مرتزقة فاغنر تتمدد في السودان وتسرق ثرواته
- مجموعة “الفاغنر” الروسية رسّخت أقدامها في السودان عبر التنقيب عن الذهب
- في منطقة العبيدية الغنية بالذهب يوجد مصنع يخضع لحراسة مشدّدة
- حصلت “فاغنر” على امتيازات تعدين مربحة تنتج سيلاً متدفقاً من الذهب
كشف تحقيق لصحيفة نيويورك تايمز أن مجموعة فاغنر الروسية رسّخت أقدامها في السودان، عبر التنقيب عن الذهب في أعماق الصحراء بولاية “الشمالية”.
الصحيفة الأمريكية أضافت أنه في منطقة العبيدية الغنية بالذهب، على بعد 320 كيلومتراً شمال العاصمة السودانية، يوجد مصنع يخضع لحراسة مشدّدة محاط بأبراج لامعة، يسميه السكان المحليون بـ”الشركة الروسية”، وهو، في الحقيقة، واجهة للمنظمة شبه العسكرية وطيدة العلاقة بالكرملين.
ويُعالج المصنع في العبيدية أكوام الخام من سبائك الذهب، حيث حصلت “فاغنر” على امتيازات تعدين مربحة تنتج سيلاً متدفقاً من الذهب، يعزّز مخزون الكرملين من الذهب، البالغ 130 مليار دولار، والذي يخشى المسؤولون الأمريكيون أن يتمّ استخدامه لتخفيف تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو بعد غزو أوكرانيا، من خلال دعم العملة الروسية المحلية.
وتُظهر سجلات الشركة والحكومة السودانية أن منجم الذهب هو أحد البؤر الاستيطانية لمجموعة فاغنر، التي وصفتها الصحيفة بأنها شبكة مبهمة من المرتزقة الروس وشركات التعدين وعمليات التأثير السياسي في السودان والقارة الأفريقية، والتي يسيطر عليها يفغيني بريغوجين رجل الأعمال المقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
اشتهرت فاغنر بأنها مورّد “للبنادق المأجورة”، بهدف التوسع الروسي في رقعة واسعة من أفريقيا تتمدد في السودان وليبيا ودول الساحل وموزمبيق وتنزانيا وأفريقيا الوسطى وغيرها
نيويورك تايمز
“من روسيا مع الحب”
قالت “نيويورك تايمز” إن البرهان رفض إجراء مقابلة خلال إعداد هذا التقرير، وقلل عضو مجلس السيادة الحاكم الجنرال إبراهيم جابر من شأن الروايات عن عمليات تهريب روسية، قائلاً: “الناس يتحدثون، لكنك بحاجة إلى دليل”.
وأشارت الصحيفة إلى أنه في محاولة للحصول على الدعم السوداني، تبرّع بريغوجين بـ198 طناً من المواد الغذائية لفقراء السودان العام الماضي خلال شهر رمضان، حيث كتب على علب الأرز والسكر والعدس “هدية من يفغيني بريغوجين”، وعبارة تذكّر بالحرب الباردة: “من روسيا مع الحب”.
وتضمن التبرّع، الذي تم تقديمه من خلال شركة تابعة لـ “ميري غولد”، 28 طناً من الحلويات التي تم استيرادها خصيصاً من روسيا.
وقال موسى قسم الله رئيس الجمعية الخيرية السودانية التي وزعت المساعدات: “كانت مخصصة للأطفال، لكن الجميع استمتع بها”.
ولكن إصرار بريغوجين على تحويل 10 أطنان من الطعام إلى بورتسودان، حيث كانت روسيا تضغط من أجل الوصول البحري، بدلاً من المناطق الأكثر احتياجاً، أزعج قسم الله الذي قال “إنها تشير إلى أن البادرة كانت تتعلق بالسياسة أكثر من الإنسانية”.
تفسير ساخر
وفي رد على نيويورك تايمز، نفى بريغوجين أي علاقة له بشركة “ميري غولد”، مضيفاً أنه علم أن الشركة “قيد التصفية حاليا”.
وأكد أن “التبرع الخيري” جاء “بأمر من امرأة سودانية كانت له بها علاقات ودية، وعملية، وجنسية”.
واعتبرت الصحيفة أن ما قاله بريغوجين هو “تفسير ساخر من المرجح أن يتسبب بإهانة خاصة لمجتمع إسلامي محافظ”.
مورّد للبنادق المأجورة
وأشارت الصحيفة إلى أن فاغنر اشتهرت بأنها مورّد “للبنادق المأجورة”، بهدف التوسع الروسي في رقعة واسعة من أفريقيا تتمدد في السودان وليبيا ودول الساحل وموزمبيق وتنزانيا وأفريقيا الوسطى وغيرها.
ونقل التقرير عن خبراء ومسؤولين غربيين يتابعون نشاطات “فاغنر” في القارة الأفريقية، قولهم إن الشبكة تطورت في السنوات الأخيرة لتصبح أداة أوسع نطاقاً وأكثر تطوراً لسلطة الكرملين.
فبدلاً من مهمة وحيدة، اتسعت مهامها إلى عمليات مترابطة للقتال وكسب المال واستغلال النفوذ، كأداة منخفضة الكلفة بيد بوتين يمكنه التنصل من الارتباط بها بسهولة.
وفي شرق السودان، أشارت الصحيفة إلى أن فاغنر تدعم مساعي الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر لاستضافة سفنها الحربية التي تعمل بالطاقة النووية. وفي غرب السودان، وجدت المجموعة منصة انطلاق لعمليات مرتزقتها في البلدان المجاورة، ومصدراً محتملاً لليورانيوم.
شراكة مع مسؤولين سودانيين
أضافت نيويورك تايمز أنه منذ سيطرة الجيش السوداني على السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كثفت فاغنر شراكتها مع الفريق محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي”، والذي زار موسكو في الأيام الأولى من حرب أوكرانيا.
وقال مسؤولون غربيون إن فاغنر قدّمت مساعدة عسكرية لحميدتي، وساعدت قوات الأمن السودانية على قمع “حركة شعبية مؤيدة للديمقراطية”.
وأوضح صمويل راماني، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة، ومؤلف كتاب سيصدر قريباً عن “روسيا في أفريقيا”، أن السودان يمثل نوع البلدان التي تزدهر فيها فاغنر.
وقال مسؤولان غربيان كبيران للصحيفة إن فاغنر هي التي نظمت زيارة حميدتي إلى موسكو، وإنه على الرغم من أن الرحلة كانت ظاهرياً لمناقشة حزمة مساعدات اقتصادية، وصل قائد قوات الدعم السريع مع سبائك الذهب على طائرته، وطلب من المسؤولين الروس المساعدة في الحصول على طائرات بدون طيار مسلحة.
وبعد عودته إلى السودان بأسبوع، أعلن حميدتي أنه “ليس لديه مشكلة” مع افتتاح روسيا لقاعدة على البحر الأحمر.
مفتاح أفريقيا
وأشارت الصحيفة إلى أن اللقاء الشهير للرئيس السوداني السابق عمر البشير مع الرئيس الروسي في منتجع سوتشي الساحلي عام 2017، هي التي مهدت لوصول فاغنر إلى السودان.
حينها كان البشير بدأ يفقد قبضته على السلطة بعد ثلاثة عقود من الحكم. وخلال اجتماعه مع بوتين، اقترح الرئيس المخلوع أن يكون السودان “مفتاح روسيا لأفريقيا”، مقابل مساعدات. فاقتنص بوتين العرض.
وفي غضون أسابيع، بدأ الجيولوجيون وعلماء المعادن الروس الذين عيّنتهم شركة “ميروي غولد” (Meroe Gold) وهي شركة سودانية جديدة، في الوصول إلى السودان، وفقاً لسجلات الرحلات التجارية التي حصل عليها مركز “دوسير”، وهي منظمة استقصائية مقرها لندن.
وتقول وزارة الخزانة الأمريكية إن شركة “Meroe Gold” تخضع لسيطرة بريغوجين، وفرضت عقوبات على الشركة في عام 2020 كجزء من مجموعة من الإجراءات التي تستهدف فاغنر في السودان.
ولاحقاً، وصل مسؤولون في وزارة الدفاع الروسية، وبدأوا بمفاوضات حول قاعدة بحرية روسية محتملة على البحر الأحمر، قد تكون بوابة استراتيجية لموسكو على أفريقيا.
وأوضحت الصحيفة أنه على مدى الأشهر الـ18 التي تلت سقوط نظام عمر البشير، استوردت شركة “ميري غولد” للتعدين 131 شحنة إلى السودان، وفقاً لسجلات الجمارك الروسية، تضمّ معدات تعدين وبناء، وشاحنات عسكرية، ومركبات برمائية، وطائرتين مروحيتين للنقل.
وتم رصد إحدى هاتين الطائرتين بعد عام في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث كان مقاتلو فاغنر يحمون رئيس البلاد هناك، وحيث حصل بريغوجين زعيم فاغنر على امتيازات مربحة لتعدين الألماس في البلاد.
اقترح الرئيس المخلوع أن يكون السودان “مفتاح روسيا لأفريقيا”، مقابل مساعدات. فاقتنص بوتين العرض
حملة لإعدام المتظاهرين
وعند بداية ثورة ديسمبر/ كانون الأول عام 2018، ذكرت الصحيفة أن الروس حضوا البشير -في مذكرة- على إدارة حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لتشويه سمعة المتظاهرين، وإعدام بعضهم علانية كتحذير وتخويف للآخرين.
وعندما أطاح جنرالات الجيش السوداني برئيسهم البشير ووضعوه رهن الإقامة الجبرية في أبريل/ نيسان 2019، غيّر الروس مسارهم بسرعة. وبعد أسبوع، وصلت طائرة تابعة لبريغوجين إلى الخرطوم، وعلى متنها وفد من كبار المسؤولين العسكريين الروس، ونقلت إلى موسكو مسؤولين عسكريين سودانيين بارزين، من بينهم شقيق حميدتي، وفقاً لبيانات الرحلة التي حصلت عليها صحيفة “نوفايا غازيتا” الروسية المستقلة.
وبعد 6 أسابيع، وتحديداً في 3 يونيو /حزيران 2019، شنّت قوات حميدتي عملية لتفريق المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية من أمام القيادة العامة للجيش وسط الخرطوم. وخلال أسبوعين من تلك العملية الدموية، استوردت شركة “ميري غولد” 13 طناً من دروع مكافحة الشغب، فضلاً عن الخوذات والهراوات لشركة تسيطر عليها عائلة حميدتي، كما تظهر الجمارك ووثائق الشركة.
في الفترة من فبراير إلى يونيو 2021، قام مسؤولو مكافحة الفساد السودانيون بتتبّع 16 رحلة شحن روسية هبطت في بورتسودان من اللاذقية في سوريا
نيويورك تايمز
حملة لمفاقمة الانقسامات
في ذلك الوقت تقريباً، سعت حملة تضليل روسية باستخدام حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي إلى مفاقمة الانقسامات السياسية في السودان، وذلك بتقنية مشابهة لتلك التي استُخدمت للتدخل في انتخابات الولايات المتحدة عام 2016.
وأغلق فيسبوك 172 من هذه الحسابات الوهمية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ومايو/ أيار 2021، وربطها مباشرة ببريغو[ين.
لكن لم تردع هذه الإجراءات ولا العقوبات الأمريكية مجموعة فاغنر عن هدفها الرئيسي- الاستيلاء على حصة كبيرة من الذهب في السودان.
وأوردت الصحيفة الكثير من المعلومات حول الآلية التي تمارس فيها مجموعة فاغنر أنشطتها في تعدين الذهب بمنطقة العبيدية، وكيف تشتريه من الأهالي، وعن حماية جنود من قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي لأفراد فاغنر.
وارتفع إنتاج الذهب في السودان بعد عام 2011، عندما انفصل جنوب السودان الذي يضم معظم الثروة النفطية.
تهريب الذهب
في الفترة من فبراير إلى يونيو 2021، قام مسؤولو مكافحة الفساد السودانيون بتتبّع 16 رحلة شحن روسية هبطت في بورتسودان من اللاذقية في سوريا، والتي تمت عبر وحدة الطيران رقم 223 التابعة للجيش الروسي، بالقرب من موسكو، وتمكنت نيويورك تايمز من التحقق من معظم تلك الرحلات باستخدام خدمات تتبع الرحلات.
وللاشتباه في أن الطائرات كانت تُستخدم لتهريب الذهب، أغار المسؤولون على رحلة واحدة قبل إقلاعها في 23 يونيو / حزيران من العام الماضي، ولكن عندما كانوا على وشك فتح شحنتها، تدخل جنرال سوداني مستشهداً بأمر من رئيس مجلس السيادة السوداني الحاكم الفريق عبد الفتاح البرهان. وقال مسؤول كبير سابق في مكافحة الفساد- تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته- إن الطائرة نُقلت إلى القسم العسكري بالمطار وغادرت إلى سوريا بعد ساعتين دون تفتيش.