ستة أشهر مرت على الحرب الدائرة حاليًا في أوكرانيا، تشكل فيها بشكل أكثر وضوحًا خطاب المعارضة الروسية التي خرج أغلب قادتها إلى خارج البلاد، ويستغلوا ما وفرته التكنولوجيا الحديثة من وسائل للتواصل مع الداخل الروسي لنقل وجهات نظرهم ليس بخصوص الحرب الجارية وحسب، ولكن في مجمل الأحداث الأخرى داخل البلاد.

يعرض هذا التقرير أبرز آراء المعلقين والمعارضين السياسيين الروس في الداخل والخارج، ورؤيتهم لمستقبل روسيا ما بعد الحرب.

التضحية بروسيا من أجل تدمير أمريكا

تحت هذا العنوان، كتب أستاذ العلوم السياسية ورجل القانون فلاديمير باستوخوف، المقيم في لندن منذ العام (2008)، عدة منشورات على قناته الخاصة في تلغرام، عاقدًا مقارنة بين نهج تروتسكي وستالين، أثناء الحرب التي دارت بينهما على السلطة بعد وفاة لينين، مسقطًا هذا الصراع التاريخي على أحداث اليوم.

يقول باستوخوف: “كان أحد الاختلافات الجوهرية في الرؤية الثورية بين ستالين وتروتسكي، هي أن الأخير كان مستعدًا للتضحية بالسلطة من أجل الفكرة، بينما فضل ستالين التضحية بالفكرة من أجل السلطة مشكلاً بذلك أول حزب قومي بلشفي”.

افترض تروتسكي، أن الثورة العالمية هي الطريقة الوحيدة لبناء “شيوعية حقيقية” في روسيا، بينما دافع ستالين عن “الشيوعية في بلد واحد”، وهو ما أدى لوضع حدود لتحقيق الأهداف الروسية المعتادة في “بناء إمبراطورية”، كما أنه أدرك أنه كسر القواعد اللعب مع الغرب، قد يؤدي لصراع تفوق مخاطره أي أرباح متوقعة، بينما المكاسب المضمونة كانت أكثر أهمية بالنسبة له من “عمليات الاستحواذ الأيديولوجية الوهمية”.

بالنظر إلى الحماس الذي يحاول به الكرملين اليوم تأجيج نيران الحروب والصراعات حول العالم (من كاتالونيا وصربيا إلى تايوان وتكساس)، أشعر بأننا بحاجة لمراجعة بعض أفكارنا، وطرح السؤال التالي: “ماذا لو لم يكن الستالينيون هم الجالسين في الكرملين كما يعتقد الجميع، ولكن التروتسكيين؟” ألا يبدو من تصرفاتهم أنهم مستعدون للتضحية بسلطتهم وفق رؤية أيديولوجية مهيمنة على أفكارهم ومشبعون بها، وتمثل هدفهم الأوحد، وهي “تدمير الإمبريالية الأمريكية؟”، إنها ليست فقط مخاطرة، بل مقامرة بمستقبل روسيا وشعبها.

المعركة من أجل جنوب أوكرانيا

فيما يخص مستقبل الصراع العسكري، علق باستوخوف، قائلاً: “حدسي يخبرني “أن المعركة من أجل جنوب أوكرانيا ستكون الفاصلة في حملة الربيع والصيف للموسم الأول من الحرب“. إذا كانت معركة دونباس نوعًا من “ستالينغراد القرن الحادي والعشرين” (والمكان مناسب – كانت دونيتسك ذات يوم تسمى مدينة ستالين)، فإن “محور نيكولاييف-خيرسون-زابوروجي هو أبرز معالم كورسك الجديدة”. كلا الجانبين يستعدان لهجوم استراتيجي. تستعد روسيا لامتلاك زمام المبادرة، وخلق تفوق عسكري عبر القوات ببعض المناورة السريعة، والهجوم على الحركة المضادة والاختراق إلى زابوروجي وأوديسا من خلف القوات الأوكرانية المنسحبة. ستكون نتيجة هذه المعركة ذات أهمية سياسية كبيرة لكلا الجانبين “إذا نجحت أوكرانيا أو على الأقل ثبتت قواتها على الأرض، فسوف يزداد دعمها من أوروبا”. إذا حقق الهجوم الروسي نجاحًا جزئيًا “سيكون هناك ضغط متزايد على زيلينسكي لإجباره على تقديم تنازلات لموسكو”.

روسيا والاختناق الاقتصادي البطيء

كتب أستاذ الاقتصاد بروفيسور ياكوف ميركن، عن وضع الاقتصاد الروسي، وتفاقم أزماته بعد العقوبات، محذرًا من أن روسيا قد دخلت مرحلة “الاختناق الاقتصادي البطيء“، ومنطقة “الزلازل الاقتصادية العظمى”، قائلاً: روسيا من الأسواق الناشئة، التي تحتاج إلى التطور وليس الحواجز، لقد مر القرن العشرون بأكمله ونحن نتحمل خسائر بشرية هائلة لا يمكن تعويضها، بجانب انخفاض حاد وقسري في الدخل من حيث العملة بمقدار 2-3 مرات على الأقل. هذا ينطبق على البلد ككل وعلى المناطق الروسية المختلفة. في عام 1999، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في روسيا 1.4 ألف دولار أمريكي، وفي عام 1997، بلغ 2.9 ألف دولار أمريكي، وهو أقل من الضعفين. يتذكر الجميع مدى صعوبة الحياة السياسية في أواخر التسعينيات، وتغير الحكومات المستمر، وفي النهاية ظهر رئيس جديد، وهو بوتين.

في عام 2009، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في روسيا 9.2 ألف دولار، أي أقل بمقدار الربع فقط عن عام 2008، ولم ينقذنا من كارثة اقتصادية أكيدة سوى ارتفاع أسعار المواد الخام.

في الفترة من 2014 – 2016، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 – 8.9 ألف دولار، أي 1.8 مرة أقل من عام 2013، ولولا انتعاش أسعار النفط والغاز والمواد الخام الأخرى، كما حدث في أواخر التسعينيات، لدخلنا في منزلق خطير.

هشاشة الاقتصاد الروسي، ومخاطره العالية، وتعرضه لصدمات سريعة وقوية وعنيفة كل هذه الأسباب مجتمعة مع اقتصاد قائم على الموارد، وفي ظل نظام عقوبات مالية وتكنولوجية صارم، يعني ببساطة (الاختناق البطيء)، وأن روسيا تقع في منطقة الزلازل الأعلى من الناحية الاقتصادية.

روسيا بلد على وشك الانقراض

علق ميركن، بشكل عملي وعلمي على دعاة الحرب، مذكرًا إياهم بأن “الحرب آخر كلمة ينبغي سماعها في روسيا“، قائلاً: “في عام 1897، كان يعيش 67.5 مليون شخص داخل حدود روسيا الحديثة، بحسب (اللجنة الحكومية للإحصاء). لو استمر هذا المعدل كما هو لكن في عام 2000، عدد سكان الإمبراطورية الروسية سيصل إلى 594 مليون شخص منهم أكثر من 310 مليون شخص داخل روسيا”.

هل كان يمكن أن يحدث هذا؟ نعم بالتأكيد “لو لم تكن هناك حروب وثورات وموجات هجرة ومجاعات، قارن ذلك بالولايات المتحدة في عام 1900، كان يعيش فيها 76 مليون شخص، في عام 2000، حوالي 281 مليون شخص، أي زيادة بمعدل 3.7”.

ماذا لدينا اليوم في روسيا؟ يعيش 146-147 مليون شخص في بلادنا، وهو “رقم أقل بمرتين من التوقعات التي لو كانت قد تحققت لكان من الأسهل بكثير الاحتفاظ بأراضينا دون الحاجة لخوض الحرب وصراعات، وعدم فقدان وسط وشمال غرب روسيا (هناك تصحر بشري)، والحفاظ على المستوطنات الصغيرة والمتوسطة الحجم على قيد الحياة بل ونموها لتشكل عائلات كبيرة”. يعني هذا أن أي سياسة حكيمة لابد أن تأخذ في الحسبان “حرمة الحرب”، روسيا “آخر بلد ينبغي لها أن تدخل في حروب، لأنها تضحي بمستقبلها حتى لو حصلت على أراضي إضافية”.

تأمل الخسائر في الحروب الروسية “في القرن الثامن عشر، أكثر من نصف مليون قتيل وجريح”. في عام 1800-1913: “أكثر من 3 ملايين قتلوا خلال الحرب العالمية الأولى، وحوالي مليون ونصف خلال الحرب الأهلية 1918-1922”. إذا أخذنا “الخسائر الإجمالية من جراء الحروب والأوبئة والإرهاب والهجرة، يصل الرقم إلى 10.5 مليون شخص خلال الحرب الأهلية”. علاوة على ذلك “المجاعة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، والطرد، والترحيل. الخسائر، ما يصل إلى 4 – 6 مليون شخص، ثم كانت الضربة الرهيبة للحرب الوطنية العظمى 26.6 مليون شخص على الأقل، وفقًا للبيانات الرسمية فقط”. وأخيرًا، في التسعينيات، عصر الاضطرابات الكبرى “في الفترة من 1991 إلى 2001، انخفض عدد سكان روسيا بمقدار 2 مليون شخص، وفي جائحة 2020-2022، تجاوزت “الوفيات الزائدة” مليون شخص”. في الواقع سكان روسيا قليلون، وقد نصبح أقل من ذلك. وآخر كلمة يمكن نطقها في هذا البلد كلمة “حرب”.

هناك ما يسمى “معدل الخصوبة الكلي” – عدد الأطفال لكل امرأة. في روسيا في عام 2017 كان 1.62، حسب (اللجنة الحكومية للإحصاء)، بينما في أوائل الستينيات كان معدل الخصوبة 2.54، وفي أصعب مراحل التسعينيات انخفض إلى 1.19، وفي عام 2000، نتيجة للاستقرار النسبي ارتفع إلى 1.75، ولكنه انخفض مرة أخرى للأسفل بعد أحداث 2014. للحفاظ على سكان روسيا، يجب أن يكون هناك “طفلان على الأقل لكل امرأة”. طفلان على الأقل في المتوسط ​​لكل أسرة! التوقعات الديموغرافية للجنة الحكومية للإحصاء “أنه حتى عام 2035، سينخفض عدد سكان روسيا، ولا يمكن الحفاظ على عدد الأشخاص الموجودون حاليًا إلا من خلال الهجرة”، لا عبر “زيادة طبيعية”. الأمم المتحدة “تتوقع أن يصل سكان روسيا في عام 2050، إلى 133 مليون شخص، في 2100، سيكون العدد 124 مليون شخص فقط”.

هذا يعني شيئًا واحدًا فقط: “القيمة العظيمة لكل حياة لذاتها ولصالح الشعب ككل”، إن هشاشة المجتمع من المفترض أن تفرض أعلى درجات الحساسية تجاه أي مخاطر نشوب صراع عسكري. إليكم ما كتبه منديليف في عام 1906: “بالنسبة لي، الهدف الأعلى أو الأكثر أهمية والأكثر إنسانية لأي سياسة يتم التعبير عنه بشكل واضح وبسيط وملموس، هي تطوير ظروف الإنجاب البشري” في روسيا

الاستعانة بكوريا الشمالية من أجل نصرة “العالم الروسي”!

يتداول أصحاب النزعة الإمبراطورية الروسية مصطلح “باكس روسيكا” أو “روسكي مير” أي “العالم الروسي”، كمفهوم ثقافي سياسي اقتصادي، لربط كافة البلدان المحيطة بروسيا بها، واستعادة الإمبراطورية المفقودة، وقد كانت أحد أهداف الصراع الحالي في أوكرانيا كما أعلن الكرملين “حماية الناطقين باللغة الروسية”، وفقًا لمفهوم “العالم الروسي”، حيث تمارس فيه روسيا دور “الشقيق الأكبر”، حامي حمى الأرثوذكسية والثقافة واللغة والشعب الروسي والسلاف الشرقيين في كل مكان حول العالم من أعداء الداخل المرتبطين بأعداء الخارج الذين هم في الغالب الأنجلوسكسونيون، وفي هذا الإطار سخر المعارض السياسي الروسي بوريس باستوخوف، من استعانة روسيا بأعراق غير سلافية وأرثوذكسية، لقتال سلاف وارثوذكس لأجل “نصرة العالم الروسي”، قائلاً: في خبران حديثان، وردا للتو: قال مارات خزنولين، نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي “إن العمال الكوريين الشماليين أكثر إنتاجية بكثير من العمال الروس، لذا ينبغي ينبغي إحضارهم إلى روسيا”.

أما الخبر الثاني، تصريح القائد العسكري الأوكراني الموالي لموسكو إيغور ستريلكوف، بأن على روسيا: “شراء أنظمة مدفعية من كوريا الشمالية، لأن لديهم الكثير منها بينما ليس لدينا ما يكفي”، ثم يعلق ساخرًا “قبل شهرين، قلت مازحا أنه عندما يبدأ المستعدون للموت من أجل العالم الروسي في النفاد داخل روسيا  يجب أن يتم استيراد الجنود الكوريين الشماليين”، لأن “لديهم فائض واضح من جنود المشاة، ويحتاجون حقًا إلى المال، ولن تكون العقوبات أسوأ علينا ولا عليهم من الواقع الحالي، كنت أمزح في ذلك الوقت، ولم أكن أتخيل أن تصبح المزحة حقيقة بهذه السرعة”.

صراع مطول وعداء أبدي

بهذه الكلمات، وصف الصحفي الروسي الشهير أليكسي فينيديكتوف، رئيس تحرير إذاعة صدى موسكو سابقًا، مستقبل الحرب الحالية، وفي لقاء مطول معه، معتبرًا أن روسيا قد خسرت الشعب الأوكراني إلى الأبد، قائلاً: “لا ينبغي أن يتوقع أحد نهاية قريبة لهذا الصراع، أنه صراع طويل ولا يوجد استعداد لأي طرف للتنازل، وحتى لو حدثت هدنة أعقبها استسلام أحد الأطراف للآخر فإن آثار الحرب ستظل بشكل أبدي، وستنتقل من جيل لآخر”.

يعتقد فينيديكتوف، أن هناك ثلاثة أجيال أوكرانية لا يمكن أن تنسى بسهولة ما تعرضت له البلاد من تدمير وقتل للسكان ومعوقين “سيستمر هذا النزاع حتى لو توقف عسكريًا بشكل أبدي ينتقل من جيل لآخر”.