجه تهز سلطة الرئيس الروسي والعقد الاجتماعي غير الرسمي الذي يدعم حكمه (توفير الأمن والاستقرار الاقتصادي للناخبين مقابل قيود على حرياتهم السياسية).
وعلى الرغم من محاولات إبعاد نفسه عن الأزمة من خلال تفويض قرارات صعبة إلى حكامه الإقليميين، فقد انخفض مستوى الثقة ببوتين إلى أدنى مستوى له منذ سنوات.
وتقول الفايننشال تايمز، إن أحد مقاييس الثقة العامة في الرئيس الروسي بلغت 28 في المائة – وهو أدنى مستوى منذ عام 2006 – وذلك قبل 18 شهرا فقط من الانتخابات البرلمانية الروسية.
وقال “أندريوس تورسا” وهو محلل في شركة “تينيو” لاستشارات المخاطر السياسية: “إنه من الواضح بشكل متزايد أن أعلى قيادة سياسية في روسيا قللت من مخاطر كوفيد-19 وفشلت في احتواء المرض في المراحل المبكرة، وبهدف تحويل النقد المحتمل لسوء التعامل مع الأزمة، يستخدم الكرملين حكام المنطقة ككبش فداء. .. لكن فعالية مثل هذه التكتيكات تبدو محدودة حتى الآن”.
وطوال شهر مارس الماضي، ومع انتشار الفيروس بسرعة عبر أوروبا الغربية، أصر المسؤولون الروس على أن عدد الإصابات كان منخفضًا، وترك بوتين القضية ليتم التعامل معها من قبل الوزراء والمسؤولين والمساعدين.
وفي 25 مارس، وبعد زيارة المستشفى الرئيسي في موسكو الذي يحتضن المصابين بالفيروس، قال بوتين في خطاب وطني إن روسيا “قادرة على كبح الانتشار الواسع والسريع للمرض”.
بعد ثلاثة أسابيع ومع تسجيل نحو 42 ألف حالة جديدة لمصابين بكورونا، حافظ بوتين في خطاب بمناسبة عيد الفصح على تفاؤله، وقال متفاخرًا: “الوضع تحت السيطرة تمامًا”.
الأسبوع الماضي فقط تغيرت نبرة بوتين، وفي خطاب متلفز مدد فترة الإغلاق الوطني إلى 11 مايو، واعترف بوجود طريق صعب أمام روسيا قائلاً: “هناك طريق صعب وصعب أمامنا. . . لن تكون بالسرعة التي نرغب بها”.
ومن المتوقع أن يكون التأثير على السكان شديدًا، إذ توقع خبراء الاقتصاد في بنك “ألفا” أن تتراجع الدخول الحقيقية في روسيا بنسبة 5 في المائة هذا العام وهو انخفاض جديد متوقع أن يضاف إلى انخفاض فعلي قدر بنسبة 7.5 في المائة عن نسبة الدخول عام 2014 أي قبل فرض العقوبات الغربية على روسيا بعد غزوها لشبه جزيرة القرم.
ويقدّر “أليكسي كودرين”، رئيس لجنة المراجعة الروسية ووزير المالية السابق، أن الأزمة قد تشهد تضاعف البطالة إلى 10 في المائة.
وانخفض الإنتاج الصناعي بالفعل بنسبة 2.5 في المائة في مارس، في الوقت الذي تكافح فيه المصانع والمناجم الرئيسية للعمل في إطار إجراءات الحجر الصحي.
وقد أثارت إجراءات الإغلاق وعمليات التسريح الناتجة عنها احتجاجات بالفعل. وقامت الشرطة بقمع مسيرة في مدينة “فلاديكافكاز” الجنوبية حيث طالب الأشخاص الذين طردوا من وظائفهم بتعويضات أكثر من 3000 روبية (40 دولارًا) التي قدمتها السلطات المحلية. كما جرت الاحتجاجات عبر الإنترنت، حيث نشر روس آلاف التعليقات المعادية لبوتين في مواقع حكومية.
ووفقًا لمركز “ليفادا”، وهو المركز الوحيد لاستطلاع الرأي في روسيا المستقل عن الدولة، فقد انخفض معدل الثقة ببوتين إلى 63 في المائة في مارس، منخفضًا عن شهر فبراير الذي سجل معدل ثقة وصل إلى 69 في المائة.
وعندما سئل مواطنون روس الأسبوع الماضي عن رأيهم بتعامل بوتين مع الوباء، قال 46 في المائة فقط لباحثي ليفادا إنهم يعتقدون أن قراراته كانت صحيحة. وقال 30 في المائة إن القرارات التي اتخذها غير كافية، في حين اعرب 18 في المائة أن تلك القرارات كانت خاطئة.
وضمن هذا السياق، يقول “دينيس فولكوف”، نائب مدير مركز ليفادا: “ليس الوباء نفسه هو الذي يؤثر على التصنيفات، ولكن المشاكل الاقتصادية الناتجة عن ذلك… يخاف الناس من فقدان وظائفهم، ويخافون من تخفيض الأجور، ويتوقعون انخفاضًا في مستويات المعيشة. هذه المخاوف هي الآن الأكثر أهمية”.
ويضيف: “في الواقع، أمام الحكومة بضعة أشهر لمحاولة تصحيح الوضع قبل أن يصبح السخط خطيراً”.
فولكوف أوضح أنه: “لو تم التصويت على التعديلات الدستورية في الوقت المناسب، لكانت الأغلبية ستؤيد التعديلات… ومع تزايد عدم اليقين، والمشاكل الاقتصادية ومع مرور الوقت وتزايد السخط، قد تنخفض رغبة الناس في التصويت والتصويت على التعديلات التي اقترحتها الحكومة.”
وصرح “ديمتري بيسكوف”، المتحدث باسم بوتين في الشهر الماضي للصحفيين بأنه “لا يوافق على بيان مفاده أن الصعوبات الاقتصادية يمكن أن تثير أزمة سياسية في روسيا، مستدركاً أن الارتفاع الحاد في الغضب العام يمكن أن يعيق محاولة بوتين لإعادة كتابة الدستور ومنح نفسه القدرة على الترشح لفترة رئاسية أخرى مدتها ست سنوات بعد عام 2024، عندما سيضطر إلى التنحي”.
وتعتبر روسيا في الوقت الحالي إحدى أكثر الدول في العالم تسجيلاً لحالات الإصابة بكورونا. وقال رئيس بلدية موسكو “سيرجي سوبيانين” يوم السبت الماضي، إنه وفقًا لبيانات الاختبار، فإن 2 في المائة من سكان العاصمة مصابون بـ كوفيد-19 ويعادل ذلك أكثر من 250 ألف شخص أي أربعة أضعاف العدد الذي اعترفت به الحكومة سابقًا بعدد المصابين في العاصمة، مما يثير الشكوك حول كفاءة اختبارات الأربعة ملايين التي تقول الحكومة الروسية إنها أجرتها على الصعيد الوطني.
بكين وموسكو.. ود أفسده كورونا
لم يقتصر تأثير كورونا على الداخل الروسي، فقد خلق الفيروس احتكاكات أوسع بين موسكو وبكين، وهي علاقة سعى بوتين إلى تعزيزها بعد توتر علاقات بلاده مع الغرب منذ عام 2014.
وفي أواخر يناير / كانون الثاني، كانت روسيا من أوائل الدول التي أغلقت معابرها الحدودية مع الصين. بالتزامن مع انتشار الفيروس من ووهان إلى أجزاء أخرى من البلاد، إلا أن موسكو لم تغلق حدودها الغربية مع الاتحاد الأوروبي إلا بعد شهرين.
وتنقل صحيفة الفايننشال تايمز عن “ألكسندر جابوف” وهو باحث في مركز “كارنيجي” للأبحاث بموسكو قوله: “تأخر موسكو في إغلاق حدودها مع الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي أغلقت حدوها مع الصين، كشف العنصرية الواضحة للنخبة الروسية، إذ كان يُنظر إلى الصين على أنها مصدر للخطر بينما كان يُنظر إلى أوروبا على أنها آمنة على الرغم من الأعداد الضخمة للمصابين في إيطاليا وإسبانيا”.
ويضيف: “مع تزايد وصول مصابين روس إلى الصين، يزداد الغضب الصيني، ليس فقط لأن موسكو تخفي، أو غير قادرة على الكشف عن الأعداد الحقيقية للعدوى، بل لأنها لا تستطيع كذلك التحكم أو السيطرة على انتشار فيروس كورونا”.
ومما يثير القلق بالنسبة للكرملين، أن بيانات العدوى تظهر أن المرض ينتشر بشكل أسرع في المقاطعات والمناطق الريفية البعيدة عن موسكو، التي تفتقر إلى المستلزمات الطبية أسوة بالعاصمة.
وكرر بوتين الأسبوع الماضي موقفه بأن على الحكام المحليين تحمل مسؤولية مناطقهم، وعدم الاعتماد على أوامر أو موارد من موسكو. كما حذر من أنه حتى بعد أن تشهد الدولة ككل ذروة في الإصابات “فقد يظل الوضع متوتراً في مناطق معينة”.
وفي خلاصة ما سبق يمكن أن يؤدي انتشار الفيروس إلى ركود طويل الأمد وانتعاش متعثر من شأنه أن يقوض قدرة الإنفاق لدى الروس، وقد يؤدي إلى تقويض الدعم للنظام الحاكم مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في سبتمبر 2021.
ويقول فولكوف من مركز ليفادا: “نرى أنه فيما يتعلق بدعم بوتين وحكومته ككل، هناك انقسام في المجتمع… أعتقد أن هذا الانقسام سوف يتعمق”.
أقرأ أيضا: