أصبحت مدينة كوبلنز في ألمانيا مقصداً لطالبي العدالة في العالم، بعد أن سمحت ألمانيا عام 2002 للمحاكم بمحاكمة الأشخاص على جرائم خطيرة، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، حتى لو ارتكبت في مكان آخر على مبدأ “الولاية القضائية العالمية”.
المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز حققت سابقة في تاريخ سوريا الحديث حين أصدرت، في 24 فبراير\ شباط هذا العام، حكماً بالسجن 4 سنوات ونصف السنة بحق الضابط السابق في مخابرات النظام السوري إياد الغريب، أحد المتهمين الاثنين، في قضايا تعذيب منسوبة للنظام السوري.
ويُعدّ هذا الحكم، الأول من نوعه تُجاه إحدى الشخصيات الأمنية المسؤولة بصورة مباشرة عن عمليات تعذيب في أقبية الموت لدى أجهزة النظام الأمنية.
في الحلقة الثالثة من برنامج “بالعين المجردة“ وبعد مضي عام على هذه المحاكمة التي ما زالت مستمرة، ننفرد بإجراء مقابلات مع شاهدين ومدعين اثنين في المحكمة تعرضا لأقسى درجات التعذيب خلال اعتقالهما في “الفرع 251” التابع لأجهزة المخابرات السورية، والمعروف باسم “فرع الخطيب”، ذائع الصيت بجرائمة في سوريا.
إذاً ما هي طبيعة الشهادات التي قدمها المدعون في المحكمة؟ ماذا حدث مع الشهود خلال فترة اعتقالهم؟ كيف كنت ظروفهم؟ ماهي التوقعات من المحكمة؟ ما مصير الجلسات المتبقية من المحاكمة؟ هل ستضاف أسماء جديدة إلى قائمة محكمة كوبلنز؟
محاكمة الغريب ورسلان ليست سوى البداية
تستمر جلسات المحاكمة حتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر هذا العام لمحاكمة العقيد “أنور رسلان” الضابط السابق في “فرع الخطيب”، ومُتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في قتل 58 شخصاً وتعذيب 4 آلاف معتقل.
ولايزال الشهود والمدعون يدلون بشهاداتهم حول الفظائع التي عايشوها إبّان اعتقالهم في “فرع الخطيب”عامي 2011 و 2012 حينما كان المتهم رئيساً لقسم التحقيق في الفرع ذاته.
المدعية بالحق المدني في القضية، نوران الغميان في حديثها لـــ ” بالعين المجردة” قالت: إنها تتمنى أن يتم تحقيق العدالة من خلال هذه المحكمة بعد مرور 10 سنوات على ثورة السورييين، لاسيما أن المحكمة أدانت الضابط السابق في استخبارات النظام السوري “إياد الغريب” بتهمة المشاركة في اعتقال 30 متظاهراً على الأقل، في مدينة دوما في الغوطة الشرقية بريف دمشق، في أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2011 ونقلهم إلى “فرع الخطيب”.
وكان الغريب قد خدمَ كصفّ ضابط “مساعد أول” تحت إمرة حافظ مخلوف ابن خال بشار الأسد، وبقي في سوريا حتى عام 2013 حيث غادرها، ليصل ألمانيا في نيسان/أبريل 2018 بعد رحلة طويلة في تركيا واليونان.
يعتقد الكثيرون أن هذا الحكم يُعد سابقة في تاريخ سوريا الحديث، إلا أنه لم يكن بالحكم القاسي أمام التهم الموجهة للغريب، ويعتبر الأخير المسؤول الأدنى رتبة في القضية بعد المتهم أنور رسلان.
وكان المدعي الفيدرالي للمحكمة أكد أن المحاكمة في كوبلنز “ليست سوى البداية”، وسيتبع ذلك مزيد من المحاكمات على الجرائم في سوريا.
اعتقال بدون سبب وتعذيب مستمر على مدار الساعة
ما تزال علامات التعذيب الوحشي ظاهرة على جسد نهاد، مدعي بالحق المدني في القضية، إذ أنه تعرض للتعذيب بكافة الوسائل خلال فترة اعتقاله بــ”فرع الخطيب” على الرغم من اعتقاله دون سبب.
