في 14 سبتمبر اقتحمت فتاة تدعى سالي حافظ أحد المصارف اللبنانية للمطالبة برصيدها في البنك لعلاج أختها المريضة بالسرطان.
نجحت سالي في أخذ وديعتها المقدرة بعدة آلاف من الدولارات باستخدام التهديد بسلاح ناري، وسط حالة من التعاطف من اللبنانيين وغيرهم من سكان المنطقة العربية.
ما فعلته سالي شجع العديد من اللبنانيين على اقتحام المصارف والمطالبة بودعائهم، مما دفع المسؤولين لإصدار قرار بغلق المصارف عدة أيام لوقف مسلسل الاقتحامات.
فكيف دفعت الظروف اللبنانيين لمثل هذه التصرفات؟
أزمة لبنان الاقتصادية
دخل لبنان، الذي يعاني من تعثر اقتصادي، في أزمة اقتصادية كبرى منذ عام 2019، تفاقمت مع انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 وما تلاه من أحداث، حيث انحدرت قيمة الليرة، وارتفع التضخم مسببًا تضاعفًا في أسعار السلع الاستهلاكية عدة مرات.
تراكمت الديون على الحكومة اللبنانية، وأصبح البنك المركزي غير قادر على الاستمرار في دعم العملة، خصوصا مع انخفاض التدفقات النقدية الأجنبية إلى البلاد، مما تسبب في أزمة في الغذاء والوقود والدواء.
أصبح غالبية اللبنانيين لا يأكلون اللحوم، ويقفون في طوابير طويلة للتزود بالوقود، ويتعرقون ليلاً في الصيف بسبب انقطاع الكهرباء، ويذاكرون ويتعلمون في الظلال نتيجة قلة أو انعدام الكهرباء.
اعتبر البنك الدولي أن الانهيار المالي في لبنان قد يكون من بين الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
الحرب الروسية زادت الألم
في وسط الأزمة اللبنانية العصية على الحل، فوجئ اللبنانيون بالغزو الروسي لأوكرانيا، هذا الحدث كان بمثابة المسمار الأخير في نعش الاقتصاد اللبناني المحتضر.
تستورد لبنان 80% من واردات القمح من أوكرانيا، و15% من روسيا، وفقًا لأرقام الجمارك اللبنانية في 2020.
بمجرد إعلان الحرب، خرج وزير الاقتصاد اللبناني، أمين سلام، ليعلن أن احتياطيات القمح في البلاد تكفي لشهر واحد فقط.
أدت الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم معاناة الملايين بسبب الأزمة الاقتصادية المستمرة، حيث وقع أكثر من 80% من السكان في براثن الفقر.
بسبب ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم لمعدلات غير مسبوقة، عجزت السلطات اللبنانية مرارًا وتكرارًا عن إطلاق برنامجين للحماية الاجتماعية لتوفير النقد للأسر الضعيفة وتخفيف ارتفاع الأسعار.
وضع مأساوي
طلبت الحكومة اللبنانية من القطاع الخاص المساعدة من أجل شراء إمدادات شهرية إضافية من القمح، نتيجة ارتفاع أسعاره في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن الحكومة قالت إنها لن تستطيع دعم هذا القمح بأكثر من 20 مليون دولار.
في 5 مارس، قرر وزير الصناعة جورج بوشكيان تقنين القمح، والسماح فقط باستخدامه في الخبز، لحين الحصول على مصادر إمداد بديلة.
دخل لبنان في دوامة أزمات بسبب ارتفاع الأسعار. ونتيجة لارتفاع تكلفة الوقود المستورد، فقد امتد انقطاع التيار الكهربائي عن الشبكة من بضع ساعات يوميًا إلى ما يصل إلى 23 ساعة، وفي البعض المناطق استمر الظلال لعدة أيام، لذلك ارتفع الطلب على الطاقة من المولدات، لكن بسبب ارتفاع تكلفة الوقود الذي يشغلها عجز اللبنانيون عن إيجاد مصدر للإنارة.
كما أدى ارتفاع الأسعار الناتج عن ذلك إلى تحويل الرعاية الصحية إلى رفاهية لا تستطيع العديد من العائلات تحملها.
وقتها، أعلنت هيومن رايتس ووتش أن لبنان معرض للخطر بشكل خاص، لأن الحرب زادت من معاناة اللبنانيين بشكل يفوق تحملهم للصدمة.
إفلاس لبنان
كان الحدث الصعب، هو إعلان نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي في 3 أبريل 2022 عن إفلاس الدولة اللبنانية.
رغم أن الحكومة حاولت تلطيف التصريح بعد غليان الشارع، وقالوا بأنه تعبير مجازي، يعبر عن الوضع القاتم في البلاد، وليس قرارًا يترتب عليه آثار قانونية، إلا أن الجميع كان يعلم أن هذه الحرب بالفعل، قادت لبنان إلى الهاوية.
خلال شهور الحرب، اندلعت احتجاجات في لبنان، وجفت تدفقات النقد الأجنبي وخرجت الدولارات من لبنان كمحاولة لاستيراد السلع بأسعارها الجديدة، ولم يعد لدى البنوك ما يكفي من الدولارات لدفع أموال المودعين الذين يقفون في طوابير في الخارج، لذلك اكتفوا بإغلاق أبوابها في كثير من الأحيان.
جنون الأسعار
انهارت قيمة الليرة اللبنانية أكثر، وفقدت العملة قوتها الشرائية، في وقت ارتفعت وتضاعفت فيه أسعار السلع بشكل يفوق القدرة على الشراء، وعجزت البلاد عن الاستيراد نتيجة رفع الحرب لأسعار جميع السلع الغذائية وغيرها في العالم أجمع.
ارتفع التضخم في لبنان، بعد حوالي 3 أشهر من الحرب، 211% خلال شهر مايو 2022، مقارنة بمايو من العام الماضي 2021.
وارتفع الرقم القياسي لأسعار المستهلك من 378.25 في مايو 2021 إلى 1177.99 في مايو من العام الحالي قياساً على سنة الأساس 2013.
وارتفعت مجموعة المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية بـ 363.7%، بينما ارتفعت مجموعة الصحة بـ 468%، ومجموعة النقل بـ 515%.
هذه الزيادات المفرطة في الأسعار، ومع عدم قدرة البنوك اللبنانية على رد الودائع، تسببت في احتجاج اللبنانيين أمام المصارف، ثم تطور الوضع إلى اقتحامها، نتيجة شعورهم بضوائق مالية عجزوا عن حلها، حيث كتبت الحرب الروسية الأوكرانية الفصل الأخير من مسلسل انهيار الاقتصاد اللبناني.