أُجبر على نقل الجثث وحفظ القصائد.. عازف ساكسفون أوكراني عاد من روسيا يروي قصص التعذيب
عندما التحق يوري ميركوتان بالحرس الوطني الأوكراني عام 2020، لم يكن بسبب رغبته في القتال، بل كانت فرصة له كعازف ساكسفون لممارسة الموسيقى بشكل احترافي عبر الانضمام للفرقة الموسيقية الملحقة بلواء الحرس الوطني المكونة من 16 شخصاً والتي شغر مقعد فيها.
لكن عندما قامت قوات روسيا بحصار ماريوبول الساحلية الجنوبية، في فبراير/شباط 2022، تم استدعاء أعضاء الفرقة إلى الخدمة. وانتهى بهم الأمر داخل أزوفستال، المصنع المترامي الأطراف الذي أصبح المعقل الأخير للدفاع الأوكراني مع وصول الاحتلال الروسي إلى نهايته الكئيبة.
عندما ألقت القوات الأوكرانية في أزوفستال أسلحتها في مايو 2022، كان ميركوتان وموسيقيون آخرون من بين أكثر من 2000 أوكراني تم أسرهم في روسيا.
وعلى مدار 20 شهرًا في السجون الروسية، فَقَد ميركوتان ما يقرب من 60 كيلوغرامًا من وزنه، وتعرض لروتين مروع من العذاب الجسدي والنفسي.
موسيقيون لقوا حتفهم وآخرون أُسروا
تم إطلاق سراحه في يناير/كانون الثاني من هذا العام، لكن قصة الفترة التي قضاها في الأسر الروسية تسلط الضوء على الظروف القاتمة التي يواجهها آلاف الأوكرانيين الذين أسرتهم روسيا على مدى العامين الماضيين. كما أنه بمثابة تذكير بأن 23 موسيقيًا، من ثلاث فرق ماريوبول، ما زالوا في الأسر الروسي، مع اقتراب الذكرى السنوية الثانية للاستيلاء الروسي على المدينة الأسبوع المقبل.
قال ميركوتان، خلال مقابلة صحافية: “حاولت أن أشرح أنني موسيقي لكن الأمر لم ينجح، أنت تقول أنك موسيقي، وهذا يزعجهم كثيرًا فيضربونك أكثر ويتهمونك بالكذب”.
قبل قرار فلاديمير بوتين بشن غزو واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير 2022، عزفت أوركسترا الحرس الوطني التابعة لميركوتان المكونة من 16 شخصًا مسيرات احتفالية في العروض العسكرية، وقامت بجولة في منطقة دونيتسك لتقديم حفلات موسيقية لأغاني شعبية في المناسبات العامة أو دور المسنين.
وبعد بدء الأعمال العدائية، تم تكليف الموسيقيين بجلب المواد الغذائية والإمدادات إلى أجزاء أخرى من الحرس الوطني المتمركزة في منطقة أزوفستال الشاسعة. لقد كانت مهمة خطيرة. قُتل عازف الطبول في الفرقة في غارة جوية داخل أزوفستال. وأصيب عازف الترومبون، وهو أيضًا صهر ميركوتان.
وفي نهاية المطاف، انتهى الأمر بعشرة موسيقيين من الفرقة في الأسر الروسية.
عذاب نفسي وجسدي
خلال الأشهر الأولى، تم احتجازهم في الغالب في ثكنات مزدحمة في بلدة أولينيفكا، في شرق أوكرانيا التي تحتلها روسيا. كانت مياه الشرب تأتي مباشرة من النهر للأسرى، وكان تم تقديم الطعام ساخنًا جدًا مع فترة سماح لأكلها تكون بضع دقائق فقط، مما يجبر السجناء الجائعين إما على حرق أفواههم أو الامتناع عن الأكل.
وفي أحد الأيام الحارة من صيف عام 2022، تم استدعاء ميركوتان وتم وضعه على متن حافلة مع سجناء آخرين. “لم نكن نعرف إلى أين يأخذوننا”، بحسب قوله. وأضاف: “جاء ثلاثة رجال مسلحين وكانوا عدوانيين، وصرخوا علينا قائلين إننا حثالة، وإذا قمنا بأي خطوة فسوف يقتلوننا”. وتبين أن ميركوتان كان من بين 60 رجلاً تم اختيارهم للقيام بمهمة لا يحسدون عليها، وهي استخراج جثث أولئك الذين لقوا حتفهم في القصف والغارات الجوية في ماريوبول، ودُفنوا في مقابر مؤقتة. ولمدة شهر، كان يُنقل يومياً بالسيارة إلى المدينة المحتلة ويُجبر على الحفر تحت تهديد السلاح.
وروى الموسيقي ما جرى بالقول: “قام فريقي باستخراج 200 جثة على الأقل. كان شهر أغسطس حارًا والرائحة كريهة. والمثير للدهشة أن أحداً لم يتقيأ. أعتقد أن الضغط كان شديدًا، ولكننا جميعًا أصيبنا بإسهال رهيب. وفي اليوم الرابع، توقفت عن الأكل لأنه بمجرد أن تأكل كان عليك الركض إلى المرحاض.”
وفي بداية أكتوبر/تشرين الأول، تم تعصيب عينيه ووضعه في شاحنة السجن. وبعد ساعات من القيادة على طرق وعرة، تم دفعه إلى الطائرة، وهي المرة الأولى في حياته التي يستقل فيها رحلة جوية. وعلى الرغم من أنه ظل معصوب العينين ومقيد اليدين، فقد افترض أن الحركة تعني أنه سيتم تبادله. وبدلاً من ذلك، وبعد الهبوط وركوب شاحنة أخرى، أبلغه نباح الكلاب والصراخ الروسي الخشن بأنه عاد إلى السجن. وفي وقت لاحق فقط، من خلال طوابع الحبر على ملاءات السرير، اكتشف الموقع: بوريسوغليبسك، في منطقة فورونيج الروسية.
إن الإذلال الذي تعرض له في السجن الروسي، جعل ميركوتان يفتقد الظروف السائدة في أوكرانيا المحتلة. وفي بوريسوغليبسك، مُنع السجناء من الجلوس أو الاستلقاء بين الساعة 6 صباحًا و10 مساءً، عندما أُجبروا على الوقوف في زنازينهم. أصيب العديد منهم بإصابات خطيرة في الساق. في هذا الوقت، كان نظام مكبرات الصوت يقوم بتشغيل نفس البرامج الإذاعية القليلة المسجلة حول النازيين الأوكرانيين مرارًا وتكرارًا.
وكان على النزلاء أن يتجمعوا مرتين في اليوم في الممر، ووجوههم مستندة إلى الحائط، وأرجلهم متباعدة بقدر ما يستطيعون. حيث يتعرضون للاعتداء من قبل الحراس الذين يضربونهم بالهراوات المطاطية، ويستخدمون في بعض الأحيان الصدمات الكهربائية المحمولة باليد.
“كانوا يضربونك حتى تصاب بكدمات كبيرة، ثم يضربونك على هذه الكدمات بالذات… كانت هناك أوقات كانوا يضربوننا فيها كثيراً، أتذكر أنني كنت أبحث حولي عن قطع من الزجاج لأقطع بها عروقي. لا يمكنك الصمود كل هذه المدة لعدة أشهر دون أن تبدأ بالجنون”، بحسب يوري ميركوتان.
وخلال طقوس الضرب اليومية، أُجبر الرجال على قراءة قصائد يطلبون فيها المغفرة من “الروس الأشقاء” بسبب أساليب أوكرانيا الضالة. وكان عليهم أن يحفظوا القصائد، وكانوا يتعرضون للضرب بقوة أكبر إذا نسوا أبياتًا أو إذا رأى الحراس أنهم لا يتعاطفون معها بشكل كافٍ.
العودة إلى الديار
بعد بضعة أشهر من الأسر، تم نقل ميركوتان إلى سجن آخر في نفس المدينة، حيث كانت الظروف أفضل قليلاً وسمح للرجال بالجلوس. ثم، في يناير/كانون الثاني من هذا العام، قيل له إنه سيتم تبادله. وتم عصب عينيه مرة أخرى وتم وضعه في حافلة كانت تسير في ما افترض أنه اتجاه الحدود مع أوكرانيا. لكن بعد بضع ساعات توقفت الحافلة ثم عادت أدراجها. وعندما توقفوا في وقت لاحق، بدأ أحد الحراس الروس بلكمه بشدة، مما أدى إلى كسر فكه في مكانين.
واكتشف لاحقاً أن عملية التبادل قد ألغيت بعد أن أسقط صاروخ أوكراني طائرة نقل زعمت روسيا أنها كانت تقل عشرات السجناء الذين كان من المقرر تبادلهم. لا يزال الكثير حول الحادث غامضًا ومحط جدل. وبعد أسبوع، تم نقله من السجن مرة أخرى، وهذه المرة تمت عملية التبادل، وكان ميركوتان واحدًا من حوالي 200 أوكراني عادوا إلى ديارهم.
عند عودته إلى أوكرانيا، خضع ميركوتان لعملية جراحية لإصلاح فكه ودخل في برنامج إعادة تأهيل لمدة أسابيع. وكان وزنه قد تقلص من 130 كيلوغراماً قبل الحرب إلى 73 كيلوغراماً وقت تبادله. وفي الوقت الحالي، بات يتمتع بحالة نفسية أفضل من العديد من السجناء العائدين، على الرغم من اعترافه بأنه لا يزال من الممكن أن يكون لديه ردود أفعال غير متوقعة تجاه العبارات أو المواقف التي تثير ذكريات الفترة التي قضاها في روسيا.
وقال: “كنت على وشك الإصابة بنوبة قلبية في المستشفى مؤخراً عندما بدأوا بربط الأسلاك بي”، موضحاً أن الاختبار الطبي غير المؤلم أعاد لي ذكريات تعرضي للصعق بالكهرباء.