يستذكر نهاد لحظات اعتقاله ويقول: “لم أعُبّر عن موقفٍ واضح إن كان مؤيد ومعارض للنظام حيث كنت أسكن في منطقة عسكرية، وعلى الرغم من ذلك جاء عدد من عناصر الأمن إلى مقر عملي بعد إغلاقهم للشارع، وقاموا بضربنا واعتقالنا وأخذنا إلى” فرع الخطيب”.
في “فرع الخطيب” الذي كانت من مهامه ملاحقة واعتقال ناشطي الثورة السورية، تعرض نهاد لأقسى عمليات التعذيب دون أي تحقيق، ويقول: “الاعتقال ليس للتحقيق إنما للتعذيب! هم يعلمون أن المعتقلين لن يقولوا شيء أو ليس لديهم ما يقولونه، سألوني ماذا كنت أفعل بدمشق وأنا فعلياً لم أزر دمشق مسبقاً ولم أكن هناك بتاتاً”.
تمارس أجهزة المخابرات السورية التعذيب الممنهج بحق المعتقلين من أجل إجبارهم على كتابة اعترافات تدينهم من ناحية التعامل مع “جهات خارجية” والعمل على “زعزعة استقرار البلاد وارتكاب الخيانة العظمى ووهن شعور الأمة”، أي اعترافات تتناسب ورواية النظام السوري بوجود “مؤامرة كونية” تستهدفه.
تصف الغميان السجّانين في “فرع الخطيب” بالوحوش وتقول: إن هذا الفرع لا يشبه أي فرع آخر؛ فأصوات التعذيب تستمر على مدار الساعة وتضيف: “اعتقولوني من قلب اعتصام في منطقة الطلياني بدمشق كان هدفه التنديد بمجزرة الحولة، استمر التحقيق معي لــ 10 ساعات، هم يعملون على إضعاف عزيمة المعتقلين بشتى الوسائل، حيث وضعوني أنا ووالداتي بزنزانتين منفردتين لكل منا، من أجل أن نصل إلى مرحلة الانهيار”.
في الزنزانة التي تواجد فيها نهاد والتي لا تتجاوز مساحتها أكثر من 3 أمتار بمترين كانت تضم أكثر من 400 معتقل، يجلسون وينامون فوق بعضهم البعض، أصوات التعذيب التي كانت تصل لمسامع المعتقلين وصفها نهاد بالرعب الحقيقي قائلاً: “كنت أتمنى أن تنشق الأرض وتبلعني”.
مشفى حولته المخابرات السورية إلى “مقبرة”
قبل الثورة كانت الغاية الأساسية للتعذيب في سوريا انتزاع المعلومات من المعتقلين، إلا أنها بعد أذار / مارس 2011 أصبحت عملية إذلال ممنهج للشعب السوري كي لا يجرؤ أحد على التظاهر أو المطالبة بحقوقه، ومع استمرار نظام الأسد بالحكم في سوريا ما زال الكثير من الضحايا وذويهم يتطلع إلى محاسبة من ارتكب الانتهاكاتِ بحقهم أمام العدالة.
ما جرى مع نهاد، ليس سيناريو لفيلم رعب هوليودي، إنما حقيقة ما زالت آثارها على جسده، تعرّض نهاد لشتّى وسائل التعذيب والضرب في “فرع الخطيب”، وعندما بدء جسده ينزف دماً بشكلٍ متواصل مع انبعاث روائح كريهة منه، تم نقله إلى مشفى.
نهاد وصف المشفى بــ “المقبرة”، حيث يستمر التعذيب لساعات عوضاً عن الرعاية والعناية الطبية، لينتهي الأمر بالموت!.
يقول نهاد: “وصلنا ذلك المشفى ونحن في حالة يرثى لها، لم يبقى قطعة من جسدي لم تنل الضرب والأذية، ومع ذلك قاموا في المشفى بضربنا بجنازير، حيث وضعوا سكاكين حادة في نهايتها، كانت تنخر أجسادنا ويخرج الجلد حين ضربنا بها، قاموا أيضاً بربط يدي وقدمي ووضعي بما يسموه “الدولاب” وقاموا برفعي بشكل عكسي، قدمي المربوطة إلى الأعلى، ورأسي للأسفل، لقد تفننوا بتعذيبنا”.
ولاعتقادهم بأنه توفي، قاموا برمي جثته على قارعة الطريق، حينها لم يستطع نهاد أن يتحرك أو يقوم قائلاً: “تجمعت الحشرات على جسدي؛ بسبب الدم ورائحته الكريهة، وبسبب ضعفي لم أستطع تحريك يدي لإبعادها عني”.
وشاءت الأقدار أن ينقذه شخص عابر طريق، حينما انتبه وشعر أنه على قيد الحياة، ليصبح نهاد لاحقاً شاهداً في محاكمة تحاكم جلاديه الذين اعتقدوا أنهم فرّوا من العدالة بلجوئهم إلى ألمانيا.
تحقيق العدالة من أجل الجميع
تعد الولاية القضائية، التي تم إقرارها في محاكم ألمانيا، إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع وقوع انتهاكات القانون الدولي الإنساني، والمعاقبة عليها في حال ارتكابها من خلال فرض العقوبات الجنائية.
وتنص اتفاقيات جنيف لعام 1949 على أن الدول الأطراف ملزمة بتعقُّب المشتبه في ارتكابهم مخالفات جسيمة “جرائم حرب”، بغض النظر عن جنسياتهم ومكان ارتكاب الجريمة المزعومة، وتقديمهم إلى محاكمها أو تسليمهم إلى دولة أخرى طرف في الاتفاقيات لمحاكمتهم.
وتستمر جلسات محاكمة “أنور رسلان” في محكمة كوبلنز، مع وجود ما لا يقل عن 27 مُدَّعياً بالحق المدني ضده من بينهم ضيفنا في برنامج “بالعين المجردة”، إذ توجد أدلة مكتوبة وهي عبارة عن أوامر إدارية عُرضت في إحدى الجلسات وتحمل توقيع رسلان، بالإضافة إلى ضم ملفه على 4000 حالة اعتقال وتعذيب، و58 حالة قتل تحت التعذيب، وحالتا إدعاء بجريمتي عنف جنسي.
وحول مجريات الجلسات والتوقعات منها، يقول نهاد: “عندما أتواجد في الجلسات، أشعر بأنني محاط بأشخاص صادقين ويريدون المساعدة وتحقيق العدالة، أتمنى أن أحصل على حقي وحق غيري ممن ظلموا وتعرضوا لأبشع أنواع التعذيب”.
ويضيف: “حتى لو لم نصل إلى نتيجة، فأن صوتنا فعلياً وصل وممكن الشخص الذي قمنا بالشكوى ضده، يشعر بتأنيب الضمير”.
من جانبها، تقول الغميان إن المحاكمة هامة جدا في تحقيق العدالة في القضية السورية، متمنية نجاعها في ذلك.
وعلى الرغم من وجود شاهدينا في بلد آمن وانعقاد جلسات محاكمة جلاديهما، فإن الآثار النفسية لاعتقالهما ما زالت كبيرة، تقول الغميان: “هناك شعور يلازمني دائماً بأنني مهددة بالخطر، لا أعرف ما هو وماهيته، لقد أصبح جزءاً من شخصيتي”.
أما نهاد فهو دائماً يستذكر حادثة وقعت معه في المعتقل ولا ينساها، ويقول: “قال لي شخص من السجّانين أنه يريد مساعدتي ويحبني ويدعمني، وإذ به يقوم بضربي ضرباً مبرحاً لا أنساه حتى اليوم، كأنني هابط من السماء إلى الأرض عبر المنطاد، لا أنسى هذه الحادثة”، ويؤكد أن آثار التعذيب الجسدية لن تزول من جسده، واصفاً إياها بوسام الشرف.
وكانت النيابة في بيان لها بعد صدور الحكم بحق الغريب قالت إن ألمانيا تجري هذه المحاكمة على جرائم ضد الإنسانية لمصلحة المجتمع الدولي الذي يجب ألا يسمح بالتعذيب من دون عقاب، وإن ألمانيا لا يمكن أن تكون ملاذاً للأشخاص الذين ارتكبوا جرائم بموجب القانون الدولي.
فهل تكون هذه المحاكمة بداية منعطف جديد على طريق العدالة التي كاد السوريون يفقدون أملهم فيها؟
يمكنكم متابعة الحلقة الثالثة من “بالعين المجردة” عبر الرابط التالي: