الكرملين أمام مأزق..أين يسير به بوتين؟
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ، لم أستمع إلى خطاب يعكس تصوير جورج أورويل للسلطوية مثل الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليعلن فيه أن أربع مناطق أوكرانية قد أصبحت الآن روسيا. ومثلما كان من المفترض أن تنقذ الشيوعية البشرية من الاستغلال الإمبريالي، يبدو أن روسيا الآن مسؤولة عن الدفاع عن حق البلدان في عدم التعرض لـ “استعمار جديد” من شأنه أن يحولها إلى دول تابعة للغرب علمًا أنه في روسيا بوتين فإن الحرب هي السلام والعبودية هي حرية والجهل قوة وضم أراضي دولة ذات سيادة بشكل غير قانوني هو عبارة عن محاربة للاستعمار.
يعتقد بوتين إنه يصحح ظلمًا تاريخيًا حيث أن المناطق التي تم ضمها – دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزابوريزهزيا – كانت ذات يوم جزءًا من نوفوروسيا (روسيا الجديدة) التي ضمتها كاترين العظيمة إلى الإمبراطورية الروسية، كما أنه يقف في وجه الغرب – وخاصة الولايات المتحدة والتي استنفذت موارد روسيا وأملت عليها أفعالها منذ الحرب الباردة – نيابة عن بقية العالم.
أنا أحب الخطب الدعائية الجيدة. فلقد قمت بتدريس هذا الموضوع لسنوات ولكن أن يأتي الخطاب من زعيم بلد رسّخ نفسه كمركز لامبراطوريتين مع وجود دول أخرى تابعة له فإن هذا يعني ان طرح بوتين فخم جدًا لدرجة أنه يفتقر للإقناع.
ومثل خطب القادة السوفييت إبان الحرب الباردة فإن خطاب بوتين لم يحتوي على أي إشارة للتوصل لتسوية ولكن حزم بوتين يفوق في بعض النواحي ما كان يتمتع به أسلافه السوفييت علمًا أنه مستوحى من بطله الفكري، الفيلسوف الروسي إيفان إيليين.
إن من المؤكد أن إيليين كان يكره الشيوعية وفي واقع الأمر أشاد ايليين بأدولف هتلر لإنقاذه أوروبا من الخطر الأحمر، وعندما هاجر إلى سويسرا قبل الحرب العالمية الثانية كان يُعتقد أنه عميل لوزير الدعاية النازي جوزيف جوبلز.
لكن من غير المجدي البحث عن منطق في الخليط البائس من الأبطال والرموز الروسية التي يقدمها لنا بوتين وعليه وبينما يعكس بوتين إيمان إيليين بتفوق روسيا، فإنه يقارن القادة الغربيين الذين “يكذبون” بشأن روسيا بجوبلز ويبرر “عمليته العسكرية الخاصة” في أوكرانيا بأنها ضرورية لتخليصها من النازية (مع وجود رئيسها اليهودي).
على الرغم من عبثية خطاب بوتين، إلا أنه لم يكن هناك أي شي مفاجئ بشأنه ففي الأسابيع الأخيرة عانت روسيا من سلسلة من الهزائم العسكرية في شمال شرق أوكرانيا.
إن الظهور بمظهر الضعف غير مقبول بالنسبة لبوتين حيث يقوم بتعويض ذلك من خلال تقديم طرح أكثر عدائية على نحو متزايد وكلما كان واضحًا أن روسيا تخسر، كلما أعلن بوتين وبشكل أكثر قوة أنها ليست كذلك.
إن هذه هي “مفارقة الاستبداد”: فكلما تزداد الدولة ضعفًا، كلما تزيد من حرمانها للناس من الحريات الأساسية. إن مجرد مشاركة قصة عن الحرب لا تعكس طرح الكرملين تعتبر بمثابة “نشر أخبار كاذبة”، يُعاقب عليها منذ مارس بغرامات أو حتى أحكام بالسجن. لا يمكن لمثل هذه الدولة أن تحل المشاكل الأساسية التي تواجه البلاد. كل ما يمكنها فعله هو التشكيك بالبدائل المحتملة وسحق أي معارضة.
لكن ليس كل الروس يصدقون طرح بوتين فمنذ إعلانه عن ” الحشد الجزئي” للقوات المسلحة الروسية بتاريخ 21 سبتمبر، هرب حوالي 200 ألف شخص -وربما أعداد أكثر بكثير- للدول المجاورة. ان هولاء الروس يفضلون النوم على أرضية أحد المجمعات التجارية في الاستانه على القتال في حرب بوتين بأوكرانيا. هل سيثير ذلك تصعيدا آخر من بوتين؟ هل ستخضع روسيا قريبا للأحكام العرفية؟
هل الدائرة المقربة من بوتين راضية على التطورات الأخيرة؟
لا يبدو أن الدائرة المقربة من بوتين راضية عن التطورات الأخيرة، فبينما يؤكد هولاء مرارًا وتكرارًا على تأييدهم لطرح الكرملين، جلس الجمهور في خطاب الضم – بما في ذلك الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف، والمتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، وسكرتير مجلس الأمن نيكولاي باتروشيف – وهم متجهمين وكان تصفيقهم فاترًا. يدرك هولاء مثل القادة الشيوعيين السوفييت أنه يتوجب عليهم أن يظلوا منضبطين ومطيعين. إن هذا هو عرض بوتين المسرحي وأي اقتراح بأن ملابس الإمبراطور قد لا تكون كلها هناك يمكن أن يؤدي إلى اتهامات جنائية – أو حتى الموت المبكر.
يشير هذا إلى جانب آخر من مفارقة الاستبداد الروسية. إن وضع كل السلطات في أيدي شخص واحد يضعف الحكم وذلك من خلال السماح بتنفيذ سياسات غير فعالة أو حتى سياسات تؤدي إلى نتائج عكسية بالإضافة الى تعطيل جميع الآليات لتصحيح المسار. إن تحدي القائد – من خلال تحديد أخطاء السياسة على سبيل المثال – يعني المخاطرة بكل شيء.
إن من غير المرجح أن أي من مستشاري بوتين سوف يخبره بأن الحرب في أوكرانيا تشكل كارثة استراتيجية بالنسبة لروسيا. لن يذكروا أنه قد فشل بالفعل في تحقيق هدفه الأصلي: الزحف إلى كييف وإعادة توحيد “الأراضي الروسية” كما لن يوضّحوا أن المجتمع الدولي لن يعترف أبدًا بمطالبه الإقليمية الأخيرة. إن هذه هي الحقيقة التي يأمل بوتين في اخفاءها من خلال التهديد النووي.
سوف ترغب القيادة الروسية في يوم ما بإصلاح العلاقات مع بقية العالم لأسباب ليس أقلها الاقتصاد حيث سوف تشكل هذه الأراضي التي تم ضمها بشكل غير قانوني حاجزًا كبيرًا أمام تحقيق أي تقدم. إن هناك قلة من البلدان تتخلى عن الأراضي طواعية وسيكون هناك دائمًا أناس في روسيا – أتباع إيليين أو بوتين نفسه – على استعداد لتوجيه اتهامات بالخيانة إذا تخلى زعيم ما عن دونباس أو خيرسون، ناهيك عن شبه جزيرة القرم.
يريد بوتين أن يتذكره التاريخ كمدافع عن روسيا وربما على ضوء ذلك سوف يجد نفسه في كتب التاريخ ولكن مثلما يهرب الكثير من الروس اليوم من حربه في أوكرانيا، فإن من غير المرجح أن يرحب القادة الروس المستقبليون بإرثه الإمبريالي وجميع المشاكل التي يخلفها ذلك الإرث.
Copyright: Project Syndicate, 2022.
www.project-syndicate.org