مع اشتداد القبضة الأمنية للنظام الإيراني تتعاظم مشاعر السخط بين الشعوب المقهورة التي تعاني من آلة القمع، وتتطلع لنيل حريتها وكرامتها بعيداً عن ملالي قم وطهران، حيث تتحكم الأقلية الفارسية في مقاليد السلطة وتبسط سيطرتها على الشعوب الأخرى كالأذريين والتركمان والكرد والعرب والبلوش والبختياريين واللر وغيرهم.
ويعول النظام الإيراني بشكل أساسي على القوة في تثبيت سلطته وكذلك على محاولة زرع الشقاق بين العرقيات المختلفة منعا لتوحدها ضده، مع تهاوي شرعيته ومروره بأزمات عديدة جعلت سكان البلاد يعانون الأمرين مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في ظل استحواذ النخبة الحاكمة على ثروات الدولة وقمعهم لباقي الفئات، ونال أبناء الشعوب غير الفارسية اضطهادًا مضاعفاً عما لقيه أبناء العرق الفارسي.
الاضطهاد المضاعف
يتركز الأكراد غرب إيران في محافظات كردستان، وإيلام، وكرمانشاه، وأذربيجان الغربية، وأغلبهم من أهل السنة، ويتحدثون اللغة الكردية، وكثيراً ما تندلع الاحتجاجات الشعبية في مناطقهم والمواجهات مع القوات الإيرانية بسبب قتلها لأفراد منهم سواء من يعملون على تهريب البضائع عبر الحدود أو حوادث أخرى متفرقة، ومنذ بدايات حكم الملالي في عام 1979 وحتى اليوم، تعد المناطق الكردية من مناطق الاضطرابات بسبب توفر كل عوامل التمايز والتمييز العنصري والمذهبي واللغوي، ومحاولة السلطات الإيرانية منع أي تنسيق بين الأكراد على جانبي الحدود إذ تلاصق مناطقهم إقليم كردستان العراق ومعاقل الأكراد في تركيا، وتقاتل الجماعات والتنظيمات القومية في سبيل الاستقلال عن إيران وإحياء تجربة جمهورية مهاباد الكردية التي أجهضها الجيش الإيراني عام 1946.
وبمحاذاة الأكراد يعيش الأذريون شمال غرب إيران، ويتركز معظمهم في محافظات أذربيجان الشرقية والغربية، وأردبيل وزنجان، ويتحدثون إحدى اللغات التركية وينتمون كذلك للعرق التركي، ورغم كونهم أكبر الشعوب عددا بعد الفرس، وأن أغلبيتهم من الشيعة وتمتع الكثيرين منهم بمناصب وأوضاع جيدة نسبياً فإنه أحياناً ما تثور الاحتجاجات بسبب تهكم وسائل الإعلام الحكومية عليهم، إذ يسري عليهم ما يسري على باقي الأعراق من اضطهاد لغوي وثقافي وإن بشكل أقل حدة، ويطالب الكثير منهم بالانضمام إلى أذربيجان ولم شمل العرق الآذري على ضفتي نهر آراس الحدودي.
وتزداد الروح القومية والنزعة الانفصالية لدى الأذريين مع تصاعد المواجهات بين أرمينيا ووطنهم الأم، أذربيجان، التي رغم أنها دولة إسلامية أكثر سكانها من الشيعة، لكن بسبب خشية إيران من أن انتصارها على الأرمن يحفز نوازع التمرد لدى مواطنيها الأذريين فإنها تنحاز لأرمينيا، مما يسبب ضغينة كبيرة لدى الأذريين، ومؤخراً تجددت التوترات العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا مما كان له انعكاسات على الداخل الإيراني.
ويتوزعون التركمان في إيران على محافظات خراسان الشمالية وخراسان رضوي وجلستان، وكلها محاذية لدولة تركمنستان، وهم من السنة الحنفية، وقد برزت في الأعوام الأخيرة حركات وتجمعات تركمانية بعضها يطالب بإقرار الحقوق الثقافية وبعضها يسعى إلى الانضمام إلى تركمانستان.
وفي الجنوب الشرقي في محافظة سيستان وبلوشستان يقطن البلوش على حدود باكستان وأفغانستان، وهم سنة حنفية تعد مناطقهم من أقل المناطق داخل إيران من حيث مستوى المعيشة، ويتعامل النظام معهم بوحشية مفرطة وقد أعدم العديد من قادتهم ونشطائهم، وتوجد وسطهم بعض التنظيمات الانفصالية المسلحة التي تشن من حين لآخر عمليات ضد الجيش الإيراني.
وفي الجنوب الغربي يعيش العرب في إقليم الأحواز (أو الأهواز) الذي احتلته إيران عام 1925، وأطلقت عليه اسم خوزستان لمحو الهوية العربية للإقليم الذي كان يُطلق عليه سابقاً “عربستان” أي أرض العرب، وهو أغنى المناطق الإيرانية بالثروات حيث يضم منابع النفط والغاز والأنهار والبحيرات العذبة، ويطالب سكانه بالاستقلال، وينظمون انتفاضات دورية احتجاجًا على التمييز الممنهج.
أما اللُّر والبختياريون فيسكنون غرب إيران في محافظات لرستان، وكيكيلويه وبوير أحمد، وجهار محل بختياري، وخوزستان، وأغلبهم شيعة يتحدثون لغات خاصة بهم، ويعانون مما تعاني منه الشعوب غير الفارسية، وبعضهم يشارك في الاحتجاجات الشعبية ضد طهران، بالرغم من أن النظام الإيراني يذكي الأحقاد بينهم وبين العرب ويشجع على توطينهم في الأحواز لتذويب الهوية العربية للإقليم.
وهناك بعض القوميات الصغيرة الأخرى، لكن النظام يمارس سياسة قائمة على محاولة تذويب وصهر الأقليات وإضفاء الطابع الفارسي عليها بالقوة، ولذلك يقسم المحافظات والوحدات الادارية على خلاف خطوط التوزيع العرقي، ويضغط لتهجير البعض من مناطق سكناهم التاريخية، وأدت هذه السياسات إلى إشعار القوميات المختلفة بالإهمال والتهميش.
كما يعتمد النظام التدريس الإجباري للغة الفارسية كوسيلة للدمج للقوميات غير الفارسية، والتمييز في فرص العمل والترقي ضدهم، ويمنع إصدار إحصاءات تكشف النسب السكانية لهذه الشعوب خوفاً من إذكاء الروح القومية لدى المضطهدين وإخفاء ضآلة نسبة الفرس المهيمنين على الدولة، لكن يبرز هنا التصريح الشهير الصادر عام 2009، على لسان وزير التعليم الإيراني حينذاك، حاجي بابائي، بأن 70 في المائة من التلاميذ في البلاد ثنائيو اللغة، أي أن الفارسية ليست لغتهم الأم.
من جهته يقول القيادي في حركة النضال العربي لتحرير الأحواز، ناصر عزيز، إنه ليست هناك إحصائية دقيقة بهذا الصدد لكن وبحسب حساباتنا فإن عدد الأحوازيين يتراوح بين ١٠ إلى ١٢ مليون نسمة، والأذريين ١٣ مليون، والأكراد يتراوح عددهم من ٩ إلى ١٠ مليون، كما أن عدد البلوش في جغرافيا ما تسمى إيران ٤ مليون، أما عدد الفرس فلا يتجاوز ٢٠ مليون نسمة في هذه الجغرافيا.
وأضاف في تصريحاته لـ “أخبار الآن” أن هنالك تنسيق قوي وفعال بين الشعوب غير الفارسية، ففي مؤتمر حركة النضال العربي في بروكسل عام ٢٠١٨، كان التركيز على وحدة العمل المشترك بين الشعوب غير الفارسية، وأعلن رئيس حركة النضال العربي لتحرير الأحواز، حبيب جبر، أن نتائج هذا المؤتمر ستكون على أراضي الشعوب المحتلة في جغرافيا ما تسمى إيران، وهذا ما حصل على أرض الواقع منذ ذلك التاريخ حيث شاهدنا تنسيق دقيق بين هذه الشعوب فحين ينتفض الأحوازيون ينهض الكرد والأذريون والبلوش لمناصرتهم وحين ينتفض أحدهم ينهض الآخر لمناصرته.
وتجدر الإشارة هنا إلى مخالفة السياسات الإيرانية للدستور الذي تنص المادة 15 منه على السماح باستعمال اللغات المحلية والقومية في الإعلام وتدريس آدابها في المدارس إلى جانب الفارسية وهي مادة معطلة منذ كتابة الدستور ، وكذلك المادة 19 التي تنص على عدم التمييز بين الإيرانيين على أساس عرقي، لكن ما يحدث فعلياً أن من يطالب بتطبيق هذه الحقوق الدستورية فمصيره قد يكون الاعتقال أو الإعدام بتهمٍ على غرار “الإفساد في الأرض” و”محاربة الله ورسوله”.
وتتعامل الحكومة المركزية في طهران مع الأقليات العرقية بنَفَس استعماري، وتبدو خريطة المحافظات الإيرانية مشابهة لخريطة الدول لأنها تضم شعوبا لا يجمع بينها جنس ولا لغة ولا مذهب، لذلك تعد إيران دولة ذات طابع إمبراطوري أي أنها تتكون من أمم مختلفة تم ضمهم قسراً عن طريق الغزو والاحتلال، ولذلك تسعى هذه الشعوب لنيل حريتها من ربقة الاضطهاد الفارسي.
صحوة الحرية
تشهد إيران هذه الأيام انتفاضة شعبية عارمة تشارك فيها الأقليات العرقية على اختلاف مناطقها ضد عدو واحد وهو النظام، وقد بدأت الشرارة الأولى للاحتجاجات من حادثة مقتل الشابة الكردية مهسا أميني ذات الاثنين والعشرين ربيعاً، على أيدي قوات شرطة الأخلاق، مما أثار غضبًا عارمًا؛ ففي البداية انطلقت مظاهرات سلمية شارك فيها ناشطات نسويات، ثم امتد لهيب الغضب ليشعل المحافظات الكردية بالاحتجاجات الدامية.
وبالتوازي مع قمع مظاهرات الكرد، لجأت طهران كعادتها إلى محاولة لفت الانتباه عن الاضطرابات الداخلية وربطها بمؤامرات خارجية، وتصوير الأمر على أنه صراع بين الجيش الإيراني والجماعة الكردية المعارضة التي تتخذ من إقليم كردستان شمال العراق مقرًا لها، ووجه الحرس الثوري الإيراني ضربات صاروخية ومدفعية وهجمات بالطائرات المسيرة على كردستان أدت إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى بحجة “استهداف الجماعات الانفصالية الإرهابية” بسبب تدخلها في أعمال الشغب الأخيرة في إيران! لكن هذه الإجراءات أدت إلى تأجيج الغضب في المحافظات الكردية وليس العكس.
وفي بلوشستان شارك الأهالي في الاحتجاجات ضد النظام بعد أن أصدر الداعية السني، عبد الغفار نقشبندي، بيانًا اتهم فيه أحد قادة الشرطة باغتصاب فتاة بلوشية بعد اعتقالها في مدينة تشابهار بتهمة تهريب البضائع، فخرج الأهالي الغاضبين للاحتجاج وأحرقوا مقرات للنظام، ووقعت مصادمات دامية مع القوات الحكومية أدت إلى مقتل قائد استخبارات الحرس الثوري في محافظة سيستان وبلوشستان العقيد سيد علي موسوي، وقائدين آخرين، وكذلك تم قتل عدد من السكان المحليين في ظل تعتيم إعلامي على أعدادهم، فيما ذكرت منظمة حقوق الإنسان البلوشية تسجيل أسماء 42 شخصًا على الأقل استشهدوا برصاص عناصر النظام يوم الجمعة في زاهدان.
وانضم طلبة المدارس والجامعات وتجمعات عمالية إلى الاحتجاجات التي أصبحت عابرة للطوائف وانتشرت في أحياء العاصمة طهران والأحواز وباقي أنحاء البلاد شرقاً وغرباً، وأُشعلت النيران في صور المرشد خامنئي وسلفه الخميني في مدن عدة، وصارت حافلات الشرطة أهدافاً لتفريغ شحنات غضب المحتجين، وفقد النظام سيطرته على العديد من المناطق بعد طرد قوات الأمن منها، ووثق المتظاهرون فعالياتهم بالفيديوهات ونشروها على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما واجههم النظام بالرصاص الحي موقعاً عدداً كبيراً من القتلى وأضعافهم من المصابين، وبحسب تصريحات من قادة الشرطة فإن معظم معتقلي الحراك الشعبي من الشباب صغير السن، أي من الجيل الجديد الذي لم يتأثر كثيراً بالدعاية الأيديولوجية الرسمية.
وأصدر رئيس الوزراء السابق، وزعيم الحركة الخضراء المعارِضة، مير حسين موسوي، تصريحات داعمة للانتفاضة الشعبية، ودعا قوات الجيش إلى الوقوف في صف الحقيقة والشعب، وكذلك فعل عدد من السياسيين والمشاهير وتم اعتقال بعضهم ومن أشهرهم فائزة نجلة الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني.
وشل إضراب عام عدة مدن إيرانية احتجاجاً على القمع الوحشي للتظاهرات، في مشهد يُذكرنا بفترة الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه منذ أكثر من أربعة عقود، حين اتحدت الشعوب الإيرانية على مطلب رحيل النظام وتحركت بشكل جماعي لإسقاطه وتم لها ما أرادت.
واليوم رغم تفاوت مشاركة المجموعات العرقية داخل إيران في الموجة الاحتجاجية الحالية إلا أن اتساع دائرة العنف وتطاير شظاياه في أنحاء البلاد، وظهور تصدعات في بنية النظام قد يشجع بعض المجموعات المترددة في إعلان الانحياز الصارم إلى صفوف الثوار، خاصةً مع توحد أغلبية السكان على اختلاف أعراقهم على رفض السياسات الداخلية والخارجية للنظام، وهو عنوان يُجمع ولا يُفرق فلا يرتبط بجنس ولا طائفة معينة، بل يصلح كشعار لكل الشعوب غير الفارسية وحتى الفرس أيضاً للثورة على النظام.
ومن المرجح أن تنجح الاحتجاجات الشعبية في إسقاط النظام بشرط التنسيق بين كل المكونات والمدن المختلفة وتوحيد خطة التحرك؛ فمع تهاوي القوات الحكومية في منطقة تلجأ إلى طلب المدد من مناطق أخرى لكن إذا تحركت المناطق كلها في وقت واحد فسيصعب على النظام قمع الجميع معاً في ظل الانقسامات التي تعصف بالمؤسسة الأمنية في مسألة قمع الاحتجاجات، وتخبط النظام وعدم قدرته على تبني رواية واحدة مقنعة حيال هذه الأحداث